الفلسطيني والقدس ورمضان!
بقلم: صلاح حميدة
تشكل وعي الفلسطيني على بطولات صلاح الدين الأيوبي وعمله على تحرير القدس، وتعتبر
سيرة هذا البطل الكردي المسلم وتحمله مع الأخوين زنكي وعائلته عبء تحرير فلسطين والقدس،
في مرحلة صعبة للغاية تشبه ما نعيشه الآن من هزائم ومؤامرات وتحالفات شيطانية بين أعداء
الأمة وبعض العرب والمسلمين، وكأن الصورة هِيَ هِيَ، مع اختلاف الأسماء فقط، فسيرة
المُحَرِّر صلاح الدين قدوة ومنارة للطريق للسائرين على درب تحرير القدس.
حُرِمَ الفلسطينيون قسراً من زيارة القدس بسبب منع الاحتلال لهم، فالغزيون محرومون
من زيارته إلا المريض والتاجر الذي يحصل على تصريح بشق الأنفس، ومن الضفة بتصريح أو
تهريب، أما اللاجئون فمحرومون إلا من يمتلك جنسية أجنبية ويستطيع الحصول على فيزا من
الاحتلال، ومن يسمح لهم بقيود أقل لدخول القدس والصلاة في الأقصى هم المقدسيون وفلسطينيو
الداخل الفلسطيني المحتل.
في رمضان يسمح لنا - سكان الضفة الغربية- لمن سِنُّهُم فوق الأربعين بدخول القدس
للصلاة أيام الجمعة وليلة القدر فقط، ولذلك تحظى تلك الأيام بأهميَّة خاصّة لمن تنطبق
عليهم معايير الاحتلال، تتجهز بلهفة ليوم الجمعة، فتلك رحلة تحتاج لشد رحال حقيقي،
سجادة للصلاة وقنينة مياه وربَّما فراش بسيط للاعتكاف وأغراض أخرى قد تحتاجها في رحلة
شاقة، تتجه لحواجز الاحتلال وتقف في الطابور لوقت طويل حتى يدقق جنود الاحتلال في بطاقتك
الشخصية، وتدخل عبر عدة حواجز وإجراءات فحص وتفتيش، ثم يتم وقفك تحت لهيب الشمس والغبار
من قبل جنود الاحتلال لمدة ساعة أو أقل قليلاً. ثم تركب الجموع والسيول البشرية في
الحافلات وتسير بك باتجاه القدس، على يسارك جدار الفصل العنصري الذي يسجنك في وطنك
وعن وطنك، تحتار هل أنت خارج من سجن أم داخل فيه، شعور مختلط لمن يقع تحت الاحتلال
ويعيش الغربة في وطنه، سجين في رام الله، وتدخل مسجونا في حافلة إلى القدس وفلسطين
على رحابتها، تشعر براحة نفسية غريبة تجتاحك من أقصاك إلى أقصاك، ثم تصل بك الحافلة
إلى التلة الفرنسية، فتهب عليك رياح غربية ونسمات من هناك، من دير ياسين خلف التلة،
تذكرك بالكثير من الألم والأمل، والجرح الذي لم يندمل، ثم تبتلع الألم وتسافر بك الحافلة
نحو الشيخ جراح حيث المسجد والحي اللذان يتعرضان لهجمة شرسة من المستوطنين، فهناك قد
تمسي في بيتك وتصبح على الرصيف.
تقف الحافلة على رأس شارع صلاح الدين الأيوبي، وتجد نفسك ضمن سيل بشري يزحف
عبر الشارع متجها نحو البلدة القديمة حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، عندما تصل لأحد
أبواب القدس القديمة وتنظر لسورها العظيم الذي بناه السلطان العثماني سليمان القانوني،
تشعر برهبة المكان وعظم من مروا من هنا، ومن بنوا تلك القلعة، وجمال عقل ومخيلة من
صنعوا الزخارف ونحتوا الآيات القرآنية، وتعبر الأبواب والأزقة بين المحال التجارية
وصراخ التجار وضجيج السوق، وزحمة البشر، يحيون القدس وتحييهم،وترى المدارس والطرق التي
عُبِرَت من قبل المسلمين والعرب والغزاة، يا ترى من مر من هنا؟ هل نسير على خطى عمر
بن الخطاب، أم مر من هنا صلاح الدين الأيوبي؟ أم السلطان سليمان؟ أم الظاهر بيبرس؟
كم من المقدسيين قتل هنا على يد الفرنجة؟ وكم مر من الفرنجة بأمان عندما حرر صلاح الدين
القدس؟ يختلط التاريخ بالجغرافيا بالأيديولوجيا، مزيج رائع يخلط مشاعر الحرمان والفخر
والحزن والأمل بالمستقبل.
لحظات وتجد نفسك في ساحات المسجد الأقصى وقبة الصخرة، يسحرك المنظر الذهبي المتلألىء
لقبة الصخرة وسحر زخارفها، ذلك المسجد الخشبي الذي بهر المهندسين والرحالة، وتستمر
حتى تصبح مواجها للمسجد الأقصى بروعته وجماله، هل نقف الآن مكان أي من الأنبياء؟ هل
نصلي مكان نبي الله نوح؟ أم نسجد حيث سجد نبي الله لوط؟ أم حيث ركع نبيه آدم؟ أم حيث
جلس نبيه صالح؟ أم مكان نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام عندم جمعهم الله ليلة الاسراء
والمعراج؟ على يسارك المسجد المرواني وعلى يمين الأقصى مسجد البراق حيث مكث البراق
منتظرا رسول الله عليه الصلاة والسلام، بجانبه المتحف الاسلامي وفي ساحته التيجان و
الاعمدة الجميلة من بقايا ما تدمر من المسجد في زلزال ضرب القدس قديماً.
تتجول وتتلمس وتتحسس حجارة القدس والمسجد والقباب والسبل والدور والمدارس، تتملكك
الرغبة لتقبيل كل شيء في القدس، وترغب باستنشاق أكبر قدر من هوائها، وعبق تاريخها وحاضرها،
والأجواء الايمانية التي تفرض نفسها بكل حب، هذا يرش الماء على المصلين للتخفيف من
وقع الحر عليهم، وتلك تنظم المسير، وهؤلاء يعالجون وينقلون ويساعدون، مجموعات تجهز
الطعام للمصلين بنظام وترتيب، لجان لكل شيء، لا تحتاج لشيء ولا تجده في القدس، إلا
الرغبة في زيارتها متى شئت وكيفما شئت.
في القدس تلتقي بالاقارب والأصدقاء والكثير ممن حرمت من رؤيتهم بسبب الاحتلال
أيضاً، فرصة لصلة الأرحام وتجديد وتمتين العلاقة مع الأهل والأحبة، وفرصة للتجول في
شوارع القدس وحواريها بلا قيود ولا رقابة ولا منع، شوارع تتخيل كيف كان والداك يتجولان
فيها وهما أطفال وفي مرحلة الشباب، وحرما منها مثلك، أنت المقدسي وتأتي للقدس زائراً،
أنت الفلسطيني المقيم، والغرباء هم المواطنون؟!. فترغب بالصراخ، أنا القدس، أنا شوارعها
ومقدساتها ومدارسها وكل ما هو جميل فيها، أن الشجر الأخضر واليابس فيها، أنا المياه
الجارية في نوافيرها والهواء في سمائها، أنا الجذر والشجر والأغصان والزيتون والنخيل
والسرو والصنوبر، أنا الحجارة والتراب، أنا صباحها ومساؤها، أنا القابع تحت الاحتلال،
أنا العائد، أنا المُحَرِّر، أنا لم ولن أنسى، أنا الفلسطيني، أنا القدس، تعرفني وأعرفها،
أنا فلسطين، أنا لست لقيطاً يبحث عن وطن.