الفلسطينيون في مواجهة مرحلة انتقالية
بقلم: ماجد كيالي *
يقف اليوم الفلسطينيون في مواجهة مرحلة انتقالية على مختلف الصعد، وخصوصا على
صعيد نظامهم السياسي، ليس فقط بحكم تقادمه وتراجع أهليته، وافتقاده القدرة على تقديم
أي إضافة جديدة، بل أيضا باعتباره بات بمثابة حجر عثرة إزاء أي محاولة لتفعيل هذا النظام
وتطويره، للتكيف مع المتغيرات ومواجهة التحديات الناشئة.
معلوم أن كل الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل، انتهت آجالها
الدستورية أو القانونية، وتراجعت أدوارها النضالية، وانحسرت مكانتها التمثيلية.
ويشمل ذلك شرعية الرئيس، وهو رئيس المنظمة والسلطة وفتح، والذي بات له في موقعه
أكثر من عشر سنوات، والمجلسين الوطني (الذي لم يعقد جلسة له منذ عشرين عاما) والتشريعي
المغيب بسبب الخلاف والتنافس والتنازع بين الحركتين الرئيستين، أي فتح وحماس، منذ عشرة
أعوام.
يحصل هذا على صعيد الخيارات السياسية كذلك، إذ لم تنجح الخيارات المتبعة في
مواجهة "إسرائيل" من المقاومة إلى التسوية أو من الانتفاضة إلى المفاوضة،
إذ استطاعت "إسرائيل" إجهاضها أو تجاوزها برسمها إستراتيجيات بديلة تمتصها
أو تفرغها من مضامينها، كما أن القيادة الفلسطينية لم تسع أو لم تحاول إيجاد خيارات
جديدة أو موازية، بل ظلت على مراهنتها على خيار المفاوضات الأحادي، منذ عشرين عاما،
رغم كل إعلاناتها بخصوص وقف التنسيق الأمني والتوجه نحو المقاومة الشعبية.
على الصعيد الشعبي، أيضا، لم يسبق أن واجه الفلسطينيون حالة من التفكك بين مجتمعاتهم
في كافة أماكن تواجدهم في الداخل والخارج، وحتى بين الضفة وغزة، ناهيك عن تآكل مجتمعات
الفلسطينيين في العراق وسوريا ولبنان، بحكم الحروب الأهلية والتشرد والظروف الصعبة،
وأيضا بحكم الخلافات الفلسطينية، وانقسام النظام السياسي، وتهميش منظمة التحرير لصالح
السلطة، وتراجع أهداف الإجماع الوطني، كما عليه الحال الآن.
أزمة فلسطينية شاملة
بمعنى أكثر تحديدا وتفصيلا فإن مشكلة الفلسطينيين اليوم، سواء في التسوية أو
في المقاومة، لا تكمن فقط في موازين القوى المختلّة لغير مصلحتهم، ولا في المعطيات
العربية والدولية غير المؤاتية لهم، فحسب، فهذان العنصران ظلا طوال العقود الماضية
يعملان لغير مصلحتهم.
وفي الواقع فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن أساسا في أنهم كانوا، في ما مضى، يمتلكون
طاقة كفاحية مستمدّة من وجود مشروع وطني يغذّي آمالهم ومخيّلتهم، ومن كيانية سياسية
جامعة متمثّلة بمنظمة التحرير توحّدهم وتعبّر عن طموحاتهم وتشكّل هويتهم، ومن قيادة
شعبية، مسكونة بالرموز، من وزن ياسر عرفات، تلهب عزيمتهم، وتجدّد حيويّتهم بانفتاحها
على مختلف الخيارات.
على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين، بعد أكثر من عقدين من عمر اتفاق "اوسلو"،
المجحف والجزئي والظالم، تكمن في أنهم باتوا يفتقدون أيضا إلى رؤية سياسية، أو مشروع
سياسي ملهم ومجمع عليه، وإلى قيادة متوافق عليها، كما لم يعد لديهم لا مقاومة مسلحة
ولا مقاومة سلمية أو شعبية ولا انتفاضة، بعد أن ارتهنوا حصرا لمشروع المفاوضات، وبعد
أن قتلت المشاريع الملهمة، سواء المتعلّقة بالتحرير أو بحلّ الدولة المستقلة في الضفة
والقطاع، أو المتعلّقة بحلّ الدولة الديمقراطية الواحدة بمختلف أشكالها (دولة المواطنين
أو ثنائية "القومية").
فوق كل ذلك فإن الفلسطينيين في أماكن وجودهم كافة، يكادون يشعرون كأنهم لم يعودوا
شعبا واحدا، إلا في الشعر والشعارات والبيانات السياسية، إذ باتوا يفتقدون لإجماعاتهم
السياسية والكيانية، بعد أن خسروا المنظمة ولم يربحوا السلطة، التي باتت رهينة السياسة
الإسرائيلية، وبنتيجة الانقسام والتنازع بين "فتح" و"حماس"، وبين
سلطتي الضفّة وغزّة، وبعد إزاحة قضية اللاجئين من الأجندة السياسية، وتهميش المنظمة،
وهي كلها أوضاع تفتح على مسارات تباين المصالح والأولويات بين فلسطيني 48 وفلسطيني
الضفّة وفلسطيني غزّة والفلسطينيين اللاجئين المواطنين في الأردن، والفلسطينيين اللاجئين
في سوريا ولبنان وباقي الدول، وفلسطينيي الشتات.
من حركة تحرر إلى سلطة
ما يزيد الوضع إيلاما أن التدهور لهذه الدرجة يكاد يخرج "إسرائيل"
من الموضوع، فالحركتان الرئيسيتان المتحكّمتان بالسلطة وبالشعب وبالموارد منشغلتان
بالتنازع والتنافس فيما بينهما على حساب انشغالهما بمصارعة "إسرائيل"، رغم
تقاربهما من الناحية السياسية باعتمادهما خيار الدولة المستقلة، وبانتهاجهما التهدئة
والمقاومة الشعبية والتحول إلى سلطة!
فقد باتت "حماس" مشغولة في تأمين موازنات أجهزتها وحكومتها في غزة
وفي رفع الحصار عن القطاع، الذي جرى اختزاله إلى فتح معبر رفح مع مصر، وتأمين الكهرباء،
والمحروقات، وكذا الحدّ من نفوذ غريمتها "فتح"، وفرض التهدئة على كل الفصائل،
والتحكّم بحياة الفلسطينيين الذين يعانون الأمرّين نتيجة الحصار.
أما مشكلة "فتح" فانحصرت في استقرار سلطتها وضمان الموارد المالية
لتسيير عجلتها في الضفّة، وتعويم دور المنظمة من ناحية شكلية، بعد طول تغييب لها، والتركيز
على التحركات السياسية الدولية لوقف الاستيطان واستمرار العملية التفاوضية والإفراج
عن الأسرى، وتقديم الشكاوى بحق "إسرائيل" لانتهاكاتها حقوق الفلسطينيين وتعزيز
المكانة الدبلوماسية لـ"دولة فلسطين" أو نيل مزيد من الاعترافات الدولية
بها.
هذه الأوضاع حوّلت القضية الفلسطينية من قضية تحرّر وطني لشعب يكافح ضد الاستعمار
والعنصرية والهيمنة إلى قضية إغاثة إنسانية، وعلاقات دبلوماسية، ودعم مالي، وتحسين
أوضاع معيشية في المحافل الدولية والإقليمية، وإلى قضية إقامة سلطة أو دولة لجزء من
الشعب على جزء من الأرض.
هكذا غابت "إسرائيل" باعتبارها دولة احتلال عنصرية وعدوانية تتحدّى
الوضع العربي، وباتت تظهر باعتبارها مسؤولة، فقط، عن تعثر المفاوضات ومعارضة القرارات
الدولية ومحاصرة غزة وعن الحفريات في القدس وعدم تحويل الأموال إلى السلطة.
وفي الواقع فإن هذا الوضع شكل نوعا من استجابة فلسطينية، ولو غير مقصودة للإستراتيجيات
الإسرائيلية التي تتأسس على تقليل الاحتكاك بالفلسطينيين، والتخفف من المسؤولية عنهم
لتغطية وضعها كسلطة احتلال، ولعل هذا هو الهدف الأساس من إقامة السلطة، ومن انسحاب
"إسرائيل" من قطاع غزة، وخروجها من المدن الفلسطينية المكتظة، وشقها الطرق
الالتفافية والجسور، باعتبار أن كل ذلك يمكن أن يحررها -بحسب اعتقادها- من التبعات
السياسية والأمنية والأخلاقية لوجودها كسلطة احتلال، وهذا لم تدركه القيادات الفلسطينية
جيدا، أو لم تعطه الأهمية اللازمة، لدى إقامة السلطة، ولدى الاستغراق في عملية المفاوضات،
وسط الحماس لإقامة دولة فلسطينية.
معنى قضية فلسطين راهنا
الآن ما العمل؟ قبل الإجابة عن ذلك ينبغي أن تجيب الكيانات والقيادات على السؤال
الآتي: ما هي قضية فلسطين حقا؟ فإذا كان الجواب أنها قضية عربية إسرائيلية فهذا يستلزم
ترتيب "البيت" وصوغ رؤية سياسية وانتهاج أشكال عمل وصيغ كفاح تتناسب مع ذلك.
وفي حال كان الجواب أنها قضية وطنية للفلسطينيين وعربية، في الوقت ذاته، فهذا أيضا
يفرض المستلزمات نفسها.
مع العلم أنه ووفق التجربة لم يعد ثمة ترف لطرح هكذا نقاشات، لأنها لم تعد مقنعة،
ولا تمثلات ملموسة لها على الأرض، في وضع تجد فيه المجتمعات العربية نفسها مستغرقة
في همومها الوطنية، وفي وضع ثبت فيه أنه ليس ثمة في الدول القائمة إجماعات وطنية، بمقدار
ما فيها من توتّرات وتشقّقات ومنازعات.
أما إذا كانت الإجابة عن هذا السؤال أنها قضية وطنية تخصّ الفلسطينيين (على
رغم وجود أبعاد عربية معيّنة لها) فهذا يتطلّب المزيد من التحديد، فهل هي قضية تخصّ
وجود "إسرائيل"، التي قامت على حساب الفلسطينيين واللاجئين منهم خصوصا؟ أم
هي قضية تخصّ الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في عام 1967 ومسّ حياة الفلسطينيين في الضفة
والقطاع؟
مهما كانت الإجابة عن هذين السؤالين فإن ذلك يستوجب على الفلسطينيين إبداء أكبر
قدر من ترتيب أوضاعهم، وصوغ أفضل العلاقات بين كياناتهم، وانتهاج أجدى الطرق لمواجهة
عدوّهم، لكن ذلك يتطلّب من قياداتهم وكياناتهم المقرّرة، أيضا، الوضوح المتمثّل بتخليق
الرؤية السياسية التي يمكن أن تلهم شعبهم وأن تعزّز الإجماعات عنده.
هكذا، لا يمكن خوض أي خيار سياسي بتخلّي حركة وطنية ما عن قضية شعبها، باعتبارها
قضية تحرّر وطني، وبوهم التحوّل إلى سلطة قبل إنجاز دحر الاحتلال، ولا يمكن تحشيد الشعب
كله أو بعضه حول سلطة تثار حولها شبهات احتكار السياسة وتقييد الحريات مع الفساد والمحسوبية
وخبوّ الروح الوطنية والتنسيق الأمني مع "إسرائيل"، ومع الحيلولة دون تبلور
أي شكل من أشكال المقاومة (المسلحة أو السلمية).
أيضا لا يمكن لجهة ما ادّعاء قيادة شعب، وهي تحصر خياراتها في خيار وحيد، فكيف
إذا كانت هذه الجهة لا تهيئ ذاتها وشعبها لخيارات بديلة، كما لا يمكن ذلك مع بذل التنازلات
المجانية، ومن دون مقابل مناسب، وضمن ذلك الذهاب نحو حلّ على شاكلة اتفاق "أوسلو"
(1993) من دون معرفة نتيجته ومن دون البت بمسائل الاستيطان وحسم المدى الزمني وتعريف
"إسرائيل" بصفتها دولة محتلة.
وبالتأكيد ليس من المشروع ولا من المجدي لقيادة شعب أن تتخلّى مجانا عن رواية
شعبها، ولو بادّعاء الانسجام مع القرارات الدولية، لأن هذه القرارات في الحالة الفلسطينية،
لا تقرّ بواقع الاحتلال والاستيطان، أصلا، ولأن الاعتراف بإسرائيل في الأمم المتحدة
جرى بموجب القرار 272 (1949) المتضمّن قيام دولة عربية على 43% من أرض فلسطين، وضمان
حق العودة للاجئين الذين شردوا من أراضيهم (وتعويضهم أيضا)، ووضع منطقة القدس تحت وصاية
دولية.
هذا مع العلم أن ثمة يهودا إسرائيليين يشكّكون في الرواية الرسمية لدولتهم ويرفضون
تعريفها كدولة يهودية أو دولة "حريديم" أو دولة مستوطنين، لتناقض ذلك مع
الديمقراطية، ولأن هذا يطبعها بطابع ديني وعنصري. الأهم من كل ذلك أن القيادات والكيانات
الفلسطينية كلها معنية بإدراك أنها ليست وحدها من يحدّد طابع الصراع مع "إسرائيل"،
ومداه، لأن الطرف الآخر المعني والمسيطر هو الذي يقرّر.
هذا لا يعني أن اعتدال الخيارات والخطابات الفلسطينية وواقعيتها ليسا ذا معنى،
وإنما يعني أن اعتدال الفلسطينيين وحسن سلوكهم وتحولهم نحو التهدئة لا يكفي، وهذا ما
أثبتته تجربة أوسلو المستمرة منذ عقدين، وتجربة قيادة أبو مازن خلال عشرة أعوام، وتجربة
"حماس" ذاتها في غزة خلال الأعوام الماضية.
معنى ذلك أن الكيانات والقيادات السياسية، وبعد كل هذا التدهور في وضع قضية
الفلسطينيين وفي مستوى كفاحهم، معنية بمراجعة مسيرتها، بطريقة نقدية ومسؤولية، وإدراك
حقيقة أنها إزاء مرحلة انتقالية تتطلب منها حسم أمورها على الأصعدة كافة، أي على صعيد
النظام السياسي، والرؤية السياسية، وأحوال الفلسطينيين المجتمعية.
هذا يتطلب منها أيضا، وضع حد للتنافسات والمنازعات العبثية والمجانية والمدمرة،
التي لا تفيد إلا "إسرائيل"، مما يعني أن الأمر يتطلب حسم التوجه نحو المصالحة
وإنهاء الانقسام ووقف الوظيفة الأمنية للسلطة، وتفعيل منظمة التحرير، واستعادة الحركة
الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، على صعيد الخطابات والعلاقات والبنى والأشكال الكفاحية،
مهما كانت طبيعتها، خاصة أن خيار المقاومة الشعبية السلمية يتطلب تعبئة أكثر وتنظيما
أفضل وجهدا أكبر.
هذا الوضع وحده هو الذي يمكن أن يغذّي طاقة الشعب الفلسطيني النضالية ويشعل
الأمل في قلوب أبنائه، ويعزز هويتهم وإجماعاتهم الوطنية، وهو الوضع الذي يمكّن من إعادة
وضع قضيتهم على الأجندة الدولية والإقليمية والعربية، باعتبارها قضية شرعية وعادلة
وتخص شعبا يتوخّى التخلّص من الاحتلال والعنصرية والهيمنة.
* كاتب فلسطيني
المصدر : الجزيرة