العمل النقابي الفلسطيني إلى أين؟
بقلم: هشام أبو محفوظ
بدأت إرهاصات التنظيم النقابي في فلسطين
منذ بداية القرن العشرين، استناداً للقانون العثماني الصادر سنة 1909، والذي جرى بمقتضاه
تشكيل روابط اجتماعية بعيدة عن الشؤون السياسية.
أما التنظيم النقابي الفعلي فقد بدأ في
عام 1920، وتبلور عام 1925، حيث تشكلت جمعية العمال العرب الفلسطينية، وارتبط ميلاد
الحركة النقابية الفلسطينية بخصوصية واقع الصراع مع المشروع الصهيوني.
وقد استفادت الحركة النقابية الفلسطينية
من قانون الجمعيات العثماني الذي كان معمولاً به، والذي يسمح لثمانية أشخاص فأكثر أن
يؤلفوا فيما بينهم جمعية لرعاية مصالح الأعضاء المنتسبين إليها، ورفع مستواهم مادياً
وثقافياً واجتماعياً. وكان القانون يشترط أن ينص دستور الجمعية "ألا تتدخل في
الشؤون السياسية والدينية".
وقد اضطلعت الحركة النقابية الفلسطينية
بدور مهم في حماية العمال والدفاع عن مطالبهم الاقتصادية، والنضال من أجل تشريعات خاصة
بحماية العمال، وكذلك نهضت بدور آخر في الصراع مع الغزو الصهيوني؛ عبر المشاركة الفاعلة
في انتفاضات وثورات الحركة النقابية الفلسطينية حتى عام النكبة 1948. وكان نشاط الحركة
النقابية الفلسطينية وراء التشريعات المتعلقة بالعمال، والتي صدرت عام 1927.
ما بعد النكبة وفي ظل المنظمة
قبل حلول نكبة فلسطين عام 1948، كانت الحركة
النقابية الفلسطينية تشهد تطوراً كبيراً، متأثرةً بالمتغيرات الدولية التي سبقت الحرب
العالمية الثانية، حيث اتسع نطاق حرية التنظيم النقابي، وتشكلت عدة أطر نقابية.
أما بعد النكبة وإلى ما قبل تأسيس منظمة
التحرير الفلسطينية، فقد دخل التنظيم النقابي مرحلة جديدة، وفتح المجال لتأسيس نقابات
جديدة، كما تأثر الفلسطينيون بالقوانين التي تنظم العمل النقابي حيثما وجدوا في الداخل
الفلسطيني والشتات.
وقد أكدت المنظمة منذ إنشائها عام 1964،
أهمية التنظيم النقابي، وحاولت بقيادة رئيسها آنذاك، أحمد الشقيري، تطبيق خطة للتنظيم
الشعبي تُفتح بموجبها مكاتب سياسية في المدن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية، في مختلف
أنحاء العالم العربي. وأقر المجلس الوطني في دورته الثانية المنعقدة في القاهرة من
31 مايو/أيار، إلى 4 يونيو/حزيران 1965، قانوناً لتنظيم شعبي يشكل الأداة القادرة على
حشد الفلسطينيين بكلّ طاقاتهم وكفاءاتهم لتحرير فلسطين. وهو ليس بحزب؛ وإنما وعاء،
يضم قوى الشعب الفلسطيني العاملة، ليكون المنطلق الصحيح للعمل الجاد في سبيل تحرير
فلسطين.
وما لبثت خصوصية الثورة الفلسطينية أن انعكست
على التنظيمات الشعبية؛ إذ إن نشأتها في الشتات في ظروف سياسية مختلفة من دولة عربية
إلى أخرى، جعلتها عرضة لتدخلات في أنشطتها، ولم يسمح لها بممارسة دورها إلا في بعض
تلك الدول. كما تعرضت التنظيمات النقابية لصعوبات أخرى؛ أهمها تركُّز مفهوم دور المنظمات
الجماهيرية في العمل السياسي، ما أصاب معظم الاتحادات الفلسطينية بتقديم القضية السياسية
على القضية النقابية والمهنية، لكون هذه الاتحادات قاعدة من قواعد المنظمة، تلتزم التزاماً
كاملاً بقيادتها، وبرنامجها السياسي، وميثاقها الوطني.
ومع أخْذ النظام الانتخابي لهذه التنظيمات
بمبدأ الأكثرية، فالكتلة النقابية التي تحظى بأغلبية الأصوات تحتكر مقاعد الهيئة الإدارية
أو القيادية كافة، ما يتيح للقوة السياسية الأكبر أن تأخذ أكثر من نصف المقاعد، وتوزع
الباقي على الفصائل الأخرى من دون النظر إلى حجمها النقابي، وهو ما أطلق عليه نظام
"الكوتا". وقد أسفر ذلك عن ارتباط معظم قيادات تلك التنظيمات بالقيادات السياسية
للفصائل المهيمنة؛ ما جعل هرمها القيادي يلتفت عن مصالحها إلى مصالح الفصائل، وحال
دون النمو والتطور في حركتها المطلوبة لاستقطاب الطاقات والإبداعات لأبناء المهنة الواحدة.
وإن ما نجم عن ضعف البنية التنظيمية للاتحادات،
المتمثل في افتقار الاتحادات إلى جمعيات عمومية جادة في الفروع، تعمل على المراجعة
الجدية لأعمال هيئاتها الإدارية ومحاسبتها.
فضلاً عن ضعف الصلة بين قيادات الاتحادات
وفروعها، وإهمال النشاط التنظيمي، بما فيه عدم رفع تقارير دورية في شأنه، وكذا عدم
عقد المؤتمرات العامة للاتحادات في مواعيدها.
والقصور في الطابع الجماهيري للاتحادات؛
فبعض فروعها لا تضم في عضويتها سوى نسب ضئيلة لا تمثِّل واقع قطاعاتها، ومعظم قواعدها
لا تمارس دورها الانتخابي، أو لا تحضر المؤتمرات العامة، وهي روح سلبية تعكس ضعف البنية
التنظيمية.
وكذلك نقص معلومات الاتحادات وإحصاءاتها
لقواعدها الشعبية، ما أفقدها كثيراً من ضرورات العمل الناجح.
إلى جانب افتقار التنظيمات إلى الكوادر
النقابية المؤهلة والمتمرسة بالعمل الجماهيري وتقاليده النقابية؛ لحداثة تلك التنظيمات،
والافتقار إلى وجود لجان متخصصة لتنظيم أعمالها وتوجيهها، وإعداد الدراسات الخاصة بأعمال
المؤتمرات التي تشارك فيها.
وفقدان الاستقلالية المالية للاتحادات،
وعدم حصولها على موازنات مالية مستقلة أو كافية من الصندوق القومي الفلسطيني، ما يحول
دون تَمَكُّنها من تأدية دورها بفاعلية.
وأدى أيضاً انعكاس الانشقاقات في الساحة
الفلسطينية على أوضاع الاتحادات، مثلما حدث في أعقاب عام 1974، وطرح الاتجاه نحو التسوية
السياسية للقضية الفلسطينية، وكذلك في أعقاب الانشقاقات عام 1983، وكذا عدم الاستغلال
الكامل للإمكانات المتاحة والأدوار المهمة التي يمكن أن تؤديها الاتحادات بصفتها أدوات
وقنوات اتصال مع مختلف أنحاء العالم، وتعبئة الرأي العام العالمي، وحشده لمناصرة القضية
الفلسطينية.
أزمة العمل النقابي
مما سبق يظهر جلياً أنه لم تبدأ أزمة العمل
النقابي الفلسطيني بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ولكن هذا الاتفاق شكّل محطة مفصلية
في العمل النقابي الفلسطيني؛ حيث أحدث شرخاً واضحاً، وانقسم العمل إلى داخل وخارج،
ومن ثم إلى ضفة وقطاع، مع الأسف! وقد بذلت جهود من أجل إعادة بناء وتوحيد الاتحادات
الشعبية والنقابات المهنية الفلسطينية. وطرحت تصورات وآليات حول ذلك في مختلف التجمعات
الفلسطينية كمدخل لإعادة بنائها وتوحيدها، وقُدّمت فيها تصورات لإعادة بناء وتوحيد
هذه الأجسام النقابية بما يعزز دورها الوطني والتمثيلي في التعبير عن حقوق ومصالح وتطلعات
الشرائح الاجتماعية والفئات المهنية التي تمثلها.
ومما لا شك فيه أن أزمات العمل النقابي
الفلسطيني قد تعددت وتنوعت، حيث يفتقر العمل النقابي إلى قاعدة بيانات ومعلومات إحصائية
دقيقة، ما يشير إلى الفوضى في العمل، والتشرذم، وغياب الحس العالي بالمسؤولية، وتغييب
الانتخابات داخل النقابات، وإن أجريت يكون ذلك شكلياً، أو بنظام الكوتا والمحاصصة الحزبية.
ومن هنا يأتي الخلط بين الحزبية والعمل
النقابي؛ فمع الأسف لا يدرك أي حزب أو حركة -مهما بلغت أغلبية ذلك الحزب أو الحركة
في الأطر النقابية- أن هناك فارقاً كبيراً وأساسياً بين أن يستفيد الحزب من كوادر النقابة
من أجل استمالة موقفها إلى توجهات الحزب عبر نضال ديمقراطي منضبط ومحكوم للنظام واللوائح
النقابية الداخلية، وبين أن يستفيد الحزب من حشد الأغلبية بهدف السيطرة وإصدار التعليمات
التي تتجاهل –بصورة كلية أحياناً- طبيعة العمل النقابي وأهدافه ونظمه وخصائصه ومهماته
الخاصة، بما يؤدي إلى إلغاء الشخصية المميزة والاستقلالية التي يجب أن يتمتع بها العمل
النقابي في كل الأحوال والظروف.
ومع الأسف قادت هذه العلاقة القائمة على
السيطرة، ذات الطابع الذاتي، إلى إضعاف الممارسة الديمقراطية والتعددية في صفوف الأطر
النقابية، وتقليص عضويتها، ومن ثم إفقادها تأثيرها السياسي وزخمها الجماهيري في الوقت
ذاته.
والملاحظ أن مظاهر الضعف هذه قد تفاقمت
منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 حتى لحظة كتابة هذه الكلمات.
مبادرات
ظهرت العديد من المبادرات، سواء في الداخل
الفلسطيني أو الشتات؛ لرأب الصدع والخلاص من حالة الضعف والترهل في الأطر النقابية
والمهنية ضمن التخصص الواحد وعلى مستوى الإطار العام الناظم للعمل النقابي الفلسطيني،
إلا أنها لم تستطع توحيد الجسم النقابي ليقوم بدوره المنوط به كمكون رئيس في النظام
السياسي الفلسطيني، وأرخت حالة الانقسام بظلالها على كل منظومة العمل النقابي، وارتفعت
وتيرة التهميش، وزاد الإقصاء، وعمت حالة التفرد في القرار، ما جعل كل الخطوات والمبادرات
تصل لحائط مسدود وأفق مغلق.
تجربتنا
في الحقيقة بدأت إرهاصات العمل على إنشاء
تجمع مهني نقابي منذ ما يزيد على ثلاث سنوات تقريباً، حيث تداعت مجموعة من النقابيين
الفلسطينيين، ومن مختلف التخصصات العمالية والمهنية؛ كالطبية والهندسية والتعليمية
والإعلامية، ومن جغرافيات متعددة، وانتدبنا أنفسنا في التجمع الدولي للمؤسسات والروابط
المهنية الفلسطينية لنكون خدماً لهذه القضية المحقة والعادلة بجميع مكوناتها، لنسد
ثغرة في واقع العمل النقابي، بحيث نشكل رافداً لهذا العمل دون أن نكون خصماً لأحد،
أو على أحد، وإن ما دفعنا لخوض غمار هذا العمل هو حالة التهميش وغياب الدور الحقيقي
لفلسطينيي الخارج تحديداً، فكان مؤتمرنا الأول بعنوان نقابيون في خدمة المجتمع الفلسطيني،
في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015، في
العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك انسجاماً مع الدور الذي نتطلع للاضطلاع به.
وعليه فقد بنينا رؤيتنا ورسالتنا، ووضعنا
خططنا منذ انطلاقتنا على هذا الأساس.
أهدافنا
وضع التجمع نصب عينيه أهدافاً محددة؛ فكان
أبرزها تأكيد دور الحركة النقابية الفلسطينية باعتبارها مكوناً أساسياً من مكونات النظام
السياسي الفلسطيني.
وتشكيل منصة لجمع مكونات العمل النقابي
على صعيد واحد لتدارس الواقع بما فيه من سلبيات وإيجابيات، إضافة إلى توفير بيئة مناسبة
لتبادل الخبرات والتجارب الناجحة بين مختلف الأطر والشرائح النقابية؛ للاستفادة منها
في خدمة أبناء شعبنا.
والعمل على تحقيق شكل من أشكال التكامل
مع مراكز الدراسات والجمعيات التنموية والخدمية، بما يوفر مستوى أفضل من الخدمات للشرائح
النقابية ذاتها وللمجتمع الفلسطيني داخل مخيمات وتجمعات شعبنا الفلسطيني.
ومن هنا نقول إن الخدمة هي أهم مفردات عملنا،
لذلك كان شعارنا في المؤتمر التأسيسي للتجمع الدولي للمؤسسات والروابط المهنية الفلسطينية:
"نقابيون في خدمة المجتمع الفلسطيني"، وذلك على قاعدة "من الكفاءة والخبرة
إلى المعاناة والاحتياج"، وقد نفذنا مشاريع كثيرة في هذا الصدد؛ كترميم بيوت اللاجئين
الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى لبنان، أو مشاريع الإنارة لمحدودي الدخل من العمال
الفلسطينيين والمهنيين، والعمليات الجراحية التخصصية ضمن الوفود الطبية والأيام الطبية
المجانية، وفي خطتنا المستقبلية إنشاء صندوق للقرض الحسن، وقد بدأنا بخطواته العملية
من حيث وضع التصور والدراسة له، وكذلك برنامج الضمان الصحي للمهنيين.
التوزع والانتشار
التجمع منتشر في دول الشتات والخارج الفلسطيني؛
في أوروبا والخليج ولبنان والأردن وتركيا، ونطمح أن نكون الإطار النقابي الفلسطيني
الأوسع ضمن محددات مهنية نقابية لخدمة الشرائح النقابية والمهنية، دون إقصاء أو تهميش
أو تمييز.
وإننا هنا في مربع العمل والفعل والمبادرة،
ونأمل حقاً أن تنعكس ملتقيات النخبة على مخرجات هذه الأطر، فإن الوضع الفلسطيني تحديداً
بما يتعلق بشريحة المهنيين والنقابيين، لم يعد يحتمل مزيداً من التفتيت والتقسيم والإهمال،
لا سيما إذا علمنا أن الفلسطيني اللاجئ في بعض الدول محروم من أكثر من سبعين مهنة،
وأن عدد العاملين في الضفة وقطاع غزة تجاوز مليوناً وثلاثمئة وسبعين ألفاً، ثلثهم لا
يعمل، و40% هم موظفو سلطة، بمعنى أن معظمهم يعيش على المساعدات، وليس لدينا فائض علاقات،
أو مشروعات، أو مجاملات، فنحن في مربع مواجهة حقيقية تتصاعد وتيرتها كل يوم، يستخدم
فيها العدو الصهيوني كل أسلحته وإمكاناته المادية وعلاقاته الدولية ونفوذه الواسع من
أجل إزاحتنا من خريطة الوجود.
رسالتنا
نتطلع في التجمع الدولي للمؤسسات والروابط
المهنية الفلسطينية إلى إرساء عمل نقابي فلسطيني منسجم مع ثقافته الوطنية وامتداداته
العربية والإسلامية الأصيلة، ونعمل على بناء جسر تواصل حقيقي بين النقابيين الفلسطينيين،
والنقابيين العرب، والمسلمين، والأحرار، بمعزل عن التجاذبات السياسية؛ على قاعدة الالتزام
بالوطن وقيمه، واحتراماً لفلسطين وشعبها.
ومما لا شك فيه أننا ندرك هموم الأقطار
ومشكلاتها، وأن لديها الكثير من الواجبات المحلية والشواغل الملحّة، لكن ما نطمح إليه
أن تكون قضية فلسطين ونقابيوها ومهنيوها هي أولوية في السياسة الخارجية لكل نقابة،
وأن يكون لكل نقابة بصمتها المسجلة لها في دعم مهنيي ونقابيي فلسطين والشتات الفلسطيني
من خلال إمكاناتها المتاحة، وكلنا أمل أن نجد دائماً تفاهماً أو اتفاقاً أو موعداً
يؤسس لعلاقة بيننا وبين كل نقابة على قاعدة التعاون والتنسيق في هذه الأمر الجامع لنا،
بما يخدم فلسطين وشعبها كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية ولدى أحرار العالم.
ماذا بعد؟
إننا نعتقد جازمين أن الطريق الأمثل لصياغة
نظام سياسي فلسطيني قوي وقادر على تحقيق آمال وطموحات شعبنا في العودة والتحرير لا
يمكن أن يكون إلا عبر بوابة الوحدة الوطنية، وعلى قاعدة الشراكة والتعاون والتنسيق
في بناء جميع مقوماته ومكوناته، ومما لا شك فيه أن منظومة العمل النقابي الفلسطيني
هي مقدمة ذلك، وجزء أصيل منه؛ باعتبارها مكوناً شعبياً بامتياز، وتشكل أحد محوري القضية
الفلسطينية؛ المتمثلة بالشعب والأرض، وعليه فلا بد من السير باتجاه إعادة بناء الاتحادات
والنقابات ومختلف الأطر، وفق مبدأ الديمقراطية، وعبر انتخابات شاملة لكل جغرافيا يوجد
فيها شعبنا الفلسطيني بشرائحه النقابية والمهنية المختلفة، ليصار إلى ترتيب البيت الداخلي
الفلسطيني على أسس تمكّننا من مواجهة التحديات التي تواجهنا، وإلى ذلك الحين لا يمكن
أن نقف مكتوفي الأيدي دون تقديم مبادرات وخطوات جادة في سبيل الخلاص من عدو يتربص بنا،
في ظل متغيرات دولية وإقليمية تعصف بالمنطقة والعالم أجمع.
المصدر: الخليج أونلاين