القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

الفاتورة الإسرائيلية للعدوان على غزة

الفاتورة الإسرائيلية للعدوان على غزة

بقلم: علي بدوان

انتهت مبدئيا تلك الجولة العدوانية الأخيرة التي شنتها الدولة الصهيونية على الشعب الفلسطيني المُحاصر في قطاع غزة، حرب دولة تمتلك جيشا تِقنيا "عرمرميا" في مواجهة مدينة مُحاصرة، وشعب شبه أعزل، مع الاستخدام الكثيف والمروّع لسلاح الجو، الذي ألقى من الحمم النارية على القطاع ما يعادل مفعول أربع قنابل من قنبلة هيروشيما النووية التي ألقاها سلاح الجو الأميركي على تلك المدينة اليابانية مع نهاية الحرب الكونية الثانية في أغسطس/آب 1945.

انتهت تلك الجولة من الحرب بعد أن صمد الفلسطينيون في غزة أمام حرب ضروس، كانت بمثابة حرب قاسية جدا بكل المقاييس، حرب الطحن والتقطيع والقتل بلا هوادة، حيث كان يومها الأخير يوما تصعيديا بامتياز، بدأ بتكثيف تدمير الأبراج السكنية باستهداف برجي المُجمع الإيطالي والباشا بعد تدمير برج الظافر.

انتهت تلك الجولة من الحرب، وظل رد المقاومة الفلسطينية، وفي الطليعة منها كتائب الشهيد عز الدين القسام وسرايا القدس متواصلا حتى اللحظة الأخيرة، حيث أُطلقت صواريخ المقاومة باتجاه العمق المحتل عام 1948 وعلى تل أبيب.

صمود الغزيين

لقد مثل صمود الشعب الفلسطيني وعامة الناس في قطاع غزة في مواجهة العدوان، أحد أهم مكوّنات الانتصار، بل المُكوّن الرئيسي للانتصار، فكل صمود لا يمكن أن يتحقق دون توفر الإرادة عند الناس، ودون تضحيات وشهداء وأبطال، وكل التضحيات المرافقة لأي صمود أو انتصار هي إحياء من جديد للروح الوطنية واستدعاء لروح المقاومة، وهو ما قدّمه الفلسطينيون في قطاع غزة بسخاء مُنقطع النظير، فكان هذا الصمود وتلك التضحيات العنوان الرئيسي للانتصار.

لقد بدا للجميع -وللإسرائيليين قبل غيرهم- في تمام اليوم الخمسين للحرب العدوانية الإسرائيلية على القطاع، أن "الجرف الصامد" إنهار وبات "جرفا غير صامد"، وفتح الطريق أمام شطب المُستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو، الذي طبل وزمر لحربه الأخيرة على القطاع، مُعتقدا بأن حصادها سيكون بتدمير حركتي حماس والجهاد وباقي فصائل المقاومة واقتلاع أظافر الفلسطينيين على حد تعبيره، ولصالح صعوده ملكا مُتوجا في ساحة ملوك "إسرائيل" وسط تل أبيب.

هذه هي المحصلة الأولية من الزاوية الإسرائيلية الداخلية، لأطول حرب خاضتها الدولة الصهيونية على قطاع غزة وعلى قوى المقاومة وفي طليعتها كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها.

انقسام الكابينيت

إن منعكسات ونتائج مرحلة ما بعد الحرب المجنونة على القطاع والمعنونة إسرائيليا بعملية "الجرف الصامد"، سَتجر نفسها على الحالة الداخلية في التشكيلة السياسية والحزبية والائتلافية داخل "إسرائيل"، حيث وجد نتنياهو نفسه -وهو الساعي للفوز بلقب ملك إسرائيل- أمام انهيار هائل على الصعيد الشعبي، كما حصل مع من سبقه.

فرؤساء بلديات في الجنوب يعتبرون اتفاق وقف النار خنوعا "للإرهاب الفلسطيني"، ويدعون سكان مستعمرات غلاف غزة إلى عدم العودة إليها، وتاليا يُتوقع أن تُؤذن المرحلة التالية بفتح النار من كل الجبهات الداخلية الإسرائيلية على بنيامين نتنياهو وعلى الحكومة، فالحلبة السياسية هائجة مائجة في "إسرائيل" على حد تعبير الصحافة الإسرائيلية. وهنا علينا أن نؤكد على العناوين التالية التي تؤشر لما بعد غزة في مسارات الوضع الداخلي الإسرائيلي:

أولا، لم يتم التصويت على قرار الموافقة على الاتفاق مع الطرف الفلسطيني في المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت)، حيث تشير المعلومات بأن نصف أعضاء المجلس الوزاري المصغر الثمانية عارضوا ما تم التوصل إليه مع الطرف الفلسطيني بالمفاوضات غير المباشرة، وعلى رأسهم زُبدة المُتطرفين من عتاة اليمين القومي العقائدي الصهيوني واليمين التوراتي، من وزراء: الخارجية أفيغدور ليبرمان، والاقتصاد نفتالي بينت، والأمن الداخلي إسحق أهرونوفيتش، وجلعاد أردان. وربما أن نسبة المعارضة داخل الحكومة أكبر. وفي نظر كل هؤلاء، لا سؤال سوى القول "كيف أنه بعد خمسين يوما من الحرب نضطر لقبول واقع كنّا نرفضه من قبل"؟.

التفاوض تحت النار

ثانيا، إن القصة في نظر الكثيرين في "إسرائيل" تكتيكية وإستراتيجية. حيث يُشير المعلق السياسي في القناة الثانية للتلفزة الإسرائيلية أمنون أبراموفيتش إلى أن حكومة نتنياهو فشلت في إدارة الصراع؟ والأهم أنها اضطرت وهي التي ترفع شعار عدم التفاوض تحت النيران، إلى التفاوض على وقف النار تحت النار، وهو ما لم يكن ليتم في حروب "إسرائيل" السابقة حتى مع الدول العربية.

ثالثا، بدأت مكانة نتنياهو وحكومته ومعهما جيش الاحتلال في التدهور لدى الجمهور الإسرائيلي، فالإهانات التي توجه إلى رئيس أركان الجيش من جانب وزراء، وإهانة الوزراء لبعضهم البعض ولرئيسهم بنيامين نتنياهو؛ سادت الأجواء العامة في مركز صناعة القرار السياسي والأمني والعسكري طوال أيام العدوان على القطاع.

ففي "إسرائيل" موقفان، واحد يقول بأن الاتفاق جيد مع الفلسطينيين، حيث لم تنل المقاومة لا الميناء ولا المطار، وأنها جُلبت للاتفاق رغما عنها، وآخر يعتبر ما جرى هزيمة كبيرة. وبين هذا وذاك، هناك من يقول بأنه كان أمام "إسرائيل" خيار واحد هو الحسم العسكري، وهو يتطلب معركة قاسية ومُكلفة على مُختلف الصعد، وهو الرأي الذي يُمثّل مواقف عتاة اليمين واليمين المتطرف في المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) وفي الكنيست بشكل عام.

رابعا، أظهر استطلاع للرأي نشرته القناة الثانية في التلفزة الإسرائيلية، تراجع تأييد الجمهور لرئيس الحكومة الإسرائيلية بأكثر من أربعين نقطة. وبحسب الاستطلاع، فإن (38%) من "الإسرائيليين" فقط يعتبرون أداء نتنياهو في الحرب جيدا. وهي نسبة ضئيلة تُذكّر الجميع بما حدث لرئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت في حربه في العام 2006 على لبنان.

والأدهى أن هذا التأييد هبط خلال الأربعة أيام الأخيرة من العدوان إلى نحو (55%)، بعدما كان نتنياهو قد نال (82%) من التأييد عندما أمر بشن العملية البرية، وتدمير المواقع الفلسطينية الموجودة في بنك الأهداف الإسرائيلي. كما ظهر أن (90%) من "الإسرائيليين" غير راضين عن الاتفاق.

رياح الأزمات الداخلية

خامسا، بدأت رياح الأزمات منذ الآن تضرب الائتلاف السياسي الحاكم في "إسرائيل"، فنتائج حصاد معركة الهجوم الوحشي على قطاع غزة لم تكن كما أراد الزارع الإسرائيلي، حيث بدأت تلك الحرب وفي جعبة نتنياهو الكثير من الأحلام والتوقعات والتصورات، لشطب المقاومة الفلسطينية، وتدمير قدراتها بشكل كامل، وبالتالي دفع الفلسطينيين لرفع الأعلام البيضاء، والتسليم بما هو مطروح عليهم، فيما باتت الوقائع على الأرض تشي بشيء آخر، فلا صواريخ المقاومة توقفت، ولا قدرات الأجنحة الفدائية الفلسطينية انتهت.

وعليه، يتوقع أن تمر الساحة السياسية الداخلية في "إسرائيل" بمراحل تسودها "دراما سياسية مُمزقة للأعصاب" على حد تعبير كاتب إسرائيلي، وذلك في ظل مُستتبعات الحرب المجنونة الأخيرة، على شكل توالد استقطابات جديدة، وإعادة انتشار سياسية حزبية في مُجتمع يتميز بخصوبة الاستقطابات السياسية عند كل المنعطفات، حيث الانقسام في الرأي وتوالد الاختلافات العميقة تجاه القضايا التي تُبرزها الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، كما تزداد الانقسامات عمقا في بعض الحالات، تمهيدا لخطوات سياسية مُختلفة قد تقود نحو تفكك الائتلاف الحالي في "إسرائيل"، وبالتالي العودة لطرح موضوع الانتخابات البرلمانية المُبكرة للكنيست العشرين القادمة.

قصارى القول، خرج الفلسطينيون من محنة قطاع غزة -ومع آلامهم التي لا توصف نتيجة ما ذاقوه من استخدام عنيف وغير مسبوق للقوة بحقهم- وهم أكثر تماسكا من ذي قبل، فالوفد الفلسطيني الموحد صمد في وجه كل الألاعيب والمناورات، واستطاع أن يحقق الحد الأدنى من المُمكن بأفق وطني، يفتح الطريق أمام مراكمة النتائج الإيجابية، كما خرجت المقاومة بجسمها الرئيس وهي متماسكة أيضا، فيما خرج نتنياهو من تلك الحرب مجللا بهزيمة سياسية داخلية ستلقي بظلالها على حياته السياسية التي باتت تقترب من نهايتها.

الجزيرة. نت