القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

الاستيطان والكذب على شعب فلسطين

الاستيطان والكذب على شعب فلسطين

عبد الستار قاسم

الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية سيرة لا تنتهي، وأخبارها تتواصل منذ العام 1967. إسرائيل تصادر الأراضي وتبني المستوطنات، والعرب يجرون خلفها ببيانات الشجب والاستنكار، والقيادات الفلسطينية لا تنفك تدين وتجري على الساحة الدولية حاملة الشكاوى والتذمر.

ومن يسمع من العرب أخبار نشاطات الاستيطان الصهيوني ومواقف العرب منها يظن أن بدن إسرائيل يرتجف، وأنها باتت محاصرة، ولا مجال أمامها إلا الاستجابة. مضت السنوات الطوال والاستيطان بقي على أشده، كما أن الاستنكار بقي السلاح الإعلامي العربي والفلسطيني الفاشل.

إسرائيل تستوطن منذ عام 1967

ناهيك عن حركة الاستيطان التي بدأها اليهود في فلسطين عام 1878، وما تمخض عنها من قيام دولة إسرائيل، بدأت إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية مباشرة بعد حرب عام 1967، وركزت نشاطاتها الاستيطانية في مواقع حساسة من الناحيتين الدينية والجغرافية، فبدأت بالقدس والخليل على اعتبار أنهما مدينتان مقدستان بالنسبة لليهود، وبمناطق الأغوار والجولان لأنها محاذية للأردن وسوريا، ومنطقة اللطرون كموقع إستراتيجي من الناحية العسكرية، ومنطقتي قلقيلية وعصيون.

ومع نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، ركزت جهودها على قمم الجبال الممتدة من جنين شمالا حتى جنوب الخليل جنوبا، وذلك للسيطرة على ما يسمى بظهر الضفة الغربية.

صادرت إسرائيل مساحات واسعة من الأراضي، وزرعت الضفة الغربية بالمستوطنات، وقطعتها بطرق التفافية خاصة بالمستوطنين، وأقامت مجتمعين مختلفين في الضفة: أحدهما يهودي يتميز بالتنظيم الدقيق وببنية تحتية خدماتية واجتماعية واقتصادية متطورة، ويرتبط ببعضه من زاوية المواصلات والاتصالات وشبكات المياه والكهرباء بصورة محكمة، ويرتبط بإسرائيل بشبكة طرق ومواصلات تشعر المستوطن أنه ليس منفصلا عن إسرائيل.

أما المجتمع الثاني فبقي تحت وطأة التهميش من مختلف النواحي، وتم تقطيع أوصاله لكي يفقد سلاسة التواصل الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وتم التضييق عليه من مختلف الجوانب لكي يشعر الفلسطيني أنه غريب في وطنه، وان الحياة كئيبة إلى درجة تدفعه إلى الانزواء أو الرحيل.

الاتفاقيات والاستيطان

شكل الاستيطان أكبر خطر على وجود الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وعلى كل الأفكار والمقترحات التي من شأنها تسوية الصراع العربي الصهيوني. ولهذا عمل كل المعنيين بالبحث عن حل للقضية الفلسطينية على معالجة الاستيطان على اعتبار أن غياب هذه المعالجة يعني انهيار أي مشروع للتسوية.

ولهذا حرص الرئيس المصري أنور السادات في اتفاقية كامب ديفيد على إدراج مسألة المستوطنات ضمن الاتفاقية الخاصة بالشأن الفلسطيني، ووافقت إسرائيل على تجميد الاستيطان أثناء مفاوضات إقامة حكم ذاتي فلسطيني. أما مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، فعرض تجميد الاستيطان في مبادرته التي قدمها في نهاية السبعينيات من أجل الوصول إلى حل سلمي مع الفلسطينيين.

ووافق أرييل شارون الذي كان وزيرا للحرب في بداية الثمانينيات على تجميد الاستيطان كجزء من إيجاد حل عبر روابط القرى (روابط أنشأتها إسرائيل) يقيم حكما ذاتيا للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

تجاوزت منظمة التحرير الفلسطينية مسألة الاستيطان في اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقيات، ولم تصر على وقف أو تجميد أو إزالة الاستيطان قبل التوقيع، واكتفت بتأجيل موضوع الاستيطان إلى مفاوضات الوضع النهائي.

الكذب على شعب فلسطين

لم يتوقف الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية، وازداد كثافة في بناء الوحدات السكانية وفي عدد السكان بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ومعه ارتفعت حدة بيانات الشجب والاستنكار لممارسات إسرائيل. اعتاد الفلسطيني على سماع العبارات المجترة ضد الاستيطان، وعلى رؤية المزيد من المستوطنات والنشاطات الاستيطانية، فإيهما يصدق: ما يسمع أم ما يرى؟ وهنا أشير إلى مواقف الأطراف التالية:

1- الولايات المتحدة التي تقول على مدى عشرات السنين إن الاستيطان يشكل عقبة في طريق السلام، لكنها لا تتخذ إجراء لإزالة هذه العقبة. يأتي المبعوثون الأميركيون إلى المنطقة العربية ويذهبون، ويستمرون في ترداد ذات العبارات الممجوجة المكررة والتي لا تستطيع إيقاف بناء منزل واحد على أرض مسروقة من فلسطيني. أميركا تكذب، ويبدو أن مستمعيها العرب يرغبون في إيهام أنفسهم بأنها جادة في البحث عن سبيل لوقف الاستيطان، ويستمرون في استعطاف أميركا لعل وعسى أن تنقذهم أمام أنفسهم.

تتحدث أميركا ضد الاستيطان وتستمر في تقديم كل أنواع الدعم لإسرائيل، من الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية إلى تقديم الطائرات الحربية المتطورة مثل طائرة F35. وفي الوقت نفسه، تعمل أميركا إلى جنب إسرائيل والسلطة الفلسطينية على تجريد الفلسطينيين من كل أسباب القوة، وتدفع باتجاه اتخاذ إجراءات قاسية بحق الفلسطينيين الذين يمكن أن يقاوموا المستوطنين.

ولا تتوقف أميركا عن التأكيد على التزامها بأمن إسرائيل، واستعدادها للوقوف بوجه كل من يعرض هذا الأمن للخطر. فما العقبة التي يشكلها الاستيطان لأميركا؟ واضح أن أميركا تكذب، وهي تقوم بنشاطات استهلاك الوقت لتمكين إسرائيل بالمزيد من أراضي الضفة الغربية، وهذا من الوضوح لا يمكن أن يخفى على أحد، لكنه من الممكن لأحد أن يوهم نفسه بأن أميركا تقوم بجهود دبلوماسية قد تثمر.

2- الدول العربية ليست جادة أيضا في الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان لأنها تكتفي بالبيانات دون أخذ الإجراءات. من الدول العربية من يقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ومنها من يطبع العلاقات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والماسونية والاجتماعية، إنما دون إعلام أو ضجيج.

أما من لا يقيمون علاقات فيكتفون بأضعف الإيمان. بإمكان الدول العربية أن تحيي برنامج مقاطعة إسرائيل، والشركات التي تتعامل معها في مختلف المجالات، وبإمكانها قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف التطبيع بصورة تامة، وبإمكانها أيضا تقديم الدعم المالي والعسكري لقوى المقاومة في المنطقة.

لكننا لا نرى شيئا من هذا، ونرى إسرائيليين قادة ومستثمرين يزورون بعض البلدان العربية بكل راحة واطمئنان، وأقرب مثل علينا هو زيارة رئيس إسرائيل شمعون بيريز للأردن مؤخرا. والبلدان العربية ما زالت تتمسك بالمبادرة العربية البيروتية رغم أن إسرائيل ترفض مناقشتها.

3- الفلسطينيون الرسميون والمستثمرون. إذا قام فلسطيني بقذف حجر على مستوطن فإن السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال سيقومان بملاحقته، وإذا قام مستوطن بالاعتداء على فلسطينيين فإن أحدا لن يلاحقه. الفلسطيني يخشى الآن السير في الطرقات الرئيسية بين المدن الفلسطينية أو الطرق الالتفافية خوفا من المستوطنين، أما المستوطن فيتمشى هادئا مطمئنا في هذه الأماكن. كانت الصورة معكوسة أمام النضال الوطني الفلسطيني، فأتت السلطة الفلسطينية لتجعل من الفلسطيني مهزلة أمام عدوه.

الاتفاقيات الفلسطينية مع إسرائيل تحمي المستوطنين ولا تنص بتاتا على وقف الاستيطان أو تجميده، وهي تعرض أمن الفلسطينيين للخطر وتحولهم إلى مجرد كائنات مستهلكة. لقد قايضت القيادة الفلسطينية الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني بلقمة الخبز، وليس أدل على ذلك مما قاله رئيس السلطة الفلسطينية بأن الخبز أولى من الديمقراطية. وما كان يعنيه أن حصول الشعب الفلسطينية على لقمة الخبز أفضل من الإصرار على حريته.

تستنكر السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية الاستيطان باستمرار، وهذا ما يطمئن إسرائيل إلى أن الاستيطان لا يواجه تحديا أو عقبات. وهنا آتي على ذكر مستوطنة ألفي منشيه قرب قلقيلية التي استطاع فلسطيني واحد أن يجبر سكانها على إخلائها بسبب قيامه بأعمال تنغص على المستوطنين حياتهم. لقد قاومهم بالحجارة والمسامير على الشوارع التي من شأنها تنفيس إطارات السيارات، وغير ذلك. مثل هذا الفلسطيني ملاحق فلسطينيا الآن.

هناك فلسطينيون يستثمرون الآن في المستوطنات، وآخرون يطبعون العلاقات مع المستثمرين المستوطنين.

زيارة كيري

انشغل المستوى الرسمي الفلسطيني ووسائل الإعلام العربية والفلسطينية بزيارة كيري الأخيرة، على اعتبار أن كيري رجل عاقل وجاد وسيعمل على إقناع إسرائيل. طبعا كيري رجل عاقل ويعي تماما أن الاستيطان الإسرائيلي لا يؤدي إلى اتخاذ إجراءات عربية وفلسطينية ضد إسرائيل، فلماذا يكون ملكيا أكثر من الملك، ويقوم بالضغط على إسرائيل؟ هل من الممكن أن يوظف كيري نفسه لصالح عجزة غير قادرين على حساب إسرائيل التي تواصل الليل بالنهار من أجل البناء واكتساب القوة؟ وكيري يدرك أن الزيارات المتبادلة بين الأميركيين والعرب ليست إلا مجرد لهاية أو رضاعة تبقي زعماء عربا أحياء أمام شعوبهم.

تدمير عملية السلام

يستمر قادة فلسطينيون وحكام عرب بالقول إن الاستيطان الإسرائيلي يدمر عملية السلام. هذا قول يخلو من الصدق تماما، لأن الاستيطان مستمر وجهود العرب من أجل عقد صلح مع إسرائيل مستمرة.

لم يؤثر الاستيطان إطلاقا على وضع إسرائيل، ولم يؤد إلى أي توتر مع دول عربية أو مع الفلسطينيين، ولم يؤرق أمن إسرائيل. إسرائيل تعي أن العرب يسعون إلى الاستسلام ببعض ماء الوجه، لكنها تعي أيضا أنهم قدموا التنازلات عبر الزمن دون الحصول على شيء، وهم سيستمرون على ذات النهج، هذا إلا إذا تغيرت الأحوال في البلدان العربية.

ربما يقول قائل إن الفلسطينيين يتبنون الآن المقاومة الشعبية لمواجهة إسرائيل، والدليل على ذلك مظاهرات أيام الجمعة قرب الجدار. بارك الله بالمتظاهرين وهم يقومون بجهد يستحق الثناء، لكن الأطراف الرسمية تستعمل هذا الوضع لتقول إنها تقاوم. المقاومة الشعبية تتطلب أكثر من مظاهرة يوم الجمعة، وتمتد لتشمل مقاطعة إسرائيل ووقف التنسيق الأمني وتشكيل لجان شعبية ورفض حمل الهوية الإسرائيلية المغلفة بعنوان فلسطيني... إلخ. تتطلب المقاومة الشعبية جهودا كبيرة وتضحيات كثيرة، ولا تتوقف عند نواح إعلامية فقط.

أعلنت السلطة الفلسطينية منذ سنوات أنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات إلا مع وقف الاستيطان. الاستيطان يستمر، والمفاوضات لم تتوقف تماما، وتحصل لقاءات بين الحين والآخر بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.

لكن المهم هنا هو أن إسرائيل قد استنفدت الهدف من المفاوضات عام 1996 عندما تحول الفلسطينيون إلى وكلاء أمنيين وإداريين لإسرائيل، ولم يعد لها مصلحة بمواصلة المفاوضات إلا إضاعة الوقت. المهم لإسرائيل الآن هو التنسيق الأمني، أي استمرار الفلسطينيين بتقديم خدمات أمنية لإسرائيل ويحافظون على الهدوء في الضفة الغربية، وإذا كانت السلطة الفلسطينية تريد الضغط على إسرائيل فالمفتاح إلغاء التنسيق الأمني وليس التوقف عن مفاوضات لم تتوقف.

الجزيرة.نت، الدوحة