الأقصى وواقعية الواقعيين
بقلم: نبيل الفولي
حين أطلق محمود فهمي النقراشي باشا -رئيس وزراء مصر الشهير-
إبان احتدام الصراع في فلسطين بين القوى الاستعمارية والقوات الصهيونية وبين العرب
في أربعينيات القرن الماضي، عبارته: "أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين"؛
حينها كان الرجل يعبر عن مرض لعين يصيب عندنا بعض الساسة والمثقفين والمشايخ وجانبا
من جماهيرنا في اللحظات التاريخية العصيبة، ومع التحولات السياسية الكبيرة التي تمر
بنا ونمر بها؛ يفقدون معه الوعي والحس والشعور، وينخلعون به من انتمائهم التاريخي والجغرافي،
وأخشى أن أقول الديني والإنساني كذلك!
وهذا كله بعض حصاد التشويه الثقافي والفكري الذي تسلط علينا،
وبعض ثمرات الانحراف التربوي والمعرفي الذي تعرضت له أجيال من شعوبنا في مدارس وجامعات
بلا برامج ولا مناهج أصيلة العقل والروح، وفي محاضن تربوية بلا مربين ولا مؤدبين، وفي
إذاعات وقنوات تلفزيونية بلا هدف ولا غاية إلا التلهية والتسلية والتشويه العقلي والخلقي.
وقد جاء الحصاد مُرًا، وكثيرا ما يلبس لباس الواقعية الكاذب،
فيزعم أن ما يصيب بيروت لا يهم من في الدار البيضاء ولا مقديشو، وما يعرو القدس لا
ينبغي أن يبكي له الحَرَمان، ولا تحزن له أروقة الأزهر ولا محاضر شنقيط، وما يسيل من
دم بغداد لا ينبغي أن يشغل المقيمين بسفح قاسيون ولا رحاب الزيتونة، وما يجري في رابعة
والنهضة لا علاقة له بأهل التوحيد من الهنود والبنغال والأفغان والتركستان والطاجيك.
ولهذه الواقعية العجيبة في بلادنا صور ثلاث:
الأولى: حين يزعم لك صاحبها أن الصورة التقليدية للعالَم
وتصوراته قد سقطت في بلادنا مع زحف الحداثة وولادة الدولة الحديثة فيها منذ عقود طويلة،
وأن الحدود السياسية تمثل في الوقت نفسه خريطة الانتماءات والهويات، فالليبي ليبي فقط،
والسوري سوري فحسب، والقطري قطري ليس إلا، وكذا الجزائري والتونسي والسوداني والعُماني
وغيرهم!
وقد وَلدت هذه الصورة من الواقعية في بلادنا وصفوفنا -وما
زالت- نماذج عجيبة من العمالة للعدو والعمل ضد مصالح الوطن والأمة، حتى كان هؤلاء أشد
ضررا على قضايانا في فلسطين وغيرها من العدو الصريح الذي ما اخترق حدودنا ولا استقر
في أرضنا إلا بعونهم، حتى أطلق أحد المعلقين قولته الدالة: إن دولة إسرائيل لم تستقر
في أرضنا إلا وعلى يمينها الحسن وعلى شمالها الحسين!! ولا فرق في هذا -في الحقيقة-
بين "حسين" السياسة و"حسين" الثقافة والفكر، ولا بين "حسن"
الدبلوماسية و"حسن" الإعلام والفن!
وهي صورة للواقعية تناقض نفسها؛ إذ يصمت أصحابها تماما حين
ينكل الإسرائيليون بأحرار القدس ومرابطي الأقصى، وتنطق على استحياء حين يحرق غزاة الشتات
فلسطينيين آمنين في مخادعهم ومهاد صبيانهم، وتتكلم محتجة بملء فيها حين ينطق صوت ما
يقاوم الاحتلال، أو حتى يدعو إلى مقاومته.
وسل عن هذا حكام رام الله والمقاطعة والمهللين لهم في الصحافة
والإعلام، وكيف ينكلون ويشوهون صورة المتظاهرين من سكان الضفة دفاعا عن الأقصى والقدس،
وسل عنه انقلاب مصر وإعلامه الذي يصرح بصداقة إسرائيل وعداوة الفلسطينيين والسوريين،
ويمارس الإرهاب وإغراق منافذ الحياة وأنفاقها الصعبة التي حفرها الغزيون إبقاء على
رمق للحياة، ويأتي في إعلامه بأستاذ جامعة مأفون يزعم أنه لا يجوز الدفاع عن الأقصى
حتى لا نثير حربا دينية مع إسرائيل!
وقد دحض الربيع العربي المغدور به مقولات هؤلاء ومزاعمهم
حين أثبت أن منطقتنا العربية -وشيئا ما عالم الإسلام؛ السني على الأقل- بينها من التواصل
ما يندر أن نجد له مثيلا في أي إقليم جغرافي آخر، بما في هذا دول السوق الأوروبية المشتركة
التي أزالت الحدود فيما بينها، حتى يمكننا أن نشبه منطقتنا بمجموعة من الشوارع المتجاورة؛
ما إن يصرخ صارخ في أحدها معبرا عنها بصدق إلا جاوبته بقية الجهات، برغم كل ما فعلته
الحدود السياسية والاستعمار وأبواقه الوطنية في بلادنا طوال القرنين الأخيرين.
إن إيران التي أنفقت ما أنفقت لتصدير ثورتها لم تفلح في هذا
إلا بالخداع والعمل المخابراتي الطويل والإرهاب والحرب المباشرة وبالنيابة، وأما عالمنا
العربي فما دفع أحد لأحد دينارا ولا درهما لنقل الشعلة من سيدي بوزيد إلى القاهرة فبنغازي
وطرابلس وصنعاء وعدن، ثم دمشق وحلب وحماة؛ ما دفع أحد شيئا ليحدث هذا، لكنه الانبعاث
التلقائي الذي إن عكس عمق الأزمة بين الأنظمة العربية وشعوبها، فقد عكس شيئا أخطر،
وهو أن الهوية الواحدة ما زالت تجمع هذه الأمة، وكونها ممزقة وفي حال سياسية يرثى لها
أقوى دلالة -حين يبدو منها هذا السلوك التجاوبي- على عمق الصلة بين أوصال هذا الوطن
العربي المنكوب بالاستبداد وداعميه الخارجيين.
وأما الصورة الثانية لواقعيتهم المريضة التي تطرد قضية فلسطين
والأقصى وغيرها من قضايانا خارج اهتمامها، فتبدو حين يقول لك أحدهم: إن همي يكفيني،
فأزماتي الشخصية، وأزمات وطني الصغير السياسية والاقتصادية والاجتماعية أولى بي من
أن أشغل وقتي بقضية هذا البلد أو ذاك؛ إذ كيف يترك المصري أو السوري أو اليمني أشلاءه
مبعثرة في الطرق ودماءه غرقت بها الدروب والسكك، ويلتفت إلى الأقصى أو غير الأقصى؟!
ما عندنا من وقت نمنحه قضايا جيراننا وإخواننا إلا ونحن أحوج إليه في أمورنا وشؤوننا
الخاصة، والله تعالى لا يكلف نفسا فوق طاقتها!
والمغالطة هنا تبدو في الخلط بين المفاهيم النظرية والأعمال
التطبيقية، فالمفاهيم تؤخذ جملة واحدة، وليس فيها عجز ولا عدم قدرة، وأما الأعمال فهي
محكومة بطاقة العاملين وقدرتهم، فمثلا: لا بد أن يؤمن المسلم بأن الصلاة واجبة، وكذلك
الصيام والحج وسائر الأعمال التي تكلفه الشريعة بها، وعند التطبيق تأتي قاعدة أن التكليف
على قدر الطاقة، فمن عجز عن الصلاة قائما صلى قاعدا إن استطاع، ومن لم يقدر على الحج
ولا الصيام فليس عليه منهما شيء إلى حين تتوفر له القدرة المناسبة.
وبالمثل، فإن الفهم النظري الصحيح لقضايانا، وفي مقدمتها
الأقصى والقدس وفلسطين وشقيقاتها الجديدات في العراق وسوريا ومصر واليمن، واستيعابها
على حقيقتها واجب لا يحتمل التأجيل، وأما ما يمكن أن نقدمه لها من أفعال فهو أمر يخضع
لقاعدة التكليف بما يطاق.
بل هناك قواعد أصولية وفقهية أخرى عظيمة يمكن أن تمثل ضوابط
مهمة هنا، مثل أن الأمر كلما ضاق اتسع، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن المشقة تجلب
التيسير، وغيرها من القواعد التي يجب فهمها على وجهها وتطبيقها في ظرفها، فلا يأتي
أحد مثلا ويقول إن التطبيع مع إسرائيل ضرورة، أو إنني لا أستطيع أن أدعو للأقصى لأن
لساني مشغول بالدعاء للأموي، أو لا أملك في قناتي الفضائية أن أتحدث عن القدس وسماء
القاهرة وسيناء ملبدة بغيوم التوتر، أو إن المرابطين في باحات الأقصى وساحاته قد يتسببون
في نشوب حرب دينية بيننا وبين إسرائيل!
ثم إن الواقعية تكون كلاما فارغا إن فُهمت على أنها انعزال
كل وحدة سياسية في مشكلاتها ومصالحها الخاصة، فما من كيان سياسي إلا وتتجاوز مصالحه
حدوده، وتهدده المخاطر من خارجه كما يتوقع أن تأتي من داخله.
وقد رأينا أن خطوط الأحداث الصاعدة والنازلة في بلاد الربيع
العربي قد أثر بعضها في بعض بقوة، فقد رافق صعودَ الأوضاع في مصر لصالح الثورة تقدم
ملحوظ في سوريا وليبيا، وحين وقع الانقلاب تأزمت الأوضاع في كلا البلدين. كما أن الفاعلين
الخارجيين في سوريا الآن أكثر قوة وعددا من الفاعلين الداخليين.
الصورة الثالثة لواقعيتهم: تظهر حين يقول لك واقعي هذا الزمان:
ما لكم وللأقصى والقدس، وفلسطين كلها قد وقعت في يد الغزاة اليهود منذ دهر بتوافق دولي
من كبريات دول الأرض في الشرق والغرب؟ وإن ما هو قائم في فلسطين أمر واقع ولا بد من
الرضا به والتأقلم معه.
والتسليم بالأمر الواقع هكذا عجز يتنزه عنه من له أدنى معرفة
بتجارب التاريخ وقوانين التداول بين الأمم، فكم من أمة خرجت من تحت الركام وسادت، وكم
من شعب شتتته الأيام ثم جمعته مشروعات سياسية أو دينية أو حتى اقتصادية واعدة.
ولا نتكلم هنا عن إسرائيل باعتبارها نموذجا وحيدا هنا، بل
جملة الدول التي وقعت فريسة الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية ظُن لفترة
من الزمن أنها لن تشهد عهدَ عافيةٍ وقوة أبدا، وأن هذا هو آخر سطر لها في التاريخ،
حتى انتفضت الشعوب في هذه الأقطار انتفاضات ضخمة لو كانت اكتملت من البداية بمشروعات
وطنية مخلصة ومتقنة لما شهدنا واحدا منها إلا وهو يزاحم ما يسمونه العالم الأول بالمناكب،
كما نشهد من بعضها الآن فعلا.
إن الواقعية العاقلة تعني فهم ما هو قائم، والانطلاق منه
لصناعة مستقبل أفضل. ولا تعني أبدا حبس المستقبل في صورة الحاضر، والإمساك بذيل اللحظة
حتى لا تبرح، وإلا تكلس التاريخ وتجمد عند صورة واحدة، وهذا ليس من قانون الله في تاريخ
الإنسان على الإطلاق، بل الأمر قائم على مثل قول الله تعالى: "وتلك الأيام نداولها
بين الناس"، وهو ما تنطق به صفحات التاريخ بكل قوة.
وليس هناك ما يؤكد هذه المعاني أكثر من القضية الفلسطينية
نفسها، فبعد أن استسلمت أو سقطت كل القوى العربية المقاومة لمشروع الدولة العبرية بعد
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وُلدت من رحم المعاناة الفلسطينية مقاومة لا تخشى
إسرائيل الآن على نفسها ومستقبلها إلا منها!
إنه إذن صراع بين واقعيات مريضة وآمال واقعية -وإن كانت صعبة-
يعيها بعض أبناء الأمة دون بعض، إلا أن الجراح في عالمنا لن تتوقف حتى توقظ كثيرا من
النيام في طريق تحرير الأقصى والقدس وفلسطين؛ إذ لا يمكن أن تنعم الأكثرية بنصر تصنعه
أقلية تعيش في بحر من عداوة بني جلدتها.
المصدر : الجزيرة