القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

الغائبون حاضرون في الديمغرافيا والجغرافيا الفلسطينية

الغائبون حاضرون في الديمغرافيا والجغرافيا الفلسطينية

بقلم: ماجد الشيخ

بالاعتماد على "قانون أملاك الغائبين"، أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا، في منتصف إبريل/نيسان الماضي، السماح للحكومة بمواصلة مصادرة الأراضي الفلسطينية في القدس، عبر مصادرة أملاك فلسطينيين من القدس يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، بحجة أنهم يعيشون خارج إسرائيل. ما يعني تشريع استمرار تطبيق "قانون أملاك الغائبين" الذي بدأ تطبيقه في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 في الجليل والمثلث والنقب، وانسحابه على الممتلكات الفلسطينية في القدس المحتلة، وشرعنة عمليات المصادرة التي جرت في السنوات السابقة، واستحداث "غطاء شرعي إضافي للاستيلاء على ممتلكات فلسطينية، بالقانون نفسه الذي سنّته حكومة الاحتلال في 1950 للاستيلاء على أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من فلسطين خلال النكبة وبعدها، وهو ما مكّن إسرائيل من مصادرة مئات آلاف الدونمات والممتلكات الفلسطينية، في مدن فلسطين التاريخية وقراها، بحجة أن سكانها باتوا "غائبين"، يعيشون في "دول العدو".

انسجاما مع هذا القانون، كان أخطر ما أقدم عليه الكنيست السابق (التاسع عشر) هو المصادقة على قانون يتيح للحكومة نهب أملاك اللاجئين الفلسطينيين، حين سمح بخصخصة واسعة النطاق لما تعرف بـ "أراضي الدولة"، ويمكّن الصندوق القومي لإسرائيل (كيرن كيمييت) شراء أراضي اللاجئين الفلسطينيين، بموجب ذاك القانون "قانون أملاك الغائبين"، ومن ثم بيعها لليهود. ويتناقض هذا القانون العنصري وكل المواثيق الدولية المناهضة للعنصرية، خصوصاً وأنه نص على أن السكن أو شراء الأرض في القرى الزراعية، والقرى الصغيرة عموما، يتم بموافقة لجان قبول منبثقة من الوكالة اليهودية والمؤتمر الصهيوني العالمي، ما يعني حرمان أهل البلاد الأصليين من السكن في مناطق واسعة من أرض وطنهم، وهذا يكرّس الواقع القائم، حيث 94% من الأراضي هي أراضي دولة (مصادرة أو جرى الاستيلاء عليها بالقوة وبالتزوير، وهي خاصة باللاجئين) يجري تأجيرها فترات طويلة (49 أو 99 عاما ولليهود فقط) والباقي أراض خاصة: 3% لمواطنين فلسطينيين و3% لمهاجرين يهود.

وفي هذا السياق، تركزت مساعي حكومات الائتلاف اليميني المتطرف، وعبر "برنامجها الملزم"، على ممارسة أقصى محاولات تغيير المعالم الإسلامية والمسيحية، وطمس كل ما يدل على الآثار العربية المؤكدة في مدينة القدس، في ظل غياب أي أثر تاريخي في باطنها، مزعوم ومتوهم؛ للقبائل اليهودية التي كانت تترحّل في إطار المنطقة، وذلك بشهادة علماء آثار إسرائيليين وغربيين من قبلهم يشهد لهم ولكفاءتهم العلمية، باتوا يؤكدون أنهم لم يعثروا على ما يثبت يهودية المدينة، في أي وقت من التاريخ، في ظل غياب أيّ آثار أو لقى تاريخية، يمكنها أن تثبت أنها كانت يوما ما يهودية، من قبيل ما تزعمه المرويات والسرديات التوراتية عن "مملكة سليمان" أو "اصطبلات داود"، وما يُنسب إليهما ولأمثالهما من آثار ومخلفات لم توجد قط، إلى درجة التشكيك بوجود أسماء كهذه وُجدت وعاشت تاريخياً على مسرح المنطقة القديم. كما أنها تشكل صفعة لمزاعم نتنياهو، أخيراً، من أن اليهود كانوا يبنون القدس منذ ثلاثة آلاف عام!

وبذا تظهر الحرب الشاملة والمعلنة، من حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، ضد القدس ومواطنيها الفلسطينيين، أن الهدف النهائي والأخير بجعل القدس يهودية بالكامل، خطوة أخرى جديدة تضاف إلى خطوات مواصلة نكبات الشعب الفلسطيني، الهادفة إلى اقتلاع وتشريد من تبقى من مواطنين فلسطينيين، وهذا يعني إحداث ما يتجاوز الاختلال، إلى حد "التفريغ الديمغرافي"، استجابة لمخططات الاحتلال القائمة على "تسمين الوجود اليهودي" الاحتلالي، وإغراق المدينة بالمزيد من المستوطنات والمستوطنين، وزيادة تجمعاتهم الطاردة لمواطني القدس الأصليين.

سبقت التطبيقات العنصرية وسلوكها التمييزي "قيام الدولة"، تلك التي لم تُقم أساسها النظري في الأصل، إلا على أسس عقيدية عنصرية، وحين قامت على الأرض؛ لم يكن في استطاعتها "إنجاز" أكثر مما أنجزته، فما استطاعت إقامة دولتها اليهودية النقية، كونها لم تستطع التخلص من كل أصحاب الأرض الأصليين، وفي هذه "الدولة"، وفي الظروف التي نشأت في ظلها، لم يكن متاحا بالقطع إمكانية إقامة تطابق أو تماثل بين رؤيتها ذاتها؛ وما قام فعليا من بناء سياسي ودستوري بقي ناقصا، حتى وهي تحاول مطابقة سلوكها النظري وتلك الممارسة التي حملت بذور التمييز العنصري بحق أبناء الشعب الفلسطيني.

ومن اللافت أن ما يجري على الصعد الميدانية والتشريعية.. وكأن "المشروع القومي الصهيوني" ما برح في بدايته، أو في بواكيره الأولى، فيما الوضع الوطني الفلسطيني والعربي، ما برح على حاله: عجز من جهة وتواطؤ مكشوف؛ أقله مع هذا العجز من جهة أخرى، ودفن للرأس في الرمال. فالمأساة؛ مأساة النكبة يُعاد، اليوم، إنتاجها من جديد، احتلالاً ومصادرة للأرض، وتشريدا لأصحابها؛ ولو نحو شتات داخلي أول الأمر، بل ونحو المنافي القريبة والبعيدة؛ فلئن كانت النكبة الأولى بالجملة، فما يجري اليوم وغدا إنما يأخذ طابع التشريد وإعادة التشريد، والاحتلال وإعادة تأكيد الاحتلال بالمفرق، أو بالتقسيط، وذلك كله ضمن خطط ومخططات معلنة؛ لم تعد تخفى أو تتخفى وتتقنع تحت شعارات وذرائع مضمرة؛ والهدف الواضح والمعلن: إعادة احتلال ومصادرة ما لم يصادر من أراضي الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، وإعادة احتلال المناطق الحدودية مع الأردن، وتكريس انفصال المدن والقرى والمخيمات، وقطع تواصلها داخليا وخارجيا عن مناطق الاحتلال الأول (فلسطين عام 1948) ومناطق الاحتلال الثاني (القدس – الضفة الغربية وفي داخل الضفة نفسها) علاوة على وضع أسس انفصال غزة بالطبع عن باقي مناطق الوطن الفلسطيني. ليقال غدا إن دولة الفلسطينيين هي فقط ما يقع جغرافيا في قطاع غزة؛ أما جغرافية الوطن الفلسطيني، أو ما كانته تلك الجغرافيا يوما، فهي لا تعدو أن تكون سوى وطن آخر ذي هوية أخرى.

لكن الأخطر في نظر خبير القانون الدولي، حنا عيسى، هو ما أضحى يتبلور في تشريعات أساسية، ترمي إلى الانتقال نحو مرحلة جديدة، فيها تتأهل إسرائيل لأن تكون أكثر استعدادا للإعلان أن التمييز جزء من بنائها الدستوري، وقد تمثل هذا في قوانين وتشريعات أساسية، مثل قانون العودة (1952) قانون الخدمات الدينية اليهودية (1971) قانون الخدمة العسكرية (1986) قانون الحاضر – الغائب وقانون المصادرة من أجل الصالح العام، مشروع قانون المواطنة، (تعديل تصريح الولاء 2009)، مشروع قانون سجل السكان (تعديل – تصريح الولاء للدولة والعلم والنشيد الوطني 2009)، مشروع قانون يوم الاستقلال (تعديل – حظر إحياء يوم الاستقلال، أو يوم إقامة دولة إسرائيل يوم حداد) أي قانون النكبة. ومشروع القانون الأساس للكنيست (تعديل تصريح ولاء عضو الكنيست)، تصريح ولاء للدولة كدولة يهودية وصهيونية وديمقراطية (!).

في طيات هذا كله، يكمن الهدف الصهيوني المتمثل منذ البدء في نفي أي حق للفلسطيني في أرض وطنه، بل في نفي حق وجوده ووجوده كإنسان، وبالتالي، نفي الهوية الوطنية الفلسطينية واعتبارها وكأنها لم تكن. فقد بات واضحا أن مخططات تجديد "المشروع القومي الصهيوني" لا تتضمن قط نفي إمكانية قيام دولة فلسطينية محدودة، ومحددة في إطار ما اتفق عليه في أوسلو، بل أضحى واضحا أن المطلوب نفي ملكية الفلسطيني أرضه، أو بيته أو أية أملاك هي ملك آبائه وأجداده منذ آلاف السنين. وهذا ما يجري في القدس منذ زمن، وما جرى وسوف يجري تكثيفه وفقا لما يسمى "قانون أملاك الغائبين"، ولمخططات هدم القرى والاستيلاء على مزيد من الأراضي في الضفة الغربية؛ وتشريد مزيد من المواطنين الفلسطينيين، ولو إلى مناطق شتات داخلي، أو الدفع بهجرات لها طابع الترانسفير الفردي أو الجماعي إلى الخارج، جراء المضايقات والضغوط الاحتلالية المتواصلة، ضد أفراد وعائلات وجماعات، هنا أو هناك من الأرض الفلسطينية.

وإذا كان من معنى لـ "حلّ الدّولتين"، كما هو رائج اليوم، ومع اقترانه بتبادل أراض وسكان في بعض الأطروحات، على أن يجري طرد بعض المواطنين الفلسطينيين من أرضهم في الجليل والمثلّث والنّقب، إلى ما يفترض أنّها "الدّويلة الفلسطينيّة" العتيدة الموعودة، فهذا إجحاف مضاعف بحق الفلسطينيين، كلّ الفلسطينيين الّذين لا يعنيهم ولن يكونوا، معنيين بتجاهل التّلاعب بديمغرافيا فلسطين التاريخيّة وجغرافيتها، وطناً لا وطن لهم سواه، من أجل عيون "مواطنين يهود" أوروبيين وأميركيين وآسيويين وأفارقة وغيرهم، لهم أوطانهم الأصليّة، وهي التي وفدوا منها، ليقيموا فوق أرض هذا الوطن (فلسطين) كيانا/دولة لهم حلموا توراتيّا بإقامتها، ويحلمون اليوم وبعد مرور 67 عاما، باستكمال تطهيرها من أصحابها الحقيقيّين، حفاظاً على "نقاء يهودي" مزعوم وموهوم.

المصدر: العربي الجديد