العبث الثوري
د.عصام عدوان
ليست المرة الأولى التي مارست فيها حركة فتح العبث
الثوري وهي تدخل حلبة المفاوضات للمرة الألف، وفي كل مرة تقدِّم تنازلات جديدة، الآن
بدأت المفاوضات واستمر الاستيطان اليهودي في الضفة "على عينك يا تاجر"، وبدأ
التفاوض على إمكانية السماح للمستوطنين اليهود بالصلاة في المسجد الأقصى في أوقات يتفق
عليها، وتبدي فتح استعدادها الكامل إلى الاعتراف بـ"يهودية دولة (إسرائيل)"،
وبضم الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة والأغوار إلى أراضي الـ(48)، مع بقاء الجدار
العازل ال.ي قضم 9% من أراضي الضفة، فلم يتبق من الضفة للتفاوض عليه سوى نصفها تقريبًا.
مفاوضات عبثية هي حصيلة طبيعية لعبث ثوري، دعا في
منطلقه إلى "فلسطنة" القضية الفلسطينية، بانتزاعها من العمق العربي والإسلامي
ووضعها في يد فصائل فلسطينية، دعت فتح في بدايتها إلى توريط الدول العربية في تحرير
فلسطين وفق شعار "التوريط الواعي" ال.ي رفعته إبان انطلاقتها، رفعت فتح شعار
"عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية"، لكنها تمادت في إسقاط هيبة
النظام في الأردن، إلى أن رفع ياسر عرفات شعار "عمان هانوي الثورة"، ال.ي
يعني أن تحرير فلسطين يمر عبر إقامة كيان ثوري في عمّان، وكانت ه.ه أعلى صور التدخل
في الشأن الأردني، ليتلو .لك صراع دموي أدى إلى إزهاق أرواح ما يقرب من ثلاثين ألف
فلسطيني وأردني في عامي 1970م و1971م، خرجت فتح مهزومة من الأردن وهي تحمل روح الانتقام،
فأسست مكتب شئون الأردن ال.ي يرمي إلى إسقاط النظام في الأردن بشكل صريح، وشرعت في
ترتيب اغتيالات ضد رموز النظام بدأتها باغتيال رئيس وزراء الأردن وصفي التل في أواخر
عام 1971م، ومحاولة اغتيال سفير الأردن في بريطانيا بعد .لك، واستهداف بعثات دبلوماسية
أردنية في عدد من الدول.
وفي لبنان انخرطت حركة فتح في الشأن الداخلي اللبناني
بشكل سافر حتى أصبحت طرفًا في الحرب الأهلية، وخلال تلك الحرب جنّدت فتح استخباراتها
للبحث عن السفير الأمريكي المخطوف واستعادته، وطلبت من السفارة الأمريكية التنسيق معها
لحماية موظفيها، واستمر ه.ا الحال حتى خروجها من لبنان، ولم تكتفِ فتح بتوفير الحماية
للأمريكان في لبنان، بل أيضًا أفشلت محاولة لاستهداف السفارة الأمريكية في روما، لم
تودع فتح الساحة اللبنانية قبل أن تدير صراعًا دمويًّا مع المنشقين عن الحركة في معارك
طرابلس أواخر عام 1983م، التي .هب ضحيتها أكثر من ثلاثمائة قتيل، وانتهت بقطع العلاقات
نهائيًّا مع سوريا التي دعمت المنشقين.
وعندما زار السادات الكيان العبري في عام 1977م
تعرَّضت له حركة فتح بهجوم إعلامي كبير، حتى دعت قياداتها لقتل السادات، فقال عرفات:
"إن شعب مصر ال.ي قتل النقراشي على خيانته لقادر على تصفية ه.ا الخائن"،
وقال بعيد اغتيال السادات: "ه.ا هو مصير ال.ين يخونون القضية الفلسطينية"،
ربما لم يتوقع عرفات في تلك اللحظة أنه سيعترف يومًا ما بـ(إسرائيل) ويتعاون أمنيًّا
معها في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وك.ا فعل خليفته.
ودخلت فتح في اتصالات سرية مع الأمريكان من. عام
1972م، أدت إلى تعاون أمني لمصلحة الأمريكان، إلى الدرجة التي دفعت فتح إلى التوسط
لدى إيران للإفراج عن الرهائن الأمريكان في عام 1980م، وأدت أيضًا إلى ترويض فتح لقبول
قرار (242)، ال.ي شكّل مدخلًا للولوج إلى "الحل السلمي" ال.ي توجته فتح بتوقيع
اتفاق أوسلو والاعتراف بـ(إسرائيل).
كما أدارت فتح اتصالات سرية باليسار الإسرائيلي
بدءًا من عام 1976م، يقودها عضو لجنتها المركزية آن.اك محمود عباس، كان من بين نتائجها
إنهاء المقاطعة الإفريقية للكيان العبري.
وأساءت فتح استثمار الانتفاضة الفلسطينية الأولى،
إ. .هبت في أواخر عام 1988م باتجاه طرح "مبادرة السلام الفلسطينية" التي
تقبل القرارات الدولية التي سبق أن رفضتها، وتنب. الإرهاب، وتعترف بأن لـ(إسرائيل)
حقًّا في الوجود والعيش بسلام، لقد كانت تلك المبادرة أسوأ استثمار لنضالات وتضحيات
الشعب الفلسطيني، وكان طبيعيًّا بعد ه.ا التطور السلبي أن توقع اتفاق أوسلو، وأن تمضي
في طريق التعاون الأمني مع الاحتلال لضرب المقاومة الفلسطينية، وملاحقة رجالاتها بالاعتقال
والتع.يب ومصادرة الأموال وبالقتل، حتى وصل بها الأمر لتحرض الاحتلال على مهاجمة قطاع
غزة للقضاء على حركة حماس حركة مقاومة، وتأليب الدول العربية عليها، والعمل على إفساد
علاقاتها مع دول الربيع العربي.
من الواضح أن مسار حركة فتح من. بداياته حتى اللحظة
يسير في حالة مرتجلة من العبث الثوري، لم توصلها إلى أهداف الشعب الفلسطيني، وإنما
أوصلتها لأن تصبح .راعًا فلسطينية للكيان العبري، يحقق من خلالها أهدافه السياسية والتوسعية.