العدوان على
غزة.. جرد حساب
بقلم: عدنان
أبو عامر
أعلنت إسرائيل
منذ اليوم الأول لعدوانها الجاري على قطاع غزة جملة أهداف له من أهمها: توجيه ضربة
قاسية لحركة حماس، ووقف إطلاق الصواريخ، وضرب شبكة الأنفاق، واستعادة الهدوء لسكان
الجنوب الإسرائيلي.
لكن مرور قرابة
الشهر على هذا العدوان، يحرم إسرائيل من الإعلان عن تحقيق تلك الأهداف المعلنة،
رغم نجاحها بتحقيق هدف آخر بقي طي الكتمان، متمثلا بارتكاب مجازر بشرية بحق
المدنيين الفلسطينيين، حيث زاد العدد حتى الآن عن 1800 شهيد معظمهم من الأطفال
والنساء والمسنين.
شح المعلومات
جاء الإخفاق
الإسرائيلي في تحقيق تلك الأهداف مستندا لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية،
يمكن تركيزها فيما واجهه الجيش الإسرائيلي من مقاومة عنيدة في غزة، كبحت جماح
تقدمه نحو القطاع، وقد خرجت العديد من التسريبات الإسرائيلية، والتأكيدات
الفلسطينية على ضراوة المقاومة على مشارف غزة الشرقية.
وبعد مرور أيام
قليلة على انطلاق العملية البرية الإسرائيلية، شنّت أوساط إسرائيلية نافذة هجوما
سافرا على الحكومة، لأنّ العمليّة العسكريّة ضدّ حماس في غزّة لم تُحقق أيّا من
أهدافها، التي وضعها المستوى السياسيّ، لأنّ الجيش لم يتمكّن من منع حماس من
مواصلة إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل.
كما لم يستطع
الجيش حلّ مشكلة الأنفاق، التي باتت تُشكّل خطرا إستراتيجيّا، ولأنّ الصواريخ ما
زالت تتساقط على العمق الإسرائيلي، رغم العمليات العسكريّة للجيش، ولم يعد من
المعقول أنْ تتمكّن منظمة صغيرة جدا مثل حماس من إلحاق هذه الأضرار بإسرائيل.
جاء ذلك عقب
حديث إسرائيل المتواتر عن مستويات تراجع الجيش خلال المواجهات التي اندلعت مع
المقاومة على حدود غزة، في ضوء أن الجنود يحاربون في ظروف ميدانيّة معقدة، مما منح
حماس ما اعتبره الإسرائيليون إنجازا إستراتيجيا بعد أسرها الجندي، وهو إنجاز ينضم
لعدة إنجازات إستراتيجيّة حققتها الحركة، وعلى رأسها إغلاق أجواء إسرائيل أمام
الملاحة المدنية عدة أيام، وإجبار ملايين المستوطنين على النزول في الملاجئ.
إخفاق آخر واجه
الجيش الإسرائيلي تمثل في نقص المعلومات الاستخباريّة عما يمكن أن يواجهه حال
اجتياح بري للقطاع، ولذلك جاءت التحذيرات من مستويات قيادية عليا فيه من مغبة تعمق
الجيش أكثر داخل المناطق المكتظة في غزة، نظرا لمخاطر ذلك باحتمال خطف جنود.
كما أن حماس
تنتظر الفرصة لاختطاف عدد من الجنود، والتلويح بهم كصورة النصر النهائية في الحرب،
في ضوء أنّ حماس لديها تفوق على المستوى الأرضي، وحولت أرض القطاع "مترو
أنفاق" يختفي فيها مقاتلوها من مناطق المواجهة، ويخرجون خلف خطوط القوات
ليهاجموهم.
الملفت في
الاعترافات الإسرائيلية بتهاوي "الجرف الصامد"، وهو اسم العملية
العسكرية، أنها جاءت على وقع استمرار مقاتلي حماس بإطلاق النار، والتسلل داخل
المستوطنات، يقتلون ويصيبون العشرات من الجنود، ما يعني أنّ الجيش لم يستعد بجديّة
للحرب، وأنّ حماس فجرت "الفقاعة" في وجه إسرائيل، وكبدتها خسائر فادحة
من القوات العسكريّة والمدنيّة والبنى التحتيّة.
وكل ذلك يعني
أنّ المعنى الإستراتيجي لما يحدث هو أن السيادة الإسرائيلية قد انتُهكت، وأن الجيش
لا يستطيع إسكات النار التي تُطلق على المستوطنات، مع عدم القدرة على إحراز حسم
واضح في معارك التماس، وأنّ قوة إسرائيل الإقليميّة لم تنجح بالتغلب بشكل حاسم على
حماس.
ضراوة القتال
كما أن القتال
المتواصل في غزة كشف للإسرائيليين مواضع خلل مقلقة في الجيش الإسرائيلي،
بالاستعداد للمعركة وشكل إدارتها، لأنّ القيادة العسكرية اعتادت استخدام قوة نار
كبيرة لتنفيذ خطط عملياتيّة نموذجية ومتوقعة مسبقا، وهو ما لم ينجح في غزة هذه
المرة رغم الكلفة البشرية الباهظة من الضحايا الفلسطينيين، لأن الاستعداد للحرب
أمام "عدو" مصمم وقليل الميزانيّة كحماس التي طورت ردودا على التفوق
الجوي والاستخبارات المتطورة الإسرائيلية منع الجيش من الحيل والمفاجآت، واستند
أساسا لسلاح الجو، في ظل إهماله للقوات البريّة والوحدات الخاصة.
أكثر من ذلك،
فقد كشفت الاشتباكات العسكرية مع مقاتلي حماس عن إخفاق استخباري باكتشاف منظومة
القيادة والتحكم لديها، والعثور على أمكنة قادتها، فكتائب القسّام ما زالت تواصل
التحكم بقواتها، وإطلاق الصواريخ على إسرائيل، والهجوم على القوات المتوغلة على
مشارف غزة، وفي ظل غياب المعطيات الاستخبارية اختار الجيش استخدام النيران الكثيفة
ضد المناطق المأهولة، وتعريض المدنيين الفلسطينيين للقتل والتشريد.
ولذلك بدأت
تطرح في إسرائيل أسئلة خطيرة أمام قادة الجيش تحاول تفسير الإخفاق العسكري أمام
حماس في غزة مثل: ماذا علمتم وماذا لم تعلموا، وماذا فعلتم وماذا لم تفعلوا، وهل
كان ينبغي الانتظار عشرة أيام حتى بدء العملية البريّة، أم كان يُفضل السبق ودخول
غزة، وأي من الاثنين القصف وإطلاق القذائف أجدى لتنفيذ المهمة وأيّهما أضرّ بها،
وهل أخطار المستقبل كامنة في الأنفاق أم القذائف الصاروخيّة؟ مما دفع للقول إنه
بعد انتهاء الحرب سيضطر مراقب الدولة في إسرائيل لفحص سلوك المجلس الوزاري الأمني
المصغر أثناء القتال.
ولعل الشواهد
الإسرائيلية على الإخفاق الميداني في غزة، لا تقتصر على اعترافات الجنرالات
وشهادات الجنود، بل وصلت ذروتها إلى الحلبة السياسية، والدعوات المتتالية إلى عدم
الثقة بما تقوله النخب السياسيّة والعسكريّة والمعلقون بشأن تقدير قوة حماس، لأنهم
ضللوا الرأي العام الإسرائيلي من خلال الانطلاق من افتراضات مضللة بشأن الحركة
وقدراتها، وحاولوا إقناع الجمهور بأن حماس ضعيفة، وهي بالتالي غير معنية وغير
قادرة على فتح مواجهة مع إسرائيل.
لكن المواجهات
الضارية في غزة بينت أنها تقديرات غير دقيقة وغير واقعية البتة، واتضح خلال أيام
الحرب الجارية حاليا أن أياما كثيرة مرت دون أن تتمكن إسرائيل من معالجة التهديدات
القادمة من غزة، وأنّ مزاعمها تأتي للتغطية على فشلها الاستخباري، وعدم تمكنها من
الحصول على معلومات أمنية تمكنها من المس بمنصات إطلاق الصواريخ، وهيئات القيادة
والتحكم التابعة لكتائب القسّام، ولذلك يبدو بشكل واضح أن قائمة الإنجازات التي
حققتها حماس تبدو أكبر مما حققته إسرائيل.
أكثر من ذلك،
فإن مسار الحرب في غزة دلّل على أنّ المنطق الذي تتبعه حماس أثبت نجاحه، وفقا لما
نقله جنود إسرائيليون نقلوا للعلاج في المشافي الإسرائيلية، لأنّ الساسة والعسكر
هذه المرة انطلقوا في تخطيطهم للحرب من نتائج المواجهات السابقة مع حماس، مع غياب
عنصر الإبداع في التفكير العسكري كما يعكسه مسار الحرب الدائرة، حين صدمت حماس قيادة
الجيش بمفاجآتها العسكرية، ولا يبدو الجنرالات قادرين على تتبع هذه المفاجآت.
لجان التحقيق
وربما أثارت
عملية "ناحل عوز" العسكرية، عدة تساؤلات حول أداء القوات الإسرائيلية في
الميدان، والقرارات التي اتخذت لنشر القوة الدفاعية في الموقع، واستغلال مقاتلي
حماس حفرهم للأنفاق للقيام بتنفيذ مثل هذه العمليات داخل خطوط العدو، حتى تكون
رمزا لإنجازاتها في تصديها للعدوان ضد غزة، وإن بث الفيديو عبر وسائل الإعلام جاء
لإثبات نصر مؤكد في العملية لحماس، وفشل المنظومة الأمنية العسكرية الإسرائيلية،
لأنها فشلت في عملياتها ضد الأنفاق الهجومية، مقابل نجاح حماس أكثر من خمس مرات
باقتحام عدة مواقع عن طريق الأنفاق التي تمر تحت السياج الحدودي.
ولعل أكثر ما
لفت الانتباه في التعليقات الإسرائيلية على ضراوة عمليات القتال في غزة، وتصدي
المقاومة للجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل افتقرت في هذه الحرب لقيادة حقيقية قوية
وحازمة لها رصيد وقوة دعم داخلية، وتحظى بثقة واسعة في الساحة الدولية، ولذلك فإن
الردع الإسرائيلي يتعرض هذه الأيام لضربة تلو الأخرى، وإسرائيل تنجر من حالة سيئة
لأسوأ، والعمليّة العسكريّة تتحول بسرعة لحالة من الفضيحة القوميّة.
بل إن العمليّة
العسكريّة الجارية لم تنجح حتى بتصفية قيادات فلسطينية بارزة، ما يعني أنها جاء
بمثابة مأزق قوي للقيادتين السياسية والعسكرية، لأنّ أهداف العملية لم تتحقق حتى
الآن رغم مرور كل هذا الوقت، ولذلك بات القادة الكبار في الجيش والساسة المتنفذون
في الحكومة يستعدون للجان تحقيق سيتم تشكيلها لاحقا بعد انتهاء العدوان على غزة،
بسبب حالة الاستهتار وتعاظم الإخفاقات في الحرب والمواجهة مع المقاومة على حدود
القطاع.
ومن يستمع
للقادة الكبار يشعر بأنهم بدؤوا يتحدثون عن لجان التحقيق التي سيتم تشكيلها لاحقا
حول قضية الأنفاق، والإنجازات المحدودة التي حققها الجيش في العملية العسكرية منذ
بدئها.
ومن المؤكد أن
مراجعة سريعة لوقائع القتال في غزة المستمر منذ شهر كامل حتى كتابة هذه السطور،
تشير إلى فروق واضحة المعالم بين قدرات الجيش الإسرائيلي في مجال الدفاع
والمعلومات الاستخبارية التي اهتزت وضعفت كثيرا، مقابل نضج حماس وقدرتها على تكبيد
إسرائيل خسائر كبيرة، وقد باتت أكثر جاهزية في البحث عن أهداف عسكرية لضربها عن
طريق عمليات الاقتحام، وإطلاق صواريخ على مركبات عسكرية.
الجزيرة نت،
الدوحة، 5/8/2014