أحمد الحاج علي
وجوه تعبة أعياها العجز عن النوم بين جدران
رطبة لا تصلها الشمس، وبالكاد يلمسها هواء، في مخيم برج البراجنة، يراها الخمسيني يوسف
خليل مطابقة لحال وجوه سكان المخيم بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. واقع
المخيمات اليوم لا يشي بأي مبالغة في تشبيه الهزيمة العسكرية الأقسى للثورة الفلسطينية
على يد الاحتلال منذ انطلاقتها قبل الاجتياح بعقد ونيّف، بالهزيمة الاجتماعية التي
يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان خلال الأزمة الأخيرة.
شبه حصار
اليوم، مستشفيات بلا كهرباء، مخيمات معتمة
تماماً، الزواريب مزدحمة بنساء ورجال يبحثون عن هواء. وصار مألوفاً مشهد أب وأم في
الطرقات يروحون على طفلهم لجلب نسمة هواء علّه ينام قليلاً. وليس هناك خصوصية لمخيم
دون آخر، فشبه حصار المخيمات الذي كان أحد أهدافه تشكيل هموم محلية وخصوصية لكل مخيم
تفصله عن المخيمات الأخرى كسرته المأساة الواحدة. تلك المأساة التي دفعت المهرّب (ج.غ)
إلى معاودة العمل بعمليات تهريب الفلسطينيين حصراً.
مشهد واحد ممتد من مخيم الرشيدية جنوباً
حتى مخيم نهر البارد شمالاً. في ذاك المخيم الشمالي، الذي لم يعد كل سكانه الذين هجروه
عام 2007 بعد، أعلن تسعة من مزودي اشتراك الكهرباء توقفهم عن العمل. لم يبق سوى اثنين
بالكاد يزودان عُشر المخيم بالكهرباء، ولخمس ساعات يومياً فقط.
يضطر محمد الصفوري وزوجته في هذا المخيم
الملاصق للبحر أن يحملا أطفالهم الثلاثة ليلاً نحو الطرقات الأكثر اتساعاً، ليناموا
على فراش أحضروه معهم، يروحان عليهم بقطع من الكرتون. ساعات ويعودان بهم نحو البيت.
بالكاد يقتنص محمد بعض الوقت لينام قبل توجهه إلى بيروت يومياً، عاملاً في مهنة الطلاء،
مقابل 100 ألف ليرة يومياً. يدفع ثمانين ألفاً منها ثمن أجرة سيارة. تبدو محاولة شبه
يائسة حتى لا ينضم إلى الصفوف الطويلة للعاطلين عن العمل في المخيم.
تهريب الفلسطينيين
نظرة على أوضاع المخيمات الأخرى تؤكد ما
ذهب إليه عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين ومسؤولها في لبنان،
علي فيصل، من أن اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد يعيشون أصعب مراحل حياتهم. وتبدو
الخشية من أن تؤدي الأوضاع الإنسانية المتفاقمة إلى انفجار اجتماعي، وربما أمني، ليست
بعيدة عن الواقع. ففضلاً عن ازدياد عدد الإشكالات والحوادث الأمنية في المخيمات مؤخراً،
شهد مخيما برج البراجنة والبرج الشمالي احتجاجات امتدت إلى خارجه، على اعتبار أن بعض
أصحاب المولدات هم من خارج المخيمين، وكاد ذلك أن يؤدي إلى احتكاكات أمنية جرى تطويقها
على الفور، لكنها أشعلت مخاوف من المآلات التي يمكن أن يؤدي إليها الوضع القائم.
وانقطاع التيار الكهربائي تسبب بطبيعة الحال
بتوقف الإنترنت. ذلك الذي كان ينقل الفلسطينيين من حياتهم البائسة إلى حياة افتراضية،
فيكسرون من خلاله الحصار، وعزلتهم المفروضة، لينعموا بالتواصل مع عوالم أخرى يأملون
الوصول إليها يوماً، ويسعون إلى تحقيق ذلك، من خلال سماسرة، عاد أبرزهم (ج.غ) للعمل
في تهريب الفلسطينيين عبر المطار، لكن المبالغ التي يطلبها تعجز أغلبيتهم عن جمعها
أو استدانتها. فالمبلغ المطلوب هو 10 آلاف دولار للفرد الواحد. ورغم ذلك هناك قلة استطاعت
تأمين المبلغ المطلوب، لتغادر لبنان.
الهزيمة والظلام
لم تحرك الفلسطينيين هذا العام النتائجُ
المتقدمة التي حصدها بعض التلاميذ في مدارس أونروا في الشهادات الرسمية. فالمأساة أكبر
من أن تجمّلها بعض النجاحات كما عبّروا عن ذلك. إن حصد أربعة مراكز من ضمن المراكز
العشرة الأولى في فرع علوم الحياة، كانت لتصنع فرحة فريدة لو حدثت في السنوات الماضية،
فقد كانوا يحتفلون بأقل من ذلك. الشعور بالهزيمة قادهم إلى اعتبار أن هذا الانتصار
فردي وله أسبابه الذاتية، وما يرونه من انهيار في العملية التعليمية لا تعوّضه نجاحات
فردية.
الناشطة الاجتماعية سعاد عبد الرحمن بقيت
ابنتها يوماً كاملاً في طوارئ إحدى المستشفيات بعد سقوطها أرضاً نتيجة الإعياء بسبب
انقطاع التيار الكهربائي، تقول لـ"المدن" "إن هذا الواقع لم نعشه حتى
أثناء حرب المخيمات. مستشفى حيفا (مخيم برج البراجنة) بقيت لأشهر أثناء الحرب مكتفية
بما خزنته من مازوت. هذه الأيام يلفها الظلام، مخزونها لم يكفها لأكثر من أسبوع. هي
كارثة فعلاً لمستشفى يخدم الفلسطينيين في بيروت ولا يحظى بأية رعاية".
وتشير عبد الرحمن إلى مغادرة النخب للمخيم
"فالوضع العام دفع كل من يستطيع مغادرة المخيم إلى القيام بذلك، حتى لو كان ليس
مقتدراً كفاية، والبعض لجأ لأقاربه خارج المخيم وكأننا في حالة حرب. ولا نعرف مدى المخاطر
التي يحملها هذا الأمر، لكنه من دون شك سيترك أثراً مدمّراً على حياتنا". وتتابع
"ليس معقولاً أن تجد المرضى بالطرقات، وإلى جانبهم عبوات الأوكسيجين، أو في أيديهم
معلّقة أمصال، مشاهد لم نعرفها من قبل. وتتحمل الأونروا واللجان الشعبية والفصائل هذه
المسؤولية، ووصول الناس إلى مرحلة انعدام الثقة بأي حديث عن التغيير، بعد أن أفشلوا
كل محاولات المجتمع الأهلي لبناء مرجعية موحدة".
المستقبل الموحش
غياب المرجعية، عبارة تتكرر كثيراً في أحاديث
الفلسطينيين وشكواهم. لقد شعروا فجأة أنهم بلا غطاء اجتماعي أو سياسي في ذورة أزمة
بلد يعيشون على أراضيه، وهي أزمة ولاّدة، وليس من مطمئن لنهاية لها قريباً، الأمر الذي
يضاعف مخاوف اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً وأن لجوء بعض الفلسطينيين من مخيمات سورية
إلى مخيمات لبنان، رسم المستقبل بصورة موحشة، في حال تحولت الأزمة من اجتماعية اقتصادية
إلى أزمة أمنية وصراع مسلّح. ليس هناك من حضور فصائلي جدي في الإدارة أو الأمن أو العلاقات
مع الجوار، ولا في أي منحى اقتصادي أو اجتماعي، ولا خطة إنقاذية، باستثناء بيانات تمليها
الظروف والأحداث.
الفلسطينيون في لبنان، كغيرهم من اللاجئين
الفلسطينيين، يعيشون منذ سنوات على هامش هوية وطنية ممزقة، بلا تأثير على القرار القيادي
الفلسطيني، وبلا حضور معتبر داخل الأطر السياسية، يمكنهم من تغيير الواقع. إن المشكلة
أعمّ، وتجاهل أوضاع مخيمات لبنان على المستوى القيادي الفلسطيني يشبه تجاهل أوضاع مخيم
درعا اليوم، ومخيم اليرموك في الأمس، وغرق الفلسطينيين في وحول مخيم دير بلوط شمال
سورية، لتصبح القضية الأساسية فقدان كل اللاجئين الفلسطينيين لأية رعاية، وعيشهم في
معاناة وتهميش منذ انتقال الاهتمام النسبي إلى الضفة الغربية وغزة.
يخشى بعض الفلسطينيين من أن يجري تنفيس
الأوضاع اللبنانية الداخلية بافتعال أزمة أمنية في أحد المخيمات الفلسطينية، ويذهب
أصحاب هذا الرأي للاستدلال بما جرى في مخيم نهر البارد (2007)، والذي فتحت حربه أبواباً
إقليمية كانت مغلقة. وبغض النظر عن صحة هذا التحليل من عدمها، إلاّ أنه يعكس واقعاً
فلسطينياً فيه من القلق ما يجعل الحياةَ حياةً بالإكراه.
المصدر:
صحيفة المدن