الأقصى وأنفاق غزة.. هل يذكراننا اليوم بقابيل
وهابيل؟
بقلم: محمد حسني عوده
تمر علينا الأيام والسنون تائهين ملتهين في رغد العيش وزينة
شهوات الحياة الدنيا، فإذا بأحداث تقع، تجعل ذوي الألباب يتفكرون فيمن حولهم ويرجعون
أبصارهم كرات، لا ليتكرر لهم انقلاب أبصارهم إليهم خاسئة وهي حسيرة، بعدما نظروا في
خلق الله سبع سماوات طباقا، ولكن لترشدهم قلوبهم قبل أبصارهم إلى أشد الأمراض فتكا
بالإنسانية جمعاء. تلك هي قلوبهم اليقظة التي لم تعم أبصارها كما عميت قلوب من اتخذوا
آلهتهم هواهم، فضلوا، وألقى بهم ضلالهم في أسفل سافلين.
ماذا يمكنك أن تتخيل من بقاء لقيم الإنسانية، عندما ترى الإنسان
تُهان كرامته في نفسه وأهله ودينه ومقدساته؟
لقد تقررت كرامة الإنسان من عند خالقه منذ بدء الخليقة، مهما
امتد الزمان واتسعت رقعة المكان.
تقررت تلك الكرامة قبل أن تأتي المبادئ التي تنادي بها هيئة
الأمم المتحدة، ولكنها معطلة في إحقاق الحق لأهله، وأكبر شاهد على ذلك قرارات الأمم
المتحدة الخاصة بقضية شعب شرد وجرد من أرضه التي أعطيت للمغتصب، أعطيت من الذي لا يملك
حق الأخذ والعطاء، إلى من لا حق لهم فيما قدم إليهم، من اغتصاب لأرض لقوم هم أهلها
ولأمة مسلمة هي صاحبة إرثها.
اليوم وبالأمس، تتجدد لعبة إهدار كرامة الإنسان بطرق مميزة
عما سبق، لا إقلالا من شأن ما سبق من جرائم ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني في كرامته وفي
نزعه من أرضه وحاكورته وعن زيته وزيتونة، وهو يحتضن معراج رسول الهدى -عليه أفضل الصلاة
والتسليم- وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
اليوم وبالأمس، اشتدت وتشتد المرارة في قلوبنا ونحن يُنال
من كرامتنا في عقيدتنا التي يُعدّ المسجد الأقصى الشريف جزءا منها.
لا شك أن الإنسانية جمعاء في خطر سحيق تهوي إليه، فقد ازداد
الطغيان والعدوان، وسلب الحقوق، والسطو على كرامة الإنسان، فما فَتِئَ المغتصب لأرض
أو حكم أو كليهما، يزداد خطورة في القمع والشر والدمار. كل ذلك ومجلس الأمن الدولي
"قلق" على ما يجري عندما يختص الأمر بفلسطين والأقصى.
نتساءل اليوم: هل في ما يجرى لأقصانا من إزهاق لإنسانه في
كرامته وفي أرضه الشريفة ما يذكرنا بحدث تاريخي عظيم؟
ونتساءل أيضا: هل دَفعُ تلك المرأة الفلسطينية (التي هي أُمنا
وأختنا وكريمتنا) وهي تذود عن أحد مداخل المسجد الأقصى، بيد وسلاح ذلك الوغد المرتزقة
الصهيوني، ووقوعها على الأرض، يذكرنا بذلك الحدث الذي أُهدرت فيه كرامة الإنسان، وحقه
في الحياة كريما عزيزا أبيا في أرضه وبيته؟
ولا يمكن إلا أن نتساءل، ولكن بمرارة ظلم ذوي القربى في حصار
أهل غزة العزة، حصارا بريا وبحريا وجويا، فيُمعِنُون في إهدار كرامتهم وأمنهم وأمانهم
ومسكنهم، وتجويعهم، وتركهم يموتون بسبب نقص الدواء للمرضى بجميع فئاتهم العمرية، والمساهمة
في تدمير البنية التحية لغزة الأبية، ومن والوقود والكهرباء والماء والمواصلات.
كنا قد سمعنا من قبل تحذير سلطة المياه الفلسطينية في غزة،
والطلب من المنظمات الدولية والأممية المساعدة في وقف وإلغاء بناء برك المياه، التي
تقام على الحدود الجنوبية لمدينة رفح، حيث خطورة ذلك على مخزون المياه الجوفية الفلسطينية.
لم يأت ذلك التحذير بشيء!!!
اليوم سمعنا عن النتيجة، ورأينا ذلك المجرى المائي العظيم،
الذي نتج عن إغراق حدود غزة الأبية بمياه البحر، ليزداد حصار غزة وأهلها، وتدمير شريان
من شرايين حياتها عبر الأنفاق، فلا تستطيع تدبير حياتها في ظل حصار كلي، وتدمير لأبسط
حقوق الإنسان.
نتساءل: ألا يذكرنا ذلك بحدث تاريخي عظيم وقع مع بداية الوجود
الإنساني على هذه المعمورة؟
ألا يذكرنا ذلك بواقعة "قابيل وهابيل"، ابني آدم
عليه السلام؟
لقد جاءت قصة قابيل وهابيل في سورة المائدة، بعد الحديث عما
فعله قوم موسى عليه السلام بنبيهم، وعدم طاعته ومخالفة أمره وأوامره، بقول لا يمكن
أن يقال لنبي: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدا مَّا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24)).
وكأننا نفهم من تلك الآية أنهم في فعلهم هذا مع نبيهم، إنما هم يسلكون مسلك قابيل في
ظلمه لأخيه هابيل، والمضي قُدما في سحقه وقتله وعدم قبوله شقيقا يعيش على هذه المعمورة.
إنه ذلك المرض والحقد الدفين، والحسد الذي سيطر على قابيل
وهو يقول لأخيه "لأقتلنك"، وفي الوقت ذاته الذي يقوم أخوه هابيل بتذكيره
والشرح له في سر قبول قربانه من رب العالمين: (إنما يتقبل الله من المتقين). لم يترك
هابيل أخاه قابيل دون الإصرار على إفهامه موطن فساد الإنسانية بعد انجرافها وراء الحيوانية،
بل قال له: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِط يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (المائدة 28).
ألا ترون يا من تنتهكون كرامة الإنسانية وإزهاق روحها، كيف
كان نهج هابيل مقابل نهج قابيل؟ ألا ترون منهج هابيل؟
ألا ترون يا من تحاصرون أهل فلسطين في غزة العزة (وكل فلسطين)،
التي دافعت عن كرامة أمتها وأرضها التي بارك الله فيه ومن حولها؟ أم أنكم في لهاثكم
وراء منهج قابيل؟
ألا ترون كيف أن هابيل لم يأل جهدا في نصح أخيه، وتذكيره
أن إهدار إنسانية الإنسان بقتله جريمة شنعاء؟
ولكن هابيل تدرج في التذكير، ولكن بأسلوب مختلف عما قبل،
محذرا له وشديد الترهيب. ذكّره مرهبا إياه، فهل يريد أن يخسر الدنيا والآخرة: (إِنِّي
أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (المائدة 29).
تلك هي نتيجة اتباع منهج "القابيلية" مقابل منهج
"الهابيلية"!!! فهل أنتم مصرون في الاستمرار على منهج القابيلية؟!
يا من تحاصرون غزة الأبية: هل تذكرون حصار كفار قريش لمحمد
عليه الصلاة والسلام وأتباعه في شعب أبي طالب؟
ألا تذكرون كيف عقدوا معاهدة مع بعضهم، تُعدّ محمدا وأتباعه،
ومن يقبل بدينه، أو من يحمي أحدا منهم، أو يعطف عليهم، كأنه حزبا واحدا ضدهم؟
لم يكفهم ذلك، بل تعاهدوا فيما بينهم ألا يبيعوهم، أو يشتروا
منهم شيئا، ولا يزوجوهم، ولا يتزوجوا منهم. كل ذلك تعاهدوا عليه، وكتبوه في صحيفة،
أي معاهدة في اصطلاح عصرنا هذا، وعلقوها في جوف الكعبة، وكأننا نشبه ذلك بالإعلان في
الصحف والمجلات والإنترنت ونتجاوز القول، وكأنها معاهدة لعصبة الأمم قبل الأمم المتحدة
في تعطيلها.
لقد كان كفار قريش في سبات ظنهم أنهم منتصرون، وأن صحيفتهم
ستدوم طويلا مع معاهدتهم، ولكن جاءهم رجال من بينهم عندهم نخوة ورجولة (وليس ذكورية)،
رجال ليسوا من أتباع محمد، وليسوا ممن حُوصِروا، رجل منهم ابتدأ بنخوة من داخله، وهو
هشام بن عمرو قائلا لرفيق له، زهير بن أبي أمية: "يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام،
وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟"، تحالفوا وثلاثة آخرون، وتظاهروا
وخاطبوا قومهم، فكانت النتيجة أن مُزقت الصحيفة، وتحطم حلف أبي جهل وأبي لهب؟
هذا يذكرني بما قاله جيرمي كوربن، الذي دافع عن مبادئ آمن
بها (ولا نزكي أحدا، بل نقول ما نعتقده عدلا) يوم إعلان فوزه بزعامة حزب العمال البريطانيين
قبل أقل من أسبوعين: "لقد سئمت الناس من الظلم وعدم المساواة في بريطانيا. إن
الإعلام والكثير منا -ببساطة- لم يفهموا وجهات نظر الشباب في دولتنا. لقد كانوا محبطين
من الكيفية التي تدار بها السياسة في بلادنا. يلزم علينا ويجب تغيير ذلك. المواجهة
العكسية تُلملِم سرعتها وتسارعها".
هذا جيرمي كوربن، الذي دافع عن فلسطين والعراق، وتكلم عن
الظلم، ولم يخش أن يخسر حملته الانتخابية.
بالطبع، لا يود أحد منا أن يكون أبا لهب، الذي نزلت به وبزوجه
سورة قرآنية كريمة، متوعدة بطرده من رحمة الله عز وجل، والحكم الأزلي عليه أنه سوف
يصلى نارا ذات لهب، وأن وزوجته حاملة وقود تلك النار ذات اللهب!!!
أتعلمون ماذا كان يصنع أبو لهب في حصاره للمسلمين؟ لقد كان
يطلب من التجار فيقول لهم: "يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد، حتى لا يدركوا
معكم شيئا، وقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن لا خسار عليكم".
إنه حصار اقتصادي من الدرجة الأولى، حتى استعر الغلاء، فلم
يستطع المسلمون توفير قوتهم ولا ملبسهم ولا من يعيلون؟
يا قومنا: أليس ما نراه اليوم من حصار لغزة الأبية، هو أعظم
من ذلك الحصار مع تكالب الأمم على قصعتنا؟ ولكن ذلك منا وفينا!!!
يا قومنا: أليس هؤلاء في جاهليتهم أكثر نخوة ورجولة؟
بالطبع، لقد كانت لهم جاهليتهم وأهواؤهم، ولكن السؤال الذي
لا بد منه: هل كانوا في إنسانيتهم وغيرتهم على ذويهم أكثر منا في يومنا هذا؟
نسأل: من يخطط للحصار، ومن يدعم الحصار، ومن ينفذ الحصار،
كل في حدود مسؤوليته واتساع دائرتها: هل تريد أن تكون في مصيرك مثل أبي لهب؟ بل هل
تريد مصير قابيل؟
لقد كان القوم في جاهليتهم وعدائهم يستعجلون، ويظنون أن النصر
لهم، غير عابئين بسنن الله في الكون ولا بيوم الحساب والجزاء؟
كانوا يقولون: (وَيَقُولُونَ مَتَى? هَ?ذَا الْوَعْدُ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ (يونس 48)، لكن من يتعظ؟!
هؤلاء القوم المشركون
ما فتئوا إلا أن رأوا الفجر ينشق، فإذا بأنوار التوحيد تملأ مكة، وقد حُطمت كل أصنامهم،
وأن من حاصروهم بالأمس هم اليوم الولاة العادلون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر،
المتعاونون على البر والتقوى، واللا متعاونون على الإثم والعدوان.
اليوم، وفي أقصانا، وفي غزة الأبية وكل فلسطين، وفي أرض الرافدين،
وفي سوريا، وفي كثير من بلادنا، وتحت سمع العالم كله، وأممه المتحدة تنتهك الإنسانية
وتبرز الحيوانية، ويطغى الحق على الباطل. هنا نتذكر قول الله عز وجل: (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ (الأنبياء 18).
لا يمكن لقابيل أن يستمر أبدا، مهما علا وتجبر؟
لكن قابيل بعد قتله لأخيه هابيل، أصابه الويل على نفسه، عندما
رأى ذلك الطائر "الغراب" أرأف، وأرحم منه، بأخيه الذي قتله بنفسه: (فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ
سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (المائدة31).
هنا نتساءل: متى للقابليين وزمرة قابيل، أن يستيقظوا من قابيليتهم؟
ونتساءل: هل يمكن لقابيل اليوم، ومؤسسات قابيل اليوم، أن
يستمروا دون أن يتذكروا ويتعلموا من ذلك الغراب، بل من قابيل الأول؟
ونتساءل: وهل من المزيد من هابيل ومنهجه، وأمة الخيرية والتعاونية
والإحسان؟
حفظ الله لنا كرامتنا، وأقصانا، وغزة الأبية، وكل فلسطين،
وبلاد الرافدين، وسوريا الرائعة، وأرض الحكمة اليمانية، وكل بلادنا.. اللهم آمين.
المصدر: العربي21