القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

الانتفاضة اليتيمة

الانتفاضة اليتيمة

بقلم: عبد الستار قاسم

جرب الشعب الفلسطيني انتفاضات عديدة في تاريخ الصراع مع الصهاينة، واختلفت هذه الانتفاضات في كثافتها وشدتها وأحيانا في أساليبها، لكنها جميعا لم تكن على مستوى التحدي المفروض عليه.

يتسلح التحدي (الاحتلال) بأحدث أنواع الأسلحة، ويتمتع بدعم دولي واسع مؤيد للعدوان على الشعب الفلسطيني، خاصة من الدول الغربية القوية عسكريا وأمنيا، كما أن العدو يطلق لعدوانه على شعب فلسطين العنان ليتجاوز كل المعايير الأخلاقية والقانونية.

العدوان المستمر على الشعب متوحش وإجرامي وهمجي، ومسلح حتى الأنياب، وأعمال احتجاجية متمثلة بانتفاضات سلمية أو شبه سلمية لا تتناسب مع كثافة نيرانه ولا مع مستوى إجرامه وهمجيته، ولهذا كان من الصعب وما زال أن تحقق انتفاضات نصرا واضحا يؤدي إلى استرداد جزء من حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة.

شهدت انتفاضة الأقصى عام 2000 عمليات استشهادية عدة تم تنفيذها، خاصة في الأرض المحتلة عام 48، وكانت هذه العمليات قد سبقت الانتفاضة في تسعينيات القرن الماضي، وقد أصابت الصهاينة بهلع كبير وذعر وأدت إلى هجرة العديد منهم من فلسطين باحثين عن الأمن والأمان في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية، لكن المشكلة أن هذه العمليات لم تستمر وتوقفت فجأة، وبالتالي ضاعت النتائج التي كان من الممكن حصادها، وهذه مشكلة عانى منها النضال الفلسطيني على مدى السنوات إذ لم تكن النضالات تستمر حتى قطف النتائج.

لقد قدم الشعب الفلسطيني التضحيات الجسام في كل عمل نضالي قام به ضد الانتداب البريطاني وضد الصهاينة وإسرائيل، لكن قصر النفس كان آفة خطيرة حالت دون الوصول إلى نتائج إيجابية، حتى أن الشعب الفلسطيني كان يدفع أحيانا ثمنا باهظا بعد استرخائه مثلما حصل في انتفاضة عام 1987.

لقد قدم الشعب تضحيات كبيرة وكثيرة في حينها، وكانت النتيجة أن اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالكيان الصهيوني، وقد كان من الممكن الاعتراف به من دون تضحيات.

ولكي تنجح الانتفاضة -أي انتفاضة- ضد الكيان الصهيوني لا بد من توفر عدد من العوامل وهي كالتالي:

أولا: وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة حركته في مواجهة الاحتلال: تتطلب الانتفاضة أعمالا جماهيرية واسعة وتدفقا شعبيا في مواجهة الاحتلال لأن الناس يشد بعضهم أزر بعض، ويولد ذلك في النفوس طمأنينة وارتياحا.

وحدة الشعب تعزز قيم العمل الجماعي والتعاون المتبادل، وإذا لم تتوفر هذه القيم لا يمكن للشعب -أي شعب- أن يتمكن من شق طريقه بنجاح في مختلف ميادين الحياة، ولهذا تعمل الدول على ترسيخ الوحدة الوطنية لتعزز الثقة المتبادلة بين الناس فيرتفع مستوى العمل الجماعي والتعاون المتبادل، والشعب الفلسطيني بحاجة للوحدة الوطنية وربما الوحدة القومية أكثر من أي شعب آخر في العالم وذلك بسبب الظروف القاسية التي يواجهها.

لكن للأسف الشديد، ربما يكون الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب تمزقا رغم كل العوامل المثيرة التي تدفعه نحو الوحدة، هناك انقسام حاد في الشارع الفلسطيني سواء داخل فلسطين أو خارجها، ودرجة الثقة بين الأطراف المتخاصمة متدنية جدا وتحول دون التوجه نحو العمل الجماعي.

ثانيا: قيادة مؤمنة بمواجهة التحدي: الانتفاضة تفرض تحديا للاحتلال، وتتطلب قيادة على مستوى هذا التحدي لكي توجه وتبتكر أساليب المواجهات وتحدد الأدوار وتستنهض الناس، مشكلة الشعب الفلسطيني بهذا الصدد أنه عانى دائما من تخلف القيادات عن النشاطات الجماهيري.

الشعب الفلسطيني عادة يبادر ومن ثم تلحق القيادات المختلفة سواء كانت قيادة سياسية أو قيادات فصائلية، والشعب يقدم التضحيات، والقيادات عادة تقدم التنازلات وتبعث الفرقة والفساد في صفوف الناس بسبب منافساتها غير الإنجازية ومحاولاتها الاستحواذ على العمل الجماهيري والادعاء باحتكاره.

وكم من المرات أفسدت القيادات نضالات الناس وأحبطتهم وساومت على دمائهم وبيوتهم المهدمة، الآن لا توجد قيادة مؤمنة بالتحدي، والقيادة القائمة حاليا -وهي قيادة غير شرعية- تؤمن بدغدغة الاحتلال وبحركة الجماهير السلمية التي من المفروض أن تواجه الدبابات والطائرات بمزيد من الخضوع والاستسلام.

ثالثا: ترتيب اللجان الشعبية التي من المفروض أن تعمل على تجميع القوى وحشد الطاقات، والإشراف على حسن سير الحياة المدنية للمواطنين، ومواجهة المشاكل اليومية التي تواجه الحياة الاعتيادية.

منذ البدء، يجب التركيز على إقامة لجان أو هيئات لإدارة شؤون الناس، وتوفير الاحتياجات اليومية لهم جميعا وللمنتفضين خاصة، تطرأ مشاكل في التموين وتظهر فئات غير قادرة على سد احتياجاتها اليومية بسبب ما يترتب على الانتفاضة من انقطاع عن الأشغال والأعمال، ولا بد من إيجاد جهة ترعى هذه المسائل وتنسق جهود الناس ليحمل بعضهم البعض الآخر.

رابعا: توزيع أدوار مختلف الفئات الاجتماعية: من مهمة اللجان الشعبية -التي من المفروض أن تنتشر في مختلف القرى والمدن- أن توزع الأدوار بحيث يعرف كل صاحب مهنة أو عمل دوره في الانتفاضة، وهذا يؤدي إلى قيام لجان فرعية مثل لجان الصحة، ولجان الإشراف على التعليم الذي يمكن أن يستمر بدون مدارس، ولجان محامين وفلاحين.. إلخ، ما دامت الانتفاضة جماهيرية فإنه من المطلوب إشراك الجمهور في تسيير حياتهم اليومية وتدبير سبل معيشتهم.

خامسا: توفير التمويل اللازم والمترتب على نفقات كبيرة: الانتفاضة تتطلب أموالا لأن المنتفضين يحتاجون للتنقل من مكان إلى آخر، ويحتاجون لبث البيانات والتوجيهات وربما يحتاجون إلى الطعام، خاصة إذا كانوا من المتفرغين، كما أنهم يحتاجون مالا لمساعدة بعض الناس الذين لا يتمكنون من تدبير احتياجاتهم اليومية.

هناك من يفترضون أن النضال الوطني لا يتطلب مالا لأنه تطوعي، صحيح أن النضال الوطني ليس تجارة ويجب ألا يكون كذلك، لكن المتطوع لا مفر يحتاج بعض النفقات، وليس كل متطوع يملك إمكانات مادية لينفق على نشاطاته، والنفقات تكون كبيرة إذا تحولت الانتفاضة إلى مقاومة وبدأ يتخللها عمل عسكري، تتطلب الأعمال العسكرية تمويلا كبيرا بسبب تكاليفها الباهظة المترتبة على دقة العمل ومهنيته.

إن الحراك الفلسطيني القائم الآن لم يرتق بعد إلى درجة انتفاضة بسبب محدوديته في الزمان والمكان وفي المشاركة الجماهيرية، الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لم يندفع بعد إلى نقاط المواجهة، ولم تمتد الأعمال الانتفاضية على اتساع الضفة الغربية.

وحتى تتسع لا بد أن تتطور قيادة توجهها وتصوغ لها البرامج والأساليب والوسائل التي يمكن اتباعها من أجل تحقيق أفضل النتائج، وفي ما يلي التصورات القيادية التي يمكن أن تكون مرشحة لقيادة الحراك ورفع مستوى تأثيره:

1- قيادة منظمة التحرير الفلسطينية: هذه قيادة لم تعد تصلح لقيادة العمل النضالي الفلسطيني لأنها أتت إلى الضفة الغربية بموجب اتفاقيات مع الكيان الصهيوني حددت التزاماتها الأمنية تجاه إسرائيل، هذه قيادة لا تجرؤ على المس بالأمن الإسرائيلي لأن الثمن الذي يمكن أن تدفعه باهظ جدا.

والحال أنها تخلت عن النضال الوطني بمجرد أن قبلت لنفسها الدخول إلى فلسطين تحت بنادق العدو، واستلمت بنادق بترخيص من العدو، هذه قيادة علنية فوق السطح، وهي مراقبة جيدا من قبل الأمن الصهيوني، وتخشى أن تسجل على نفسها نقاطا من حيث إن مصالحها ارتبطت بإسرائيل وإرادة قواها الأمنية، إنها قيادة تتعايش مع الاحتلال، بل وتحصل على امتيازات من الاحتلال، ولا استعداد لديها للتضحية بما حصلت عليه من منافع وفوائد.

2- قيادات جماهيرية ذات خبرة: أصحاب الخبرة في مواجهة الاحتلال متوفرون بصورة كبيرة، هناك من شاركوا في أعمال قتالية خارج فلسطين، وهناك من خبروا العمل الفدائي ضد الكيان في الداخل الفلسطيني، وهناك من مارسوا العمل النضالي في انتفاضتين رئيسيتين عامي 1987 و2000، ولديهم خبرات واسعة في السجون والمعتقلات.

لكن أغلب هؤلاء لم يعودوا مطمئنين للوضع الأمني القائم في الضفة الغربية لأنهم يواجهون أجهزة الأمن الصهيونية وأجهزة الأمن الفلسطينية وقد كبروا في العمر، وأصبحت لديهم التزامات مالية عائلية متزايدة، لقد صنعت السلطة الفلسطينية أجواء أمنية سيئة في الضفة الغربية بحيث لم يعد المرء يثق أمنيا بأقرب الناس إليه، وبدأ يدرك أن نضاله الوطني لن يعمر طويلا بسبب انتشار الجواسيس وكثرة العيون التي تراقب.

3- قيادة المقاومة والمعارضة: فشلت المعارضة الفلسطينية في تشكيل مرجعية لها يمكن أن تكون قيادة بديلة لمنظمة التحرير، طبعا منظمة التحرير لم تعد قيادة فعلية للشعب الفلسطيني، وهي مجرد قيادة إعلامية تتعاون مع الاحتلال، وكان من المفروض أن تسعى أطراف فلسطينية ما زالت تؤمن بالمقاومة وبضرورة استرداد الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني إلى تشكيل مرجعية قيادية، خاصة خارج فلسطين.

إنه من الصعب تشكيل قيادة داخل فلسطين بسبب المحاذير الأمنية، ربما راودت المقاومة -خاصة حركة حماس- فكرة تشكيل مرجعية قيادية لكنها تراجعت بعد أن هب قياديو وأركان منظمة التحرير المتعاونون مع إسرائيل في وجه هذه المراودة وأحبطوها.

وقد برهنت المعارضة الفلسطينية على فشلها لأنها فضلت أن تبقى على الرصيف الداخلي الفلسطيني وأحجمت عن الدخول إلى الملعب لتكون موجها حقيقيا لجزء من أبناء الشعب الفلسطيني، لو توفرت مرجعية قيادية خارج فلسطين لكان من الممكن مخاطبة الشعب علنا بعيدا عن سطوة الصهاينة ولأمكن تدبير التمويل اللازم لتمكين المنتفضين من الاستمرار.

4- قيادات الفصائل: كما قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وضعت قيادات الفصائل الفلسطينية نفسها في قفص عندما قررت دخول الضفة الغربية وغزة وقبلت شروط إسرائيل، هذه قيادات أصبحت تحت سقف الاحتلال ولم تعد لديها قدرة على الحركة النضالية، فضلا أن مصالحها ومنافعها باتت مرتبطة بالاحتلال ولم يعد بالإمكان التمرد على رب نعمتها سواء كان الاحتلال أو الأمريكيين أو السلطة الفلسطينية.

5- حاول البعض تشكيل مرجعية للحفاظ على الثوابت الفلسطينية وتفاءل بعضهم بهذا التوجه، لكن هذا البعض تراجعوا على ما يبدو ولم نعد نسمع منهم حول هذا الأمر، من الممكن تشكيل فرقة من هذا القبيل للتأكيد على الحقوق الفلسطينية، لكن العمل في الداخل الفلسطيني مليء بالألغام الأمنية، وليس من السهل أن يستقطب أموال دعم انتفاضية.

ولهذا يبقى الحراك القائم حاليا في فلسطين يتيما، ومن الصعب أن يجد أيادي ممدودة، وعلى كل المتفائلين بتطوير هذا الحراك إلى انتفاضة ومن ثم إلى مقاومة أن يقدموا الدعم المالي اللازم، الدعم الإعلامي لا يكفي، والتحريض عبر وسائل الإعلام قد لا يكون مجديا، ويمكن أن ينقلب على نفسه، ومن الأفضل التوجه نحو تشكيل مرجعية قيادية تتحمل المسؤولية.

والهم الكبير أيضا أن أطراف المعارضة الفلسطينية ليست على دين رجل واحد، إنها أطراف متنافرة ومتخاصمة أحيانا، وهي ترفع ملاسناتها أحيانا أمام الناس مما يؤثر بصورة كبيرة على صدقيتها.

المصدر: الجزيرة نت، الدوحة