القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

العملاء والجواسيس .. خزّان بشري لإسرائيل

العملاء والجواسيس .. خزّان بشري لإسرائيل

بقلم: عدنان أبو عامر

مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة، أصدرت منظمة العفو الدولية (أمنستي) أواخر مايو/ أيار الماضي تقريراً يتناول إعدام عدد من الجواسيس الفلسطينيين في أثناء تلك الحرب، معتبرة إياها جرائم حرب، ما استدعى مواقف متباينة بين إسرائيل والفلسطينيين، خصوصاً مع بدء إجراءات توجه السلطة الفلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية، والتهديد الإسرائيلي برفع دعاوى قضائية ضد قادة فلسطينيين، بتهمة إصدار أحكام الإعدام تلك. ولئن كان الموقف الأولي من ظاهرة التجسس والعمالة للمخابرات الإسرائيلية لا يحتاج إلى جهد كثير في إدانتها، واستنكارها، فإن طريقة الإعدام نفسها، خصوصاً أمام مرأى وكالات الأنباء العالمية ومسمعها، بحاجة إلى توقفٍ كثير، في ضوء استغلال إسرائيل لها أبشع استغلال، ما حدا بها إلى تشبيه ما قامت به المقاومة الفلسطينية ضد العملاء بما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، في مسعى منها إلى توظيف قتالها ضد الفلسطينيين ضمن التحالف الدولي ضد ذلك التنظيم.

"قوى المقاومة الفلسطينية فهي مطالبة بإرجاع العملاء الذين لم يرتكبوا جرائم قتل أو جرائم كبرى ضد شعبهم، إلى أحضان المجتمع، إن أرادوا التوبة"

بنك الأهداف

هنا يجدر الحديث عن قضية العملاء التي لم تأخذ حيزها المطلوب في البحث والدراسة والتحليل، في ضوء حجم الاعتماد الإسرائيلي الأمني والاستخباري عليهم في تحديث "بنك الأهداف" الخاص بفصائل المقاومة. فقد اعتمد الجيش الإسرائيلي في قصف المواقع الفلسطينية في حروبه العدوانية الثلاث على غزة: 2008، 2012، 2014، على ثلاثة مصادر لجمع المعلومات: امتلك سلاح الجو الإسرائيلي صوراً جوية وخرائط لمعظم مباني غزة، وبدا واضحاً أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تابعت، منذ الانسحاب من قطاع غزة أواخر 2005، كل الأبنية والتجمعات في القطاع التي قد تثير الشبهات، وتضعها تحت المراقبة، إلى جانب التنصت الدائم على المكالمات والاتصالات بين قادة المقاومة ونشطائها، فضلاً عن المعلومات التي يوفرها الجواسيس والعملاء، حيث تركزت مهامهم في رصد حركة كوادر المقاومة. حتى أن قائد جيش المظليين السابق في الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، وهو رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الحالي، أكد أن الحروب الإسرائيلية الثلاث الأخيرة على غزة كانت مميزة، بدت فيها المواجهات شفافة، "لأننا تلقينا معلومات وتوصيفات عينية، إلى حد الإشارة إلى منازل مفخخة بجانب عمود الكهرباء ذاك، أو خلف شجرة التوت تلك، بل تفادت دباباتنا الدخول في حقل ألغام عدة مرات، ولو انفجرت، لتناثرت جثث جنودنا لكل الجهات. لذلك، شكلت الحروب على غزة قصصاً لنجاح الاستخبارات".

وبمراجعة سريعة لأبرز أدوار العملاء في حروب غزة، يتضح أنها تركزت على نشر الإشاعات، تحديد أهداف المقاومة للجيش الإسرائيلي، وكشف خطط المقاتلين، إطلاق النار عليهم، يقومون بدور الدليل لجيش الاحتلال في أثناء بعض الاجتياحات البرية، تعقب المقاتلين، وتحديد مواقعهم للجيش، تقديم معلومات عن منازل المقاتلين والقادة، وأماكن وجودهم، التجسس على الهواتف الأرضية والخلوية، إرسال الإشارات إلى الطائرات الإسرائيلية، لتقصف المواقع المستهدفة، التخريب على المقاومة بقطع أسلاك العبوات الناسفة.

ومن أهم وسائل العملاء وأساليبهم المستخدمة في أثناء حروب غزة الأخيرة: أجهزة المراقبة والاتصال مع الاحتلال الإسرائيلي بصورة مباشرة، بعض الأسلحة التي يراها الجيش الإسرائيلي بوضوح، مثل الطلقات الضوئية وأجهزة الليزر، التشويش على أجهزة الإرسال التي يتعامل بها المقاومون، التقرب منهم لمعرفة نقاط وجودهم، التخفي والتمويه بشكل لا يلاحظه المقاومون، واستخدام أسلحة كاتمة للصوت لإطلاق النار.

لم يستطع العملاء القيام بأدوارهم "القذرة" لخدمة الجيش الإسرائيلي، من دون وجود بنية تحتية لهم، تتمثل بإنشاء شبكات للتجسس، لتكون عينه وأذنه على المقاومة الفلسطينية التي انطلقت لمقارعته، عبر تجنيد الأفراد والتسليح والتدريب والعمل الفدائي ضد جنوده، ومواقعه وأهدافه، ما دفع أجهزة المخابرات الإسرائيلية إلى السعي إلى ملاحقة أفرادها واعتقالهم، بشتى الطرق والوسائل، كان من أخطرها وسيلة العملاء ممن سقطوا في وحل الخيانة.

"أدرك الاحتلال الإسرائيلي أنه، مهما امتلك من التكنولوجيا العسكرية والأمنية، لا استغناء له عن العملاء على الأرض"

وقد شنت المخابرات الإسرائيلية حرباً لا هوادة فيها ضد الفلسطينيين، مستعينة بأدواتها من العملاء الذين أسقطتهم، حتى أوجدت "طابوراً" منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، في تطبيق خطير لمقولة المؤرخ العالمي، أرنولد توينبي، حين ذكر "أن 19 حضارة من أصل 21 تقوّضت من الداخل، بواسطة شبكات التجسس والمخبرين"، وتصريح الجنرال الفرنسي، نابليون بونابرت، حين أكد أن "عميلاً واحداً في مكانه الصحيح يساوي 10 آلاف مقاتل في ساحة المعركة".

صندوق المعلومات

يطلق الإسرائيليون على العملاء الكلمة العبرية "سيعانيم"، بمعنى مساعدين، وهم "الفلسطينيون المسجلون رسمياً بأن لهم ارتباطاً استخبارياً مع إحدى فروع الأمن الإسرائيلية العاملة في المناطق المحتلة: جهاز الشاباك، الشرطة، الجيش، الإدارة المدنية، ويشمل أشكالاً مختلفة من العملاء الذين يزودونهم بالمعلومات الأمنية المتسببة باعتقال المطلوبين، وإلحاق الضرر الجسدي بهم"، وفي الواقع الفلسطيني، توجد عدة مرادفات لمفهوم التجسس، هي: خائن-عين- متعاون- عميل، ويعتبر المفهوم الأخير من أكثر المفردات استخداماً، وأحدثها عمراً، ولا يمثل إلا وجهاً واحداً يتمثل بخدمة الاحتلال، والعمل لمصلحته، ضد الوطن والشعب.

وتشبه فكرة تجنيد العملاء لدى المخابرات الإسرائيلية، إلى حد بعيد، عملية دحرجة صخرة من تلة مرتفعة إلى هاوية سحيقة، حيث يؤخذ المستهدف، وجعله يتدحرج في السقوط تدريجياً، فيتم دفعة منحدراً عن التلة بطريق الخداع والاستدراج إلى هاوية التعامل والارتباط، ولكي يتم ربطه جيداً، يجب تجهيزه وتحضيره، بإيجاد القابلية والاستعداد لديه، أو التسبب له بمشكلات تدفعه إلى الهاوية. لذلك، استخدمت المخابرات الإسرائيلية الوسائل والطرق الخفية والملتوية من الخداع للحصول على "ضحاياها".

ولَعِب جهاز "الشاباك" دوراً بارزاً في القيام بأعمال التجنيد والإسقاط للجواسيس لإخضاع الفلسطينيين، وإجهاض انتفاضاتهم، ويعمل فيه آلاف العملاء السريين، ومعظم أعماله سرية، فهو يتولَّى، عبر شبكات العملاء التي يحتفظ بها، تزويد المستوى السياسي بالمعلومات التي تساعده على اتخاذ القرارات الحاسمة، فضلاً عن أن جميع العمليات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة تعتمد، بشكل أساسي، على المعلومات التي يجمعها الجهاز عبر عملائه.

وأدرك الاحتلال الإسرائيلي أنه، مهما امتلك من التكنولوجيا العسكرية والأمنية، لا استغناء له عن العملاء على الأرض، حتى باتت عملياته الميدانية رهناً بنجاحه في إدارة عملائه، ما جعل أجهزته الاستخبارية تركز معظم اهتماماتها على هذا الجانب، وترصد له المبالغ الطائلة. وبذلك، حرصت الاستخبارات الإسرائيلية على تنويع أساليب عمل العملاء، بما يتناسب مع كل مرحلة، وإن كانت بمجملها أساليب مشتركة، مع بعض الاستحداث الذي يتطلبه كل منها.

ولم تورد جميع المصادر الإسرائيلية والفلسطينية عدداً محدداً للجواسيس والعملاء، وبسبب هذا الغموض والتناقض في الإحصاءات المتوفرة عن حجم الظاهرة، يكتفي البحث بالتأكيد على وجودها بشكل واقع ومفروض، مع عدم القطع أو الجزم بتقدير حجمها، واعتبار الأرقام والإحصائيات الواردة تقريبية فقط. وهناك عامل يتعلق بعدد أهالي العملاء الهاربين إلى السكن داخل "إسرائيل"، واعتبارهم ضمن الظاهرة، فضلاً عن دور الحرب النفسية في عدم التحديد الدقيق لحجمها، أو في تضخيم العدد، ومقتل بعضهم، و"توبة" بعض آخرين، وتخليهم عن العمالة.

حرب العقول

اجتهدت المخابرات الإسرائيلية في البحث عن أساليب ووسائل إسقاط الفلسطينيين في براثن العمالة، والتجسس لصالحها، ودأبت على التنويع في الآليات التي تستخدمها، وعملت دوماً على تطويرها وتحديثها، معتمدة على توارد المعلومات وتحليلها، ثم وضع الخطط، واتخاذ الإجراءات اللازمة للنيل من الخصم، وإلحاق الأذى به، على المستويات النفسية والمادية والبشرية، وضرب روحه المعنوية والقتالية.

وهو ما دفع رئيس الشاباك الأسبق، يعكوب بيري، إلى القول إن عملية تجنيد العملاء تعتمد، أساساً، على القدرات "الإبداعية" التي يتمتع بها القائمون على المهمة، وقدرتهم على تطوير أدائهم، بما يتناسب مع ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ما يدفع إلى وصفها بـ"حرب عقول" مفتوحة.

وتتمحور أساليب الإسقاط التي تستخدمها المخابرات الإسرائيلية في جملة من الطرق، ودمجها معاً ضمن عملية تكاملية لتحقيق الهدف المرجو، ومحاولة إقناع العميل "الضحية" بأن الارتباط هو الطريق الأسهل لتحقيق الأماني والأحلام الوردية، والادعاء بأن الإسرائيليين قادرون على حمايته، ومنع المقاومين من الوصول إليه. لكن، هناك أهم ثلاثة صنابير رئيسة لتجنيد العملاء، هي: المال، والحاجة المادية، العاطفة الأيديولوجية أو الانتقام، الجنس، والملذات الشخصية.

ويبين هذا أن التجنيد لا يتم ارتجالاً أو عفوياً، بل بصورة ممنهجة مدروسة بدقة وعناية، حيث يمر المرشح بمراحل عدة من الاختبارات قبل تجنيده، وتتناول الاستقصاءات حوله كل الأمور، فإذا مضى بنجاح، يتم تعيينه بشكل نهائي، من دون أن يتم وضعه في الاختبار، أو تطبيق جهاز كشف الكذب عليه، كما دأب "الشاباك" دائماً على ابتكار الوسائل المتنوعة لتجنيد أكبر عدد ممكن من العملاء لصالح أجندته الاستخبارية، لأنه لا سبيل لنجاح تكنولوجيته بتحقيق أهدافه، والسيطرة على المعلومات، من دون زرعهم بين الفلسطينيين.

"المخابرات الإسرائيلية تستخدم كل وسيلة غير مشروعة، وعمل لا أخلاقي، في سبيل إسقاط العملاء، ليصبحوا ضحايا تتهاوى في شباكها"

وسعى "الشاباك" إلى المحافظة على عنصر التفوق الميداني، المتمثل بعملائه، دعماً لآلته العسكرية، في ضوء أن الحرب الاستخبارية لا تقل خطورة عن نظيرتها العسكرية، ما دفعه إلى أن يولي ملف العملاء أهمية كبيرة، بدراسة الآليات الجديدة المتبعة في التجنيد، والتواصل معهم، مستعينة بما يتوفر من تجارب واقعية، وخبرة مسبقة.

وتمر عملية تجنيد المخابرات الإسرائيلية العملاء بأربعة مراحل: الفرز والاختبار عبر الاحتكاك بالأماكن العامة، كالنوادي والمطاعم، لمراقبة الموجودين من الرجال والنساء، والبحث عن "عملاء المستقبل"، وتنمية العلاقات، فإذا أثبتت المراقبة الدقيقة أن الهدف صالح للعمل التجسسي، يتم تنمية العلاقات معه، لإجراء مزيد من التعارف، والوقوف على نقاط الضعف، واستغلالها، ولتنمية الدافع الذي يخدم التعامل.

وفي فترة لاحقة، يتم تدريب العميل بعد السيطرة الكاملة عليه، حيث ينال تدريباً جاسوسياً على كيفية الاتصال مع الآخرين، واستخدام اللاسلكي، والشيفرة، والكتابة بالحبر السري...الخ، وأخيراً، مرحلة التشغيل، وهي المرحلة التي يبدأ فيها العميل بتوجيه الشاباك، في المكان المستهدف.

وفي ضوء ما ورد آنفاً من معلومات تفصيلية حول ظاهرة العمالة من الأسباب، الأساليب، النتائج، يمكن القول إن المخابرات الإسرائيلية تستخدم كل وسيلة غير مشروعة، وعمل لا أخلاقي، في سبيل إسقاط العملاء، ليصبحوا ضحايا تتهاوى في شباكها، وليس هناك من شيء مقدس عند "الشاباك"، فمهمته أن ينسلخ الفلسطيني عن آدميته وإنسانيته، ليصبح في مصاف الحيوانات، أو أدنى من ذلك، ويستغل ضباطه نقاط الضعف عند ضعاف النفوس بالمال والجنس والتعليم والعلاج والسفر، لتكون مدخلاً لإسقاطهم في أفخاخهم.

وهذا كله يتطلب متابعة الأسرة الفلسطينية لسلوك أبنائها، وإعطائهم الإرشادات والنصائح التي تحصنهم من الوقوع في مزالق الاحتلال، والسقوط الأمني، وأن تأخذ الجهات الدينية جزءاً من المسؤولية بالتوعية بخطورة الظاهرة: دينياً وإيمانياً، وقيام الإعلام بدوره، لتوعية الجمهور الفلسطيني، وإبراز خطورة الظاهرة عليه.

أما قوى المقاومة الفلسطينية فهي مطالبة بإرجاع العملاء الذين لم يرتكبوا جرائم قتل أو جرائم كبرى ضد شعبهم، إلى أحضان المجتمع، إن أرادوا التوبة والرجوع، بجانب مواصلة ضرب شبكات العملاء، ومن أصروا على التخابر والتعامل مع المحتل بكل قوة، وتجريمهم، والسعي الدائم إلى القضاء على وجودهم.

المصدر: العربي الجديد