"العودة" في شوارع الألم بمخيمات سورية واقع المأساة يجدد في النفوس مشاهد النكبة
العودة/ دمشق
أغمض عيني لأرى بوضوح.. وأراه.. مخيم اليرموك.. مخيم الدم والحزن والألم، صباح حزين.. صمت.. كل شيء صامت متحفز.. عيون الناس.. الشوارع.. المدارس.. الجوامع.. أسد أذني لأسمع بوضوح صوت المدافع.. وصفارات الإنذار تلعلع من كل صوب.
اليوم وقد نسينا ونحن على أبواب الشتاء صيفنا الأحمر، وبدأنا نغرق في وحل مشاكلنا ومستنقعات تشتتنا، ليس كطلقات الرصاص ما يوقظ وعينا بمصيبتنا، نحن أهل كهف التاريخ العربي، الذي استيقظ في كل صباح على صوت الرصاص، ذلك الصوت الذي أعاد إلى أذهاننا الغائمة صور واقعنا الحزين. هنا، في مخيم اليرموك، تقف الكلمات عاجزة أمام دموع قاطنيها. أسر كثيرة من فلسطين حملت معها مفاتيح أبوابها قبل أن تجبر على مغادرتها. كلهم علقوا المفاتيح في بيوتهم بانتظار العودة. واليوم ماذا؟ أين ستعلق المفاتيح؟ ماذا سيحلّ بهم؟ كل هذه الأسئلة كانت تدور في خلد الحاجّة أم عصام التي لجأت من منزلها للمرة الثانية بعد أن خرجت من فلسطين وعمرها 12 عاماً وهربت مع زوجها إلى سورية، واليوم تلجأ إلى أحد دور المباني في مخيم اليرموك بعد أن خسرت كل شيء، حتى مفاتيحها لم تتمكن هذه المرة من إحضارها، وتروي قائلة: أنا يا ابنتي فلسطينية من سكان حمص، خرجنا في ليلة لا يوجد فيها ضوء قمر كما يقال بعد أن خسرت كل شيء، أولادي.. زوجي.. مالي.. أنا أم لخمسة شباب لا أعرف لهم طريقاً، وابنتان لجأتا وأولادهما إلى لبنان، أملنا في الحياة، وخمس كناين وثمانية أحفاد لا أعرف لهم سبيل منذ الأحداث إلى اليوم، وزوجي توفي في الطريق إثر نوبة قلبية، ولم أتمكن من أخذه إلى المستشفى، ومات بين يدي وعدت وحيدة بلا زوج أو ولد أو رفيق.
(هاربان من مدينة الدمار.. ووجهها الأصم كالجدار.. تصوري لا يصمتون في الأصيل.. لا يبهجون للصباح في رؤى موكبه الجميل.. لهفي عليه فوق زحمة الرصيف كقشة في موجة المخيف).. بتلك الأبيات بدأت سناء إحدى معلمات اللغة العربية في مدرسة اليرموك كلامها بعد أن استسلمت للبكاء حزناً على أهلها وزوجها قائلةً: ما ذنبنا نحن لندفع فاتورة هذه الحرب، ما ذنبنا أن تتحول الأرض من تحت أقدامنا لمستنقع من الدم.. هياكلنا تتداعى.. بيوتنا نفقدها.. عائلاتنا تشردت.. أطفالنا غدوا أهدافاً لرصاص القناصة. لم يبق لي أحد. فقدت زوجي وأبي وأخي كلهم في يوم واحد. من سيعوض لي؟ هل سيقدمون لي الأموال والبيوت؟! لا أريد. لا أريد سوى زوجي وأهلي. لا أريد شيئاً. أريد أن ألحق بهم فقط.
حسبي الله ونعم الوكيل. بتلك الكلمات استقبلتني الحاجة أم حسّان التي روت تفاصيل قصتها قائلة: مشكلتي الآن ببدلة أسناني، فقد هربت في الصباح الباكر، ولم أتمكن من إحضارها. خرجنا بالثياب التي نرتديها، وأنا أفضل من غيري يا ابنتي بكثير؛ فأختي خرجت من منزلها في مخيم فلسطين منذ شهرين ولفّت على مدارس وحدائق المخيم كلها، وعندما عادت إلى منزلها في رمضان قصف المنزل بمن فيه وماتت وزوجها وأولادها، خسرت خمسة أشخاص في يوم واحد.
هل من الضروري أن يأتي يوم كهذا كي نصرخ بذعر: "وطني وطني"، ونلتف حول مسرح الدم ونشيح بأعيننا باشمئزاز عن مسرح الضحك والفرح، ولا نفرح حتى بطفل صغير قدم على الحياة لا ذنب له في حمام الدم هذا، ولا ذنب له أن يلقب بكلمة لاجئ وهو لا يعرف الكلام بعد؟ بتلك الكلمات استقبلتنا الحاجّة أم صلاح، بعد أن روت لنا كيف تحولت المدارس إلى مكان لاستقبال المواليد الجدد، وفي حديثي معها قالت: اليوم أتانا مولود جديد ولدته أمه في المدرسة، ولم نعرف ما الإحساس الذي شعرنا به، وخاصة بعد أن قرر والده أن يسميه "مصيبة" بعد أن تزامنت ولادته مع نبأ سقوط منزله في الحجر الأسود، ولم يبق منه سوى كومة من الحجارة تقول (كان هنا منزل) وبدأنا نرجوه جميعاً أن يغير اسم الولد وأن يدعوه بأي اسم آخر، وفي النهاية استسلم للبكاء وقال سأسميه رضا، أملاً برحمة ورضا من الله وحده.
ومن أعجب القصص التي سمعتها، قصة إحدى النساء اللواتي نسيت ابنها ذا الأربع سنوات في درعا، وهربت وحيدة إلى مخيم اليرموك. وعندما عادت لأخذه وجدته مذبوحاً. ولليوم تعجز عن الكلام وتصاب بنوبة من الهستيريا كلما اقترب منها أحد، وهي الآن تقبع في مدرسة في مخيم اليرموك التي هجرها طلابها وقطنها أهليهم.
تجلس على الأرض منهكة، وقد احمرّت مآقيها ورسم الحزن خطوطه على وجهها وثغرها. أطرقت الحاجّة أم صبحي برأسها وتحشرج صوتها حزناً وألماً، فبانت الكلمات تُخرج لعثمة.. فلا أكاد أفهم منها شيئاً. ورويداً.. رويداً.. شددت من أزرها ودعوت لها بالصبر والسكينة. أم صبحي سيدة في الخمسينيات من عمرها التقيتها على قارعة الطريق. كغيرها من النسوة هربت من بيتها وأولادها في منتصف الليل بثياب النوم، بعد قصف عنيف طاول منزلها ومنازل حيّ الحجر الأسود، والتجأت مع العديد من الناس إلى جامع صلاح الدين في مخيم اليرموك حيث أعانتها النسوة على ستر جسدها وبناتها، مع العلم أنها امرأة محتشمة. أخيراً فركت أم صبحي بيديها ومسحت عرقها وبدأت تروي مأساتها:
خرجنا خائفين.. مذعورين.. الموت يطاردنا من كل صوب.. لم نكن ندري إن كنا نهرب منه أم إليه.. آه ما أقسى هذه الكلمة! موت.. منذ خمسة أيام سمعني ابني نافذ ذو السبعة عشر ربيعاً أتكلم مع أخواته بأني سأذهب إلى البيت لأحضر بعض الملابس. رفض وغضب ولم يسمح لي بالذهاب، وقرر الذهاب بدلاً مني وباءت كل محاولاتي لمنعه بالفشل. غاب نافذ الليل كله وهرعت كالمجنونة أبحث عنه، وفي اليوم الثاني... كان زوج أختي يتجول أمام مستشفى فلسطين فرأى جمهرة من الناس، وكغيره شده الفضول لمعرفة السبب، لكنه صدم برؤية نافذ جثة هامدة مغطاة بالدم...
وعلى الفور، اتصل بي لأحضر لوداعه، وودعته وقلبي معه، ودفن مع بقية الشهداء في قبر جماعي؛ لأن المدافن لم تعد تستوعب المزيد، وكأنها ترفض استقبال كل ذلك الدم.
وعند المساء حضر أحد أصدقاء نافذ ممن شاء القدر أن يكتب له بقية من الساعات أو الأيام أو السنين، وقصّ علي ما جرى: ذهبنا إلى الحجر الأسود وهناك تفرق كل إلى منزله بعد أن اتفقنا على ساعة معينة لنعود معاً... وبالفعل دخل نافذ إلى منزله، ووجد الباب مخلوعاً والنوافذ مكسورة والأغراض مبعثرة، حاول أن يصلح ما يمكن إصلاحه وأخذ بعض الأمتعة لأمه وأخواته وعاد إلينا... وفي الطريق بدأ الرصاص يلاحقنا من كل حدب وصوب ولم نكن نعرف من أين. أصيب نافذ بقدمه فوقع، لكنه وقف وركض فأصابته رصاصة بظهره وأخرى بكتفه... وظل يجري إلى أن أصابته الرصاصة القاتلة في رأسه، وقع نافذ راوياً الأرض بدمه لا يدري أي ذنب جنى، وأية قضية يدفع ثمنها.
التاعت الأم وجُنّت لفقد فلذة كبدها. كان البيت ملجأً وستراً ومأوى من غدر الزمان، لكنه أمام فقد الحبيب لا يساوي شيئاً. صرخت: خذوا كل شيء... خذوا بيتي... خذوا كل ما أملك وأعيدوا لي ولدي.
ومن نافذ إلى "س" التي لم تكن تدري أن القدر يخبئ لها أقسى ما يمكن أن تتوقعه فتاة في عمرها بعد أن خطفها ثلاثة رجال وأخفوها في منطقة التضامن. كانت كارثة هزت أركان العائلة كلها، التي قبّلت الأيادي والأرجل لإعادة الفتاة المخطوفة من دون جدوى. وبالطبع، لم تسلم الفتاة من ألسنة القريب قبل الغريب، مع العلم أن هذه الحادثة تتكرر يومياً مع العديد من الفتيات ومن كل الطبقات. وبعد أيام وجدت "س" ملقاة في أحد الشوارع بعد أن ضربت ضرباً مبرحاً ترك أثره على جسدها كله. أعيدت "س" إلى منزلها... وبالطبع رفض الزوج استقبالها، لكنه فرغ كل رجولته في وجهها، مرحباً بها بكلمة "طالق". والآن "س" تنزوي في ركن من المأوى الجديد، مشوهة من الداخل تنظر إلى الذين يقفون أمامها وعيونهم تعريها وتشوهها أكثر مما شوهها الخاطفون.
حسن صبي في العاشرة من عمره... نحيل لا تكاد قدماه تحمل جسده... ترى عينيه هائمتين ينظر إلى السماء والدموع متحجرة في مآقيه... اختار أبعد زاوية من زوايا المدرسة ليختبئ فيها مبتعداً عن كل الناس؛ فلم تعد تروقه كرة القدم التي كانت لعبته المحببة، ولم يعد يروقه عراك الأطفال وهرجهم ومرجهم. فها هم يلعبون في باحة المدرسة لاهين عن تشردهم ومأساتهم. هي الطفولة البريئة أنست الجميع الإ حسن.
وكيف له أن ينسى أمه التي كانت حضناً وملجأً وملاذاً لألمه، أمه التي كانت اللسان المبشر بطبيب وعريس المستقبل، كان حسن واحداً من أفراد عائلة صغيرة تقطن منطقة القدم في المنطقة الجنوبية من دمشق. كان القصف عنيفاً على تلك المنطقة، ما دعا أم حسن إلى أن تبعد ابنها وابنتها إلى منطقة ظنت أنها آمن من المنزل. لكن القذيفة كانت قريبة منهم، ما جعلها تهرع بهم إلى مكان آخر. كانت مذعورة خائفة تمسك بأولادها هاربة من الموت والموت يشدها لأحضانه... إلى أن حصل اشتباك في الخارج. شعرت الأم بدنوّ الأجل، ضمّت ابنها حسن إلى صدرها وابنتها في الجهة الأخرى وانحنت فوقهما جاعلة من جسدها خيمة تحمي ضعفهما وتخفف ذعرهما. أصابت الرصاصة الأم وأطلقت معها روحها من جسدها... لكنها بقيت على نفس الحالة وعيناها مشدوهتان وكأنها تخاطب ولدها في لحظة الموت: ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟
ومن لمسة حزن إلى أخرى، إلى أم حسام التي التقيتها على مشارف المخيم وبشائر النصر ترتسم على وجهها وهي تحمل بيديها قفصاً فيه عصفوران أردفت قائلة: أنا آخر شخص خرج من الحجر، فلم أعد أتحمل الوحدة، وخاصة بعدما هرب كل أهل الحي، ولم يبق غيري هنا، وقد خرجت أول مرة من دون عصافيري، وكل يوم كنت أنتظر حتى يتوقف القتال لأحاول الدخول لإحضارها، ولكني لم أستطع. واليوم دخلت بمساعدة سيارة الإسعاف، بعد أن رجوتهم مراراً وتكراراً أن يدخلوني معهم، وبعد جهد جهيد تمكنت من إقناعهم وركبت السيارة معهم وانطلقنا إلى الداخل، وعندما وصلت إلى حارتي ركضت بسرعة من دون أن التفت ورائي وأحضرتها وعدت إلى جامع الوسيم.
عدي طالب في مدرسة الكرمل الابتدائية. عندما سألته عن إحساسه وهو يلجأ اليوم في مدرسته التي كان يستعد للذهاب إليها مثل كل سنة أجاب: أنا سعيد للإقامة هنا، لأني أستطيع اللعب مع أصدقائي طوال الوقت ولا يزعجني أحد بالقول أن أعود إلى المنزل أو أخلد للنوم باكراً. أنا سعيد، لكن شيئاً واحداً يقلقني؛ فمعلمة الرياضيات لاجئة معي في نفس المدرسة، وكلما تراني تطلب مني أن أسمّع جدول الضرب، وأنا بذكائي الحاد أتهرب منها إما بحجة المرض أو بحجج أخرى أبتكرها عند الحاجة. واليوم سمعت أن معلمتي تحاول بمساعدة الأهالي هنا إفراغ أحد الصفوف وتجميع كل الطلاب لإعطائهم دروساً قي الرياضيات، ولا أعلم إن كنت سأحفظ جدول الضرب إلى حينهو أم سأبتكر خطة "خنفشارية" للهروب من الدرس.
ومن عدي إلى أخته رفا التي سقت بدموعها الحزينة أزهار المدرسة التي تقطنها بسبب عدم حصولها على المجموع الكامل في الصف التاسع؛ فبينما كانت المدرسة كلها سعيدة بزهرة فلسطين الجميلة، كان الحزن يغدق على ملامح وجهها الجميل، وقد أخبرتني بتفاصيل معاناتها قائلة: منذ صغري وللصف الثامن لم ينقصني إلا علامتان أو ثلاث على الأكثر، وهذه شهاداتي أحضرتها معي إلى هنا كي تكون دليلاً للعالم كله أني لم أضيّع 10 علامات عن تقصير في الدراسة أو كسل. وأكملت تقول: أنا من سكان مخيم فلسطين، وتحديداً شارع المغاربة، وكانت ظروف دراستي صعبة جداً؛ فقد كنت أدرس وأصوات القصف ترعد أطرافي خوفاً، وقلة الكهرباء زادت الطين بلة، وخاصة أن الانقطاع كان يدوم 12 ساعة على الأقل، إضافة إلى عدم توافر الشمع في المنطقة. لذلك، عمد أهل المبنى إلى تجهيز الغرفة بالشمع، وطلبوا من كل طلاب الشهادات النزول إليها لنتمكن من الدراسة. وبالفعل، شعرنا يومها بأننا أمام مسؤولية عظيمة، وعلينا أن نقهر الظروف ونتغلب عليها.
وكانت ظروف رحلتنا إلى الامتحان بحد ذاتها مغامرة؛ فكانوا يضعوننا في باص صغير ثم يتفقد أهلنا الطريق أمامنا ليضمنوا سلامتنا. وقبل الامتحان بيومين، سقطت إحدى قنابل الهاون على المخبز الواقع في أول حارة المغاربة. وكل هذه القصص لا أرويها بقصد تبرير فشلي في الحصول على المجموع الكامل، بل لأن ظروف اللجوء وجلوسنا اليوم في المدارس لم تمكني من مراجعة علاماتي وطلب إعادة التصحيح، وبالأخص لمادة اللغة العربية.
ماجدة بدران (25 عاماً) تحدثت إليّ وملامح الحزن ترتسم على وجهها قائلة: أنا كما يقال عروس جديدة، وقد قضيت شهر العسل أتنقل من منزل إلى آخر، وقد زرت منازل أقارب زوجي وأقاربي كلهم، وأخيراً اخترت وزوجي جامع زيد بن ثابت لنكمل فيه شهر عسلنا بعد أن خسرنا منزلنا ومالنا، وحتى ثيابنا سرقت. وكل ذلك بالتدرّج؛ ففي الأسبوع الأول من خروجنا، سرق أثاث المنزل، وبعد يومين، سرقت ملابسنا، وبعد أسبوع وجدنا المنزل على الأرض، وعدنا إلى النقطة الصفر.
حطام، دمار، قتل... هذا هو حالنا باختصار؛ فالموت يحاصرنا من كل جانب، والفقر يتربص بنا كأنه وحش يريد الانقضاض علينا وافتراسنا. بتلك الكلمات شرحت لنا رشا أبو حسان وضعها قائلة: خرجنا كلنا من منازلنا في حمص، والآن نقطن في جامع الوسيم، ولم يبق هناك سوى شادي المجنون، الذي رفض الرحيل، بالرغم من كل المغريات التي قدمناها له، ووعدنا بأنه سيحافظ على منازلنا ولن يسمح لأحد بقصفه وقد حمل عصا ووقف في أول الشارع يلوّح لنا بيديه ويعدنا بأنه سيبقى هنا ولن يرحل. وإلى اليوم، لم نسمع أي خبر عنه، ولا عن منازلنا سوى بعض شائعات تقول إن منازلنا غدت حطاماً.
حطام، دمار، موت... ماذا بعد؟ حولي في هذا المخيم قرابة مليون شخص أرغموا على النوم في العراء، وبيوتهم على مرمى حجر، لم يعد بوسعهم أن يرفعوا صلاتهم الصامتة من دون أن يتعرضوا لرصاصة تثقب رأسهم وتقول: "مع تحيات قناص".
المصدر: مجلة العودة، العدد الـ61