الفلسطيني محسود على نكبته
بقلم: ياسر علي
حين تقرأ هذه التدوينة، ستردد في نفسك: حتى على الموت
لا أخلو من الحسَدِ!!
ثمة حوادث طريفة من الكوميديا الفلسطينية السوداء،
تستخرج المضحك من المبكي، ويجسد "شر البلية ما يضحك" في التناقض بين من يعيش
النكبة جبراً ومن تعجبه هذه المعيشة اختياراً. كأن تعيش منذ 68 عاماً في مخيمات اللاجئين،
فيأتيك من يتمنى أن يقضي إجازاته في التخييم أو المخيمات.
هل يمكن أن يُحسد الفلسطيني على نكبته أو على ما
يعيشه من تأثيراتها، أو على بعض «عطايا» وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»
التي يحصل عليها اللاجئون وفقاً لمستوى معيشتهم، ما بين الفقر والفقر المدقع.
ومن ذلك.. حين يأتي الناشطون الأوروبيون، فيستمتعون
في مخيماتنا ويمشون في الأزقة بحبور الأطفال الذين يتعرفون على الأشياء أول مرة.
وحين يستجيب لك المجتمع الدولي لمساعدتك على طريقة
ماري أنطوانيت، فيقترحون على الجائعين أن يأكلوا البسكويت والحلوى، لأنهم يطلبون الخبز
ولا يجدونه.
وحين يحاول لبناني أن يحصل على جنسية اللاجئ الفلسطينية!!
بعد اطّلاعه على تقارير تتعلق بالتوطين والتعويض بمئات آلاف الدولارات للفلسطينيين.
وحين يرغب بعض الميسورين بشراء قطع «أنتيكا» قديمة،
أو لوحات وأقمشة وزعتها المؤسسات الإغاثية على اللاجئين، ويعتبرها الفلسطينيون من معالم
نكبتهم.
هذا الحسد أو الغيرة، غير المفهومة لأبناء المخيمات،
من نكبة "أجبرت" الفلسطيني على العيش في تأثيراتٍ يتمناها الميسورون من باب
الاختيار والتنويع وتحقيق الأشياء "الأوريجينال" أو الحصول على "الانتيك"
من خلال الرغبة في اقتناء بعض حاجيات اللاجئين. وفيما يلي بعض القصص التي توضح الفكرة
أكثر.
(1)
في ربيع سنة 1993، كنّا مجموعة من الشباب متوجهين
إلى مخيم المبعدين الذي أبعدهم الاحتلال الإسرائيلي إلى لبنان، وعندما وصلنا قال أحد
الشباب: يااااه، من زمان نفسي أشارك بمخيم هيك، حلوة عيشة الكشّاف!! واختار خيمته بفرح
متوقفاً امام هذه التجربة "الرائعة" حسب زعمه. واعتبرها "نعمة يحسدنا
عليها الملوك"! كأنها تصوّف اختياري.
لقد أعجبته التجربة لأنه ذاق حلاوتها من دون مرارتها..
فعلاً "لا يعرف الشوق إلا من يكابده.. ولا الصبابة إلا من يعانيها".
(2)
زرتُ في أحد الأيام رجل أعمال ثريّ دعاني لاجتماع
في بيته الفخم، المليء بالتحف الأثرية والفنون التشكيلية والأحجار الكريمة والبحرية
وغيرها.. وأضواء الهيلوجين الملوّنة.
كانت المفاجأة أنني رأيت على الجدار عنده قطعة قماش،
لا هي لوحة ولا تحفة، بل هي بساط ملوّن، يشبه البساط الذي وزعته علينا المؤسسات الاجتماعية
عند خروجنا من تل الزعتر، لونه أزرق وأبيض وزهري، استخدمناه عشرين سنة حتى اهترأ..
والمفارقة أنه يشبه البساط المعلق على الجدار عنده.
أخبرته بسبب استغرابي، أننا استلمنا مع البساط
"جودل" patchwork، فإذا به يستحلفني: بالله عندك جودل؟! لم أعرف إذا كان جاداً أو ممازحاً،
فأعاد السؤال عليّ، فانتابني ضحك مُخجل.
لقد كان جدياً، يريد الجودل، وقال: "كثير أوريجينال"!!
يومها حرصت على إحضار جودل له، وسألت والدتي رحمها
الله: بتقدري تعمليله جودل؟ فقالت: يمّا هدول بيحبو شغلتهم تكون قماشتها فاخرة!
أخبرته برأي الوالدة فقال: لهْ يا زلمة.. هيك بيصير
تقليد!
شعرتُ يومها بالعقد الطبقية.. وشعرت أيضاً برغبة
في خنق الذين يحرصون على الحصول على ضروريات حياتك لتكون كماليات يزيّنون بها حياتهم.
(3)
ذات سنة زارنا بعض الأصدقاء الأجانب، فأخذتهم في
جولة بأحد المخيمات.. فتحدثوا بإعجاب عن طفل يجرّ طفلاً آخر بصندوق خضار بلاستيكي مربوط
بحبل.. ويتبادلان "الجرجرة". فأخذ أحدهم يلتقط صوراً لهم ويقول: إنهم يصنعون
ألعابهم.. بينما أطفالنا يعانون من البلادة!
وهذا هو الحسد الحقيقي، فمع دخول الإنترنت والألعاب
الالكترونية بات الأولاد يجلسون ساعات طوال أمام الشاشات والهواتف الذكية.
لم يعرف أن هؤلاء الأطفال لا يختارون هذه الألعاب،
بل هي الحد الأدنى الذي يحصلون عليه. وأن ما حسدوهم عليه كانوا مجبرين به ولم يكن اختيارياً.
(4)
في سبعينيات القرن الماضي، كانت وكالة الأونروا تدير
مجموعة من المطاعم لأطفال المخيمات. كنا نجلس على الكراسي الخشبية حول طاولة بعرض
30 سنتم، وطول أربعة أمتار (تشبه طاولات السجناء في الأفلام)، ونأكل بصحون من الألمنيوم،
لكل طفل صحن تسكب له العاملات مرة واحدة.
وعند نهاية الطعام، كنا نمسح أفواهنا بكُمّ المريول..
ثم نأخذ غصباً عنا حبة "زيت السمك" التي كانت ذات رائحة كريهة وصعبة الابتلاع،
وكانت أصعب المعاناة حين "تنفزر" الحبة في الفم. وكنا بالعموم نرمي هذه الحبة
بالنفايات هرباً منها.. أين الحسد في هذه القصة؟
عندما كبرنا، واضطررنا لتناول المتممات الغذائية
في النادي الرياضي، وأخبرني المدرب أن علينا أن نتناول زيت السمك (قال: أوميغا 3) وأن
من الأفضل أن يكون تناوله منذ الصغر. وصرنا نشتري "أوميغا 3" بعدما كنا نرميها
حين كانت "زيت سمك".
(5)
ذات شتاء عاصف ومطر شديد، ابتُلينا بوفد من الناشطين
الأجانب.. لم أكن على علاقة معهم، ولكنني أرشدتهم إلى بعض الحالات المحتاجة.. ولكن
"بدل ما نكحّلها عميناها".
أخذتهم إلى أحد البيوت، وشرحت لهم الفقر الذي يعيشه
ساكنوه، وقلت "مساكين، يعيشون في بيت سقفه من الزينكو، وما عندهم غاز أو كهربا..
يعني المشحّرين ما عندهم غير كانون الفحم في البيت، وتنكة جبنة فاضية بيولعوا فيها
خشب.. المساكين ما معهم فلوس يجيبوا كستنا، فاشتروا كيلو بطاطا من الحبات الصغيرة،
ودفنوها بين الجمرات".
دخلنا عليهم مبلّلين، وقعدنا على الأرض، فأحضروا
لنا حرامات. وكان المطر قوياً على سقف الزينكو فكان يُحدث ضجيجاً يمنعنا من سماع بعضنا،
ورائحة البطاطا المشوية تدل أنها جاهزة للأكل.. ورائحة القهوة في كانون الفحم مذهلة..
رأيت الناشطة الأجنبية مسرورة في "المضافة"
وقالت –صدقاً أم مجاملة؟- إنها أحلى جلسة جلستها من سنين. وأعادت كلامي بطريقتها المتفائلة:
بيت دافي، لأن فيه 14 شخصاً، وصوت الشتاء رومنسي،
والكهرباء مقطوعة وضوء القنديل خافت قليلاً، وحرامات على الأرجل، والجوادل أيضاً!!،
وقهوة (غلاية قهوة عادية وليس دلّة عربية)، وبطاطا مشوية على الفحم.
خشيت في لحظة سرورهم من الكَنْكَنة، أن يطلبوا النوم
في ذلك البيت! وأن يتحول إعجابهم بتلك المعيشة (لمرة واحدة) إلى قناعة أنها فعلاً أجمل
من معيشتهم في الغرب. فتنقلب الشفقة التي تدفعهم لدعم تلك العائلة إلى حسد يمنعهم من
الدعم.
أخيراً، وباختصار
بعض مظاهر النكبة، إذا كانت مؤقتة أو اختيارية، فإنها
ستكون محسودة من الميسورين والناشطين ومِن كل من لم يجبره الزمان والظروف على العيش
في النكبة. فهل نستطيع تحويل هذه المصائب المرغوبة من الآخرين إلى فرص للعمل، وجعلها
معالم يزورها الحاسدون!!
المصدر: مدونات الجزيرة