الشباب الفلسطيني في لبنان: الواقع والمشكلات
بقلم: جابر سليمان
لا يستقيم الحديث عن واقع الشباب الفلسطيني في لبنان وعمّا يواجهونه من مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية من دون الرجوع إلى المجتمع الفلسطيني الذي يعيش هؤلاء الشباب في كنفه، حيث أن نصف السكان الفلسطينيين في لبنان هم تحت الخامسة والعشرين، بينما تزيد نسبة من يقعون في الفئة العمرية (25 ـ 29 سنة) على ثلث السكان بحسب آخر التقديرات والمسوحات. ويتعرض الفلسطينيون في لبنان بشكل عام ومن ضمنهم فئة الشباب إلى أشكال عدة من التهميش: التهميش الاقتصادي الذي يفرض قيوداً صارمة على حقهم في العمل وعلى الاستفادة من الضمان الاجتماعي؛ والتهميش المؤسسي الذي يستبعد الفلسطينيين من مؤسسات الحياة الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن التهميش المكاني الذي حوّل المخيمات إلى جزر شبه معزولة عن محيطها السكاني ذات وظيفة محددة هي احتواء اللاجئين وخاصة الشباب بوصفهم مصدر خطر وتهديد محتملين للمجتمع المضيف.
غالباً ما ارتبط هذا التهميش للمجتمع الفلسطيني بتاريخ من العنف والتهجير. وفي هذا السياق نشير إلى أن التجمع الفلسطيني في لبنان تعرّض إلى تهجير داخلي متواصل بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة (1978 و1982 و1993 و1996 و2006)، وأيضاً بسبب الحروب الداخلية كالحرب الأهلية (1975 ـ 1990) وحرب المخيمات (1985 ـ 1987) وآخرها الحرب على مخيم نهر البارد (2007) التي أدّت إلى تدميره بالكامل وتهجير سكانه.
يشير تقرير التنمية البشرية العربية (2009) إلى أن أكثر الفئات حرماناً في المجتمعات العربية هم الشباب والنساء واللاجئون. وهذا يعني أن الشباب الفلسطيني، ذكوراً وإناثاً، يعانون حرماناً مزدوجاً لكونهم شباباً ولاجئين في الوقت نفسه. وإذا ما أضفنا إلى ذلك خصوصية وضع الفلسطينيين في لبنان والذي يعتبر الأسوأ في البلدان العربية المضيفة الأخرى، يتضح لنا عمق الحرمان والتمييز والمتعدد الأوجه الذي تتعرض له فئة الشباب الفلسطيني في لبنان وما ينجم عنه من مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية. أما أهم هذه المشكلات فهي:
الفقر والبطالة والاستبعاد من سوق العمل.
تقلص فرص التعليم وخاصة التعليم المهني والجامعي.
التمييز وأزمة الهوية والعلاقة مع الآخر (المجتمع المضيف).
المشكلات النفسية الناجمة عن الإحساس بالاغتراب والحصار وانسداد الأفق وعدم اليقين بخصوص المستقبل (فقدان الأمل).
الأمراض الاجتماعية المرتبطة بحالة التهميش والحصار وانعدام الإحساس بالحماية والأمان الاجتماعي وغياب الإرشاد الأسري والمجتمعي (العنف، المخدرات، الجنس... إلخ). وربما نضيف إلى ذلك كله وقوع الشباب في فخ التطرف الديني الذي تستثمر منظماته بيئة الفقر والحرمان في المخيمات في تجنيد الشباب.
تحت المجهر
تجدر الإشارة إلى أن مشكلات الفقر والبطالة وتقلص فرص التعليم المهني والجامعي وفرص الالتحاق بسوق العمل والعلاقة بين مستوى التحصيل الدراسي وازدياد فرص الدخول إلى سوق العمل، قد دُرست في السنوات الأخيرة بشكل مقبول في الجامعات والمنظمة الدولية ومنظمات المجتمع الأهلي ومنها: المسح الاجتماعي الاقتصادي للفلسطينيين في لبنان (الجامعة الأميركية في بيروت، والأونروا، 2010)؛ مسح القوى العاملة للاجئين الفلسطينيين في لبنان (منظمة العمل الدولية ولجنة عمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، 2011)؛ القدرات الكامنة للناشئة والشباب الفلسطيني في لبنان (جمعية النجدة، 2011).
تقدم تلك الدراسات والمسوحات معطيات كمية وكيفية عن أوضاع الشباب الفلسطيني فيما يتعلق بمشكلات العمل والبطالة والفقر، ويمكن الرجوع إليها للحصول على رؤية مفصلة لهذه المعطيات. ومن جهة أخرى تكمن أهمية هذه المعطيات في تزويدنا بجذور المشكلات الأخرى المرتبطة بالأمراض الاجتماعية والنفسية وتلك المرتبطة بالهوية والتي لا يكتمل فهمها من دون الرجوع إلى جذرها الاقتصادي/ الاجتماعي.
وفي واقع الحال لم تنل المشكلات الأخيرة وخاصة العنف الأسري والمخدرات والاستغلال الجنسي للأطفال والاتجار بالأشرطة الإباحية وسهولة الحصول عليها في بعض المخيمات... إلخ، ما تستحقه من دراسة واستقصاء، وعلى العكس من ذلك، غالباً ما تم التعتيم عليها بل ونكرانها، وهذا هو موقف الأهل والمجتمع والمؤسسات، وخاصة المؤسسات الدينية التي كانت تتذرع بذرائع «أخلاقية» مختلفة، وكأن نكران هذه الأمراض يعني عدم وجودها أو يؤدي إلى الحد من انتشارها.
دور الجمعيات الأهلية
لا يوجد إلا عدد قليل من الجمعيات الأهلية الفلسطينية التي تتبنى برامج عملية لمعالجة هذه المشكلات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «بيت أطفال الصمود» الذي يدير أربعة مراكز للإرشاد الأسري في المخيمات، ومنها أيضاً «اتحاد المرأة الفلسطينية» الذي يدير مركزين للإرشاد النفسي/ الاجتماعي. وتهتم بعض المنظمات الدولية مثل اليونيسيف بهذا الموضوع وتتعاون مع منظمات غير حكومية محلية ودولية في هذا الخصوص. ولكن الجهد المبذول حتى الآن في معالجة هذه المشكلات غير كاف ولا يتلاءم مع حدتها وخطورتها على مستقبل الشباب الفلسطيني وخاصة في المخيمات.
وفي هذا الصدد، لا بد من التأكيد على المسؤولية المشتركة التي تتحملها الدولة اللبنانية بوزاراتها المتخصصة ومنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية ومنظمات المجتمع الأهلي والأونروا في معالجة الأسباب الجذرية لهذه المشكلات ومقاربة البيئة الحاضنة لها في المخيمات، عبر تقديم الحلول والمعالجات العملية من خلال تبني مفهوم شامل للأمن البشري وفي إطار النموذج الكلي للتنمية.
الخصوصية الثقافية
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى ضرورة اعتماد مقاربات لا ترتكز على النماذج الغربية للطفولة والشباب، بل نماذج ترتكز إلى الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا العربية ومنها المجتمع الفلسطيني، فالطريقة التي يتفاعل فيها الشباب في ثقافتنا مع واقع اللجوء الممتد والطويل وفي التغلب على المشكلات والمصاعب تختلف بالضرورة عن طريقة الشباب في الثقافات الغربية الأخرى. وفي هذا النطاق عقدت الأونروا مؤتمراً دولياً في بروكسل في آذار/ مارس 2012 تحت عنوان: «إشراك الشباب: لاجئو فلسطين في شرق أوسط متغير». وقد انتهى المؤتمر بإعلان المفوض العام للأونروا فيليبو غراندي سلسلة من الالتزامات تجاه الشباب الفلسطيني (15 ـ 29 سنة) والتي تقدر الأونروا أن عددهم في مناطق عملياتها سيصل مليوناً ونصف مليون شاب مع حلول العام 2020، وتشتمل هذه الالتزامات إيلاء اهتمام أكبر بالشباب في برامج التعليم والتدريب المهني والصحة والقروض الصغيرة وبرامج المناصرة... إلخ.
ولكن كلنا نعلم مدى عدم كفاية برامج الأونروا وقصورها في جميع المجالات، الأمر الذي يرتب مسؤولية أساسية على الأطراف الأخرى وخاصة م. ت. ف. والدولة اللبنانية.
أما فيما يتعلق بإشكالية الهوية والانتماء، فقد كنت أجريت في العام 2007 حلقة نقاش مع مجموعة من الناشئة الفلسطينية (15 ـ 17 سنة) في مركز الأطفال والفنون/ مخيم شاتيلا، وخلال النقاش ركز المشاركون على مشكلات التهميش والتمييز والإحساس بالعزلة التي يواجهونها ويعيشونها في المخيم. وعرّفت إحدى المشاركات معنى الهوية بكلمة واحدة هي «لاجئ»، وقالت مشاركة أخرى إن الفلسطينيين «معزولون لأنهم في لبنان وحدهم مميزون»، وأكدت «دانيا» فكرة العزلة بكلمة: «مهمّشون». وأشار مشارك إلى أن أهم مشكلة يواجهها الفلسطيني بخصوص الهوية هي «عندما يذهب لإنهاء معاملات رسمية أو يسافر». وقال مشارك آخر: «الهوية إحساس ومشاعر وكل ما يحيط بنا يذكرنا بفلسطين: السكن في المخيم، الوضع المعيشي، الذهاب إلى مدارس الأونروا، اللجوء وقبل أي شيء الناس في المحيط الذين يقولون لي كل يوم بأنني فلسطيني».
ولعل المشارك الأخير لخص في عبارته الأخيرة ما يسميه علماء الأنثروبولوجيا «الهوية السلبية»، أي تعلم الإنسان هويته من خلال التمييز الذي يمارسه الآخرون بحقه. فإن لم تكن واحداً منا فمن أنت؟! وهذا التمييز يدفع هذا المشارك إلى التمسك بهويته ليقول: «المشاكل تجعلني أتمسك أكثر بهويتي لأنها تزيدني إصراراً على الرجوع إلى بلدي».
السؤال إلى متى يستطيع هؤلاء المشاركون وأقرانهم من الجيل الثالث للنكبة التكيّف مع تحديات اللجوء والهوية في واقع اجتماعي ونفسي أليم لا يبدو أن ثمة أملا لتغييره نحو الأفضل أو حل مشكلاته المزمنة في المدى المنظور؟! هذا هو التحدي الذي يواجه الفلسطينيين في لبنان جميعاً، على مستوى م. ت. ف. أو الفصائل أو المجتمع الأهلي. وهذا هو معنى المسؤولية المشتركة.