الذاكرة الفلسطينية وإخفاق النكبة الثانية
بقلم: حسام شاكر
شكّل اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ودياره مأساة
عظيمة بكل المقاييس، امتدت تفاعلاتها إلى الاستهداف المباشر للذاكرة التاريخية الفلسطينية،
ومحاولة انتزاع فلسطين وهويتها من الوعي الجمعي للأجيال التالية من شعبها، وتغييب إدراك
فلسطين وقضيتها عن الوعي الإنساني.
بيد أنّ مشروع النكبة لم يكتمل في معناه الأعمق،
لأنّ الفلسطيني لم يتخل عن ذاكرته.
فتأسيسا على إنكار وجود الشعب الفلسطيني؛ أقدم
المشروع الصهيوني بنظامه الاحتلالي وأدواته الثقافية والإعلامية، على استهداف الذاكرة
الفلسطينية بضراوة، واندفع بزخم دعائي ومنظومة عملاقة، إلى تسويق الأساطير وترويج الادعاءات
المنسوجة بعناية، بينما توجه بشكل حثيث إلى طمس الشخصية الفلسطينية وتزييف معالمها
وملامحها ومواقعها، بعد اقتلاع الكيانية الفلسطينية من أرضها.
راهن مشروع الاحتلال على تآكل الذاكرة الفلسطينية
وتلاشيها، بمفعول الاقتلاع والتهجير والانقطاع بين الأجيال. فجاءت الاستجابة الفلسطينية
التلقائية بالتشبث بالهوية والخصوصية، التي اكتشفت ذاتها وعبّرت عن نفسها بوضوح، وبات
صقل الهوية الفلسطينية مشروعاً بحد ذاته ضد الإلغاء والطمس.
نجح اتصال الذاكرة وتمريرها إلى الجيل الثاني
بعد النكبة، الذي حمل لافتات العودة ورفض الخيارات البديلة عنه. واتجه الجيل الثالث
من بعد إلى مأسسة مشروع الذاكرة والهوية، فعبر بها إلى القرن الحادي والعشرين، موظفاً
الخيارات المستجدة في التعبير الثقافي والتواصل الإعلامي والتشبيك المدني لتطوير برنامج
العودة الفلسطيني.
وإن صح القول بأنّ مشروع التوريث الفلسطيني قد
نجح؛ فإنّ ما يعنيه هذا هو أنّ مشروع النكبة، بما تعنيه من الاقتلاع بمآلاته وأبعاده
طويلة الأمد، قد أخفق عملياً.
لكنّ التحدي الذي واجهته الذاكرة الفلسطينية بعد
النجاح في تمريرها نصف قرن بعد النكبة؛ هو الرضوخ لواقع الاحتلال المزمن وتحرير صكوك
التخلي عن الأرض والديار والتنازل عن الحقوق الفلسطينية الجوهرية. وليس من المجازفة
الاستنتاج بأنّ روح مشروع التسوية السياسية كان تخلي الشعب الفلسطيني عن ذاكرته، ولا
ريب أنه كان اختباراً يضاهي في أبعاده وتداعياته مفعول النكبة ذاتها.
جدير بالملاحظة أنّ القادة الإسرائيليين جاؤوا
إلى "أروقة السلام" بخطاب الهيمنة على تاريخ فلسطين وذاكرتها، بل حرصوا على
استبعاد مفردة الشعب الفلسطيني من مقولاتهم ووثائقهم.
هذا ما فعله إسحاق شامير مثلاً؛ الذي ألقى في
افتتاح مؤتمر مدريد للسلام (في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1991)، خطاباً بصفته رئيس الوزراء
الإسرائيلي، أعاد فيه ترويج مزاعم الحق التاريخي في أرض فلسطين العربية، فقال مثلاً:
"على مدى آلاف السنين قال شعبنا في كلّ فرصة على إثر شاعر المزامير: لن أنساك
يا أورشليم، وعلى مدى آلاف السنين تمنّيناً بعضنا لبعض أن نكون في أورشليم".
وهو ما فعله خلفه إسحاق رابين، في احتفال توقيع
إعلان المبادئ لاتفاقية غزة - أريحا (في 13 أيلول/ سبتمبر 1993) في باحة البيت الأبيض،
مستأنفاً ترويج المزاعم ذاتها بالإشارة على مسامع العالم بأنه قادم من "أورشليم،
العاصمة القديمة والأبدية للشعب اليهودي".
واستمر النهج وصولاً إلى بنيامين نتنياهو وأركان
حكومته الذين يهيمن على بعضهم الهوس بالشعارات الصهيونية التقليدية.
تهاونت الرسمية الفلسطينية مع هذا الخطاب الإسرائيلي،
وقابلته بإشارات ترنو إلى بناء الثقة مع المحتل وبدا كأنها تسعى إلى استرضائه. تم مع
الوقت تدبيج خطاب فلسطيني رسمي ينطوي على تهميش الذاكرة أو التنصل من استحقاقاتها،
وتجاهل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أو الاستخفاف به، وإطلاق الإشارات المتواصلة
بالاستعداد للتنازل عنه.
هرولت الرسمية الفلسطينية إلى التسوية دون استحضار
الذاكرة، حتى بدا التملص من الرواية الواقعية عن فلسطين بأبعادها المعروفة ملمحاً لمدرسة
"الواقعية السياسية". رأى بعضهم أنّ البحث عن خيارات سياسية يقتضي التنازل
عن الذاكرة، فتم تزامناً مع زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى مناطق السلطة
الفلسطينية سنة 1998، تعطيل وصف فلسطين ذاتها في الميثاق الوطني لمنظمة التحرير، الذي
وقع التصويت على الإطاحة به بعد ثلاثين سنة من صدوره.
جرى إلغاء فقرات بكاملها من الميثاق، وحذف مقاطع
من الفقرات الأولى الجوهرية المكرسة لوصف فلسطين في جغرافيتها وتاريخها ومآلاتها.
لكنّ فلسطين لم تحصل على شيء يذكر بعد هذه الهرولة
الرسمية سوى التوسع الاحتلالي وهيمنة الاستيطان، وقضم القدس وتمزيق التواصل السكاني
لأراضي الدولة المُختزلة التي لم تنهض بعد، مع إملاءات إسرائيلية لا تنتهي بمزيد من
الاعترافات بالاحتلال وصفة دولته اليهودية.
ما لم تدركه الرسمية الفلسطينية في اندفاعها للاعتراف
بدولة الاحتلال و"حقها في الوجود"، هو أنّ الخطاب منزوع الذاكرة، ليس مؤهّلاً
لأن يفضي إلى حل عادل لقضية فلسطين، وأنّ إعادة الاعتبار للذاكرة الفلسطينية يبقى اشتراطاً
لا غنى عنه لتسوية جادة للقضية. فلا مجال لتسوية دون حسم مسألة الأحقية التاريخية،
ولا فرصة لها مع القفز المستمر فوق مسألة وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه الجوهرية وعلى
رأسها حق العودة.
غني عن القول أنّ الذاكرة ليست الماضي، بل هي
الوعي بالتاريخ والجذور والهوية، وإدراك الخصوصية، وهي أيضاً الوعي بالذات بما يتصل
بالواقع وينفتح على المستقبل. والواقع أنّ الذاكرة تمثل مركز الثقل في قضية فلسطين،
ويقابلها ذاكرة الاحتلال المصطنعة التي جرى تركيبها بعناية فائقة على أنقاض التاريخ
الفلسطيني. وقد أفضى استبعاد ركيزة الذاكرة من الخطاب الفلسطيني إلى إضعاف جوهري للموقف
الفلسطيني العام وانهيار سقوفه التي غدت واطئة للغاية.
كاد هذا النهج أن يتسبب،علاوة على ذلك كله، بتهديد
التماسك العضوي للشعب الفلسطيني إن تم التسليم بانزواء الكيانية الفلسطينية منزوعة
السيادة، في بؤرها المعزولة وراء جدران الاحتلال،حتى وإن تم إطلاق وصف دولة على هذه
اللوحة الممزقة.
ليس مبالغة القول بأنّ مشروع التسوية السياسية
كان نكبة ثانية بالنسبة للذاكرة الفلسطينية، لأنه راهن على الإذعان للمحتل وتحرير صكوك
التخلي عن فلسطين التاريخية باعترافات متوالية. وفي أعقاب هذا التحدي أيضاً جاءت الاستجابة
الشعبية الفلسطينية واضحة على هذا النهج، بإنعاش الذاكرة وتطوير خطاب العودة على صعد
شتى، في تعارض واضح مع برنامج التسوية وأولوياتها.
مع استعلاء نهج التسوية المجحفة بحق فلسطين وذاكراتها،
أدركت "الدياسبورا" الفلسطينية التي تم تجاهلها، دورها في إنعاش الوعي بفلسطين؛
بعمقها التاريخي وأبعادها الجغرافية التي كانت عليها.
فلكل شعب الحق في ذاكرته، وقد تنبّه الفلسطينيون
إلى محاولات استدراجهم للتجرد من ذاكرتهم والتنصل من هويتهم وتقمص رواية المحتل عنهم.
جاء الردّ على استهداف الذاكرة الفلسطينية في
مرحلة التسوية؛ بجهود متعددة لإنعاشها واستمرار توريثها للأجيال الفلسطينية الجديدة،
وهي مسؤولية اكتسبت وزناً إضافياً وحساسية فائقة بالنسبة لأبناء الشعب الفلسطيني في
المنافي الأوروبية.
انتهت التسوية السياسية إلى محاصرة وعي الفلسطينيين ضمن حدود الجدار العنصري،
لكنّ الأجيال الفلسطينية تواصل رفع المفتاح حتى من أقصى المنافي الأوروبية التي تعلو
منها لافتات العودة، وتتحرك ضمنها برامج ومشروعات مختصة بهذا الحق الجوهري، بعد عقود
سبعة من النكبة.
تتعرف الأجيال الفلسطينية الصاعدة في أوروبا على ذاكرتها، وتبحث عن دورها في
مشروع العودة وإنهاء الاحتلال، ولا يجري ذلك بمعزل عن تفاعلات الشعب الفلسطيني في مواقع
الانتشار كافة، بما فيها داخل الداخل المحتل سنة 1948. إنّ المغزى في ما جرى ويجري،
هو أنّ التاريخ لم ينته في فلسطين.