القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

الذكرى الـ47 لإنطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني.. شرح الرصاصة الأولى في الثانية .. بداية عراقية

الذكرى الـ47 لإنطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني.. شرح الرصاصة الأولى في الثانية .. بداية عراقية

بقلم: هاني فحص

أخذنا طريقنا كالمعتاد مشياً على الأقدام، الى كلية الفقه في النجف صباح السادس من حزيران 1967.. وطوال الطريق كانت عيون العراقيين تطالعنا متلبسة بالفرح والأمل بالنصر.. وكانت هناك عيون أخرى، في باحة كلية الفقه وعلى الطريق من الحوزة إليها، لا تستطيع إخفاء الضيق فيها وفي صدور أصحابها من احتمال النصر، تنطوي على سخرية مذخورة، منك ومن أحلامك، إذا ما تحققت الهزيمة.. هذه العيون، عربية وإيرانية، كان الشاه يسكن في أماقيها، وإن كان أكثرها بعدما عادى الخميني واتهمه، عاد ليتواطأ (عليك، عليكم) لطردكم من ذاكرة الثورة التي ضايقتهم.. ثم ضايقت أكثر أنصارها عندما أصبحت دولة يغلب على أدائها منطق السلطة والاستزلام.. كنا نسير وكأننا ذاهبون الى فلسطين غداً.. قبل أن تعمّ النعم، الحلال والحرام، إيران والعراق، والنجف، وتصبح السيارة الخاصة الفارهة، من ضرورات الأساتذة والطلاب، وتصبح الأرتال منها من ضرورات المرجعيات المفتعلة، في حين أن المرجعيات الأصلية، لم يتبدل في حياتها بين سنوات الحصار والمضايقة اليومية من أمن النظام، شيء..

وصلنا الكلية لنجري امتحاناً في علم البلاغة العربية من ضمن امتحانات نهاية السنة.. فأخبرنا عميدنا السيد محمد تقي الحكيم، الذي يتجاوزنا فرحاً بإطلالة القدس، وقلقاً من أن لا نحسن الوصول، لأننا قد لا نكون قد هيأنا له ما يقتضي.

أخبرنا بعطلة لأجل غير مسمى..

وخرجنا متعجلين الى منازلنا، ومنا من يشعر بالندم لأنهم لم يقتنوا أجهزة راديو، إما بسبب العوز، أو بسبب الخوف من وكلاء السماء، من متشددي الحوزة وأوصيائها، أو لقناعة ذاتية أن الراديو حرام كالجريدة والضحك والفرح والشعر، في غير مديح أهل البيت (ع) على الرغم من كثرة المأثور عنهم، من نفورهم من النفاق والمبالغة.

تعجلنا الرجوع، لنواكب الانتصار لحظة بلحظة، مجتمعين في منزل من له مذياع، متنقلين من محطة الى محطة، بما يستوجب ذلك من عراك مع صاحب الراديو، لأنه يتحكم بنا ويحرمنا من فرص ثمينة.. ومرة أو مرتين، تحمّس بعضهم غاضباً، ومضى الى منزله مستولياً على كل مدخرات زوجته ليشتري جهاز راديو، ولكنه سرعان ما عاد خائباً، لأن كل أجهزة الراديو كانت حتى عصر ذلك اليوم، قد بيعت. وتابعنا سقوط العشرات من الطائرات الإسرائيلية!! وخرجنا مساء الى المدينة، لنقرأ عيون الناس، ونصلي فنستشعر فرحاً يأتي من الغيب.. ولم يبخل علينا عدد من ذوي الانتماء السياسي (الديني) أو عشاق شاه إيران، والنادرين الخائفين المخيفين من زملائنا وأساتذتنا وأصدقائنا في السوق، بنظرات يختلط فيها الحسد والغيظ من فرحنا بالنصر الآتي.. مع ما يلزم من التربص على احتمال أن تكون النتائج مختلفة عن أحلامنا ومطابقة لرغباتهم.

ولم يمر وقت طويل، حتى تأكدوا بأنهم انتصروا علينا مع إسرائيل، ولم نعد نقوى على مقابلتهم بسبب الشماتة.. ولن أنساه ذلك الصديق في سوق النجف، حيث كان يستمع بشكل متواصل الى إذاعة إسرائيل، فقلت له: هذا غير لائق، قال: بل هو لائق بكم، لأنهم أصدق منكم وأشرف.. (برو آغا) أي حلّ عنا يا سيد.. والزميل العربي الآخر عاشق الشاه ومواقفه السلبية من القضية، قبل أن يتحول الى مناضل ضد الإمبريالية، بقدرة قادر، عندما رقص رقصاً يشبه (الراب أو الروك) وقال: الحمد لله على هذه الهزيمة العربية، لو كان عبدالناصر هو الذي انتصر لطارت عمائمنا.. وخرجت عليه ربة البيت زوجة زميلنا (أم يسار) من خدرها، قرّعته وطردته من المنزل قبل أن يصل الشيخ زوجها، الذي قدرت أن غضبه سيكون أعظم فتفادت ذلك.

وقضينا أشهراً، نخبئ وجوهنا من عيون كثيرة في كل مكان. وكدنا أن (ننشف) وفقدنا رغبتنا في الكتاب والدفتر وتعطل الشعر والسمر والظرف.. الى أن جاء الفرح، وانطلقت الرصاصة الفلسطينية من (فتح) ونالت بركة جمال عبدالناصر الذي قال لأبي عمار: أنتم الأمل، إفعلوا أي شيء، إحرقوا إطارات في الأرض المحتلة.. وفعلوها، وكانت مقدمة مصرية لحرب الاستنزاف.

وصرنا نتبادل التهاني، ولم يعد زهونا يخفى، وصرنا نجتمع يومياً، بين العصر والعشاء، على أبواب منازلنا لنتيح للجيران مشاركتنا في الإصغاء الى صوت فتح (كول فتح) يذيع الشيفرات الفدائية التي كانت تنافس، في وجداننا، أجمل قصائد الشعر جمالاً وإيقاعاً ومعنى، ومعها كان محمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم وراشد حسين وصخر حبش ومريد البرغوثي ومعين بسيسو وأحمد دحبور وخالد أبو خالد يحولون الوطن المحتل الى شعر حر ويحولون الشعر الى وطن محرر. "شعرها الفاحم.. من ليل المخيم.. فتحة العينين يا دين النبي!".

وتسربت الأسماء أبو علي أياد، أبو جهاد، أبو صبري، أبو جهاد، باجس أبو عطوان.. وأحمد دحبور يخاطب أبا علي أياد: "يا جمل المحامل دربنا شوك، وأنت المبحر العداء.. تهجينا في كتب القراءة في طفولتنا، فكنت سفينة الصحراء".

وأخذت النجف، مرجعياتها الدينية العليا، والحوزة الأصلية، تكشف عن وجهها الوطني الوضيء، وصدرت الفتاوى بدفع الزكاة للمقاومة وبالدعم بكل ما يتيسر، وازدانت النجف بالزينة استعداداً لاستقبال أشبال وكوادر ومقاتلي المقاومة وقياداتهم: أبو طارق (محمد الشرفا) و(غطاس صويص) أبو نضال وغيرهما. وخرجت النجف، معممين وحاسرين وخطباء وشعراء، طلاباً وأساتذة، واحتفت بهم، وأسمعتهم كلاماً طيباً ورجاء صالحاً مع الشكر الجزيل على هزيمة الهزيمة.. على الرصاصة الثانية التي أكملت معنى الرصاصة الأولى، ليكتمل معناها في رصاصات تالية، ما زالت آخرها، تنتظر رصاصة آتية، ليتقدم معنى فلسطين في المستقبل كما هو في الماضي والحاضر.. وأكثر. وهكذا تعلمنا تاريخ الرصاصة الأولى وشرحها ودلالاتها من الثانية.

وشكلنا اللجان بالتعاون مع الفتحاوي محمد حوّر، الطالب في بغداد، وأخذنا نجمع قليلاً من المال الى كثير من البركات. وكتبنا نثراً وشعراً.. وصارت المقاومة عروساً وضيفاً دائماً على أنديتنا وجلسات بحثنا العلمي، وحتى على مآتمنا وأفراحنا.. وتبارينا.. الى أن كانت معركة الكرامة.. فرأينا من خلالها فلسطين وكأنها في أيدينا، وفي منامنا صلينا في القدس.. وقررنا بعد سنة أن نحتفل بذكراها.. هددنا الأمن بالسجن بواسطة المحافظ المتعاطف معنا سراً، إن بقينا على قرارنا باحتفال مستقل. أي إن لم يكن احتفالاً أمنياً نشارك فيه. أبينا واحتفلنا سراً.. وأخذنا نحتاط لأمرنا.. بدءاً من نهاية 1968 أي سنة الانقلاب البعثي. وكنا عندما نسمع اسم فلسطين والمقاومة من الإذاعة نخاف أكثر لأننا نعرف عن كثب.. كم هي معادية للرصاصة الأولى والثانية وأهلهما وأنصارهما.. تلك الأنظمة التقدمية التحررية الوحدوية.. ولكن الأنظمة زالت وتزول وما زالت الرصاصة الأولى فاعلة تنتظر إشارة البدء مرة أخرى.. وألف مرة.. حتى التحرير.. حتى النصر.

المصدر: المستقبل