الربيع الفلسطيني .. هل يصنعه اللاجئون؟
بقلم: طارق حمّود
قد يبدو عنوان حق العودة بعد 64 عاماً من العناوين السياسية البديهية التي نطرقها كجزئية من خطاب سياسي تقليدي، وقد يبدو مشهد قضية اللاجئين بعد كل هذه السنوات في حالة من الجمود شأنها في ذلك شأن المشهد الفلسطيني العام الذي يعاني هو الآخر من استعصاءٍ سياسيٍ متمثلٍ في ركود اتفاق المصالحة، والمهادنة الآنية للمقاومة وارتطام التسوية بالحائط، وفي حين كان يتصور كل متابع أن يكون المشهد الفلسطيني أكثر ديناميكية من ذي قبل بحكم الحراك العربي الذي انبثق مع بداية ربيع الثورات الشعبية ضد حكوماتها، فإن واقعاً غير متوقع جاء مع هذا الحراك، فثورات العرب كانت ضعيفة التوظيف والاستثمار لشعار فلسطين في ساحاتها نسبياً، بل إن الأسرى وإضرابهم التاريخي الذي يعد سياسياً محاولة جدية لإخراج المشهد الفلسطيني من جموده فضلاً عن كونه إحدى التعبيرات الإنسانية عن حالة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، وقع هو الآخر تحت ظرفية الحالة العربية المشغولة بأولوياتها، ولم نشهد التفاعل اللائق مع معركتهم الأسطورية، وهذا ما عكس طابعاً اجتماعياً سياسياً محلياً لهذه الثورات، وهي ثورات الشعوب التي عاشت عمرها تنبض على إيقاع الساعة الفلسطينية، فكانت هذه الثورات وفي هذه النقطة تحديداً موضعاً لرمي سهام الخصوم إليها، إلا أن هذا الواقع لا يعكس أي حقيقة جديدة من موقف الشعوب العربية من قضية فلسطين، إذ أن بروز الهمّ الداخلي أولاً لا يعتبر منقصة في سياق الحراك الثوري لأي شعب، وهذا ما بدأت به ثورات عالمية كثيرة إذ بدأت ثورات اجتماعية لتنتهي كمركب سياسي لا يستطيع العيش بمعزل عن قضاياه التاريخية.
إن الطموح إلى حراك فلسطيني شعبي يقوم بقلب موازيين الحالة السائدة منذ عقود خصوصاً فيما يتعلق بعملية التسوية السياسية ومفرزاتها وكل ما ارتبط بها قد يبدو مؤجلاً هذه الفترة لأسباب ليس أكثرها الاحتلال وأقلها الانقسام، علماً بأن الشعب الفلسطيني يعيش لحظات تاريخية ما كان ينبغي تفويتها لو توفرت له عوامل قيام ثورة داخلية، إلا أن الطابع الاجتماعي المحلي لثورات العرب قد لا يناسب طموحاً شعبياً فلسطينياً لثورة لا تستطيع أن تكون إلا سياسية بامتياز ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهمٍّ عامٍ مفتوحٍ إقليمياً لا بثورة محدودة المطالب داخلياً، إذ أن الداخل قد لا يستوعب حالة رفع المطالب الاجتماعية إلى أولوياته في ظل وجود الاحتلال. وهذا ليس تبريراً لتخلف الشارع الفلسطيني عن اللحاق بركب الربيع بقدر ما هو محاولة لفهم حيثيات واقعه، فالشارع الفلسطيني وطوال العقود الماضية عاش ولا يزال يعيش كملهم لأي حراك ثوري في المنطقة. إلا أننا لا ننسى أن الفلسطينيين على العموم دائماً ما يعيشون هاجس أي تغيير مرتقب عربياً، فالمشهد العربي التقليدي الذي تميز بوتيرة بطيئة ورديئة لإحداث أي تغيير واضح في معالمه حمل في أكثر من محطة تغييرية كوارث على الفلسطينيين اللاجئين فيه، والذاكرة الجمعية الفلسطينية لا تزال تستحضر أزمة الخليج عام 1991م وما نتج عنها من تشريد لآلاف الفلسطينيين من منطقة الخليج، وكذا الأمر في العراق الذي لا يزال الفلسطيني يجني أشواك التغيير في العراق حتى هذه اللحظة، وليس آخر هذه الذكريات ما جرى للفلسطينيين في نهر البارد في لبنان، كل هذه الذاكرة تبقى حاضرة في الوعي الفلسطيني مع غياب واضح لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية -عن وعي أو لا وعي- عن متابعة أي احتمالات متوقعة على حياة اللاجئين في ظل الربيع العربي، وقد دأب كثير من الكتابات والتحليلات، الفلسطينية خصوصاً، على تصوير الربيع العربي على أنه خير مطلق للقضية الفلسطينية وهو ما نتوافق معه تماماً لكن دون أن نغفل بعض المحاذير التي يمكن حدوثها خصوصاً مع استحقاقات المراحل الانتقالية التي تكون التغيرات الجذرية أهم طابع لها، فالمراحل الانتقالية مرشحة دوماً لكثير من الأخذ والرد في كل مكونات المجتمع الذي يتهيأ للتغير، واللاجئ الفلسطيني كحلقة ضعيفة في المجتمعات العربية ربما يكون مرشحاً بقوة لدفع أثمان الانتقال من حيز الثورة إلى حيز الدولة، فضلاً عن الخشية من وصول بعض الثورات إلى أنظمة سياسية هجينة ما بين مكون ديمقراطي ومكون طائفي وآخر تسلطي، والعراق خير نموذج على هذا النظام الهجين الذي استتبع آثاراً غاية في السوء على وضع اللاجئين الفلسطينيين هناك، إذ تم تهجير أكثر من 30 ألفاً منهم على أكثر من 40 دولة على خمس قارات في العالم.
وهنا وبالعودة إلى نقاش تأثيرات الربيع العربي على القضية الفلسطينية، سنجد أن مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية بخلاف الفلسطينيين في الداخل هم المكون الفلسطيني الوحيد الذي يشترك مع الشارع العربي في الحاجة إلى حدوث تغيير اجتماعي على واقعه بعد حرمانه من العمل وحرية التنقل والتضييق عليه من كل الجوانب.
فالربيع الفلسطيني هو ربيع لا بد أن يزهر في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ومجاميعهم في الدول العربية لعدة أسباب أهمها القواسم المشتركة لقيام ثورات الربيع العربي مع متطلبات حياة اللاجئين الاجتماعية والمحلية، وثانيها أن الربيع الفلسطيني الذي يخوضه اللاجئون هو خير وقاية من الزج بالفلسطينيين في الدول العربية ليكونوا حطب الأزمات الداخلية التي تمثل دوماً عناوين المراحل الانتقالية للتغيير، وهنا لا بد من استذكار ماهية الثورات العربية بأنها ثورات تغيير لا ثورات تعديل، فكل شيء فيها سيكون مرشحاً لأن يكون عنواناً للتغيير، ومنهم اللاجئون الفلسطينيون، وفي ظل ما يعيشه هؤلاء اللاجئون في بعض البلدان العربية فإن التغيير يجب أن يكون مطلب مجتمع اللاجئين نفسه، ولا بد للاجئين أن يخوضوا ربيعهم تحت عنوان المطالب الاجتماعية السياسية المحلية ليكونوا قادرين على إيجاد الربيع الأكبر المتمثل في تحقيق مطلبهم السياسي المتمثل بحق العودة، بعد تمكينهم من حق الحياة الكريمة وتنظيم أنفسهم لخوض معركة المصير.
كما أن عدم قدرة الداخل الفلسطيني على البدء بالربيع ربما يكون ناتجاً من اختلاف أسباب الربيع فلسطينياً وعربياً كما ذكرنا، إلا أن الحالة الفلسطينية أيضاً عاشت على معادلة الداخل والخارج منذ زمن طويل، والوقت مناسب كماً ونوعاً لأن يستعيد الخارج دوره من خلال الانتفاض على واقعه في الدول العربية مستفيداً من مسألتين أولها حالة التحفيز التي خلقتها ثورات الربيع العربي، وثانيها حالة الجمود السياسي الفلسطيني في الداخل، فضلاً عن أن اللاجئين هم المكون البشري الأهم والأكبر الذين وقعوا فريسة التهميش والتطنيش فلسطينياً طوال عمر التسوية التي تقف أمام حائط سميك ومرتفع كما يبدو، وهم المرشح القوي لخوض تجربة ربما تكون الأولى من نوعها فلسطينياً من حيث قيام ثورة لأسباب اجتماعية، حيث أن ربيعاً فلسطينياً سيبقى هو الحل الأمثل لكل محاذير التغيير في العالم العربي.
إن محاذير مشهد الربيع العربي لا تلغي أبداً من قيمته، ولا تضع أية إشارات استفهام أمام معطياته، بل على العكس ربما ستجعل محاكاة المحاذير من هذا الربيع أكثر اخضراراً إذا ما عولجت وقائياً قبل وقوعها، ولكنها ستكون يقينية الحل فيما لو تمت المعالجة فلسطينياً كما سبق آنفاً، وهذا ما يمكن أن يعزز من التفاعلات الإستراتيجية المحتملة لتحولات القضية الفلسطينية في مستقبل الربيع العربي وعلى إعادة التشكيل البنائي للمشروع الوطني الفلسطيني الذي تهشمت جدرانه وأعمدته نتيجة الطبيعة العامة للنظام الرسمي العربي الذي سيمثل ذهابه إحدى أهم مرتكزات إعادة هذا البناء كنتيجة منطقية لزوال أسباب ضعفه.
وربما إشارات وصلت من مصر وتونس وتفاعلهما مع الحدث الفلسطيني رغم جموده أيقظت الأمل في النفوس تجاه القضية الفلسطينية، خصوصاً فيما يتعلق بقوافل كسر الحصار ومسيرة القدس ومسيرات العودة العام الماضي، إلا أن ديمومة هذه الفاعلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوجود فاعلية فلسطينية متينة قادرة على إعادة تحريك اتجاهات الريح العربية وفق متطلبات الهم العام عربياً.
المصدر: علامات أونلاين