القدس وردة الذاكرة
نردين أبو نبعة
في يوم الفتح ستحضن القدس من حمل السيف وركب الخيل،
فلسطين للذين قاوموا بالنور زحف الظلمة، فلسطين للكف الساخنة التي ما صافحت ولا هادنت
ولا ارتجفت، فلسطين لمن رفض السجود لعجل السامري، فلسطين للذين رسموها في المخيلة.
بكلمات أمي عرفنا القدس لمسنا طهر دمها،
عرفنا بأن القدس حين تضئ القلب يتدلى مفتاح السماء وتبوح لنا بسرها. كانت أكثر ما تخافه
علينا ليس شحوب الوجه بل شحوب الذاكرة، لذلك كانت تصر على إعادة بعض الحكايا، تعيد
وتزيد.. ونحن نستغرب ولكننا نستمتع! في كل ليلة أطل من شرفة القلب على القدس، القدس
آذان بلال، القدس حبل الله الممدود إلى السماء. القدس المرآة التي تعكس منسوب الغفلة
والنسيان ولون الخطايا وملامحها! جنود مدججون بالسلاح يروحون ويجيئون، أيديهم على الزناد،
أفواج من المستوطنين يقتحمون ساحات الأقصى تحت حماية الجنود، أصوات التكبير تعلو من
المرابطات، أجول بنظري ولأول مرة تستوقفني حارة المغاربة وكأنها لم تُسوَّ بالأرض!
تضئ مخيلتي بحروف أمي، أمي التي كانت في
كل ليلة تخيط ثياب العودة، تتدفق الذكريات كسيل عرم، ما زال صوتها يرن وهي تلملم بقايا
حارة المغاربة لتعيد تركيبها بيتاً بيتاً، شارعاً شارعاً. أتابع الناس والمارة والباعة،
أرى المآذن والجوامع الأربعة في الحارة، أرى حائط البراق، أسير بخطوات متسارعة، يُخيل
إليّ أن أقدامي تتحول إلى أجنحة تطير في سماء الإسراء أحدق ملياً بالحي المسوى بالأرض،
والذي تحول إلى ساحة المبكى!
أرقب الحارة وهي تُهدم، أرقب ٣٤ داراً تُنسف
في ليلة العاشر من حزيران من قبل جرافات الاحتلال، تُطل المقبرة الجماعية من تحت السور،
مقبرة جماعية لفلسطينيين قتلوا، وكل ذنبهم أنهم رفضوا المغادرة خلال مهلة الربع ساعة
المعطاة لهم من قبل جيش الاحتلال! أُنصت لوقع أقدام اليهود واهتزاز أجسادهم في الأسفل،
أسمع استغاثات مكتومة للأحجار والأشجار، وتكويني الحجارة والمآذن وهي تتهاوى! أسمع
أقدام المهجرين عنوة، أبواب تُفتح، حاجيات تؤخذ على عجل، حارة كاملة تهدم، وجع ناضج،
احتراق التراب، تفحم الأماني والذكريات!
أعتقد أنني فهمت الآن كلام أمي، لقد كانت
تربت على كتف الوطن المحترق بمزيد من الحكايات المشتعلة، تزرعها في ذاكرة البذور لعلها
تثمر ولو بعد حين، لم يكن بيدها سلاح سوى هذه الحكايات وهذه البذور المتعطشة! لقد كانت
تطفئ ألسنة اللهب التي تشتعل في غرف القلب بمزيد من الأماني! ويعود صوت قوي يخترق أذني..
إنه صوت بن إيتان مجرم الحرب وهو يقول: "إذا كانت فرس محمد قد صعدت إلى السماء
فلماذا لا يصعد المسجد أيضاً" لقد قام بطحنه بشكل كامل بحيث لم يبق له أثر يُذكر!
يأتيني صوت أمي الآن.. النسيان هو أول الهزيمة! كانت تخاف على نفسها وعلينا أن ننسى.
كانت تخاف أن نألف حتى نتحجر، كانت تخاف أن تتحول أعيننا إلى صلصال لا يرتعش للأقصى
فتكون النتيجة مزيداً من الانهيارات والضياع!
كانت تغرينا بالبقاء في المدينة التي تسكننا
ولا نسكنها ! تجعلنا نصنع فكرة العودة، ونرويها في مخيلتنا، حتى إذا حانت لحظة اللقاء
صار الزيت نوراً وناراً! عندما كنا نغلق أعيننا ونحن مرى أشلاء الشهداء كانت تصرخ فينا:
لا تستسلم لقشعريرة جسدك حين ترى قسوة الأشلاء، ثق بأن التين والزيتون كانا في البدء
دماً ودمعاً.
بكلمات أمي عرفنا القدس، نحفظ الحدود والشوارع
والزقاق والأسواق ونشم رائحة التوابل ونرى ألوانها الباهرة ونتلمس الأقمشة في الأسواق
ونتذوق الكعك وتعيد وتزيد، تذهب إلى حكاية أخرى ثم تعود إلى الحكاية الأولى والثانية
والثالثة وكأنها تقوم بمراجعة لامتحان قادم، تعيد وتزيد.
هذه الحارة وقفها الملك الأفضل ابن السلطان
صلاح الدين على المجاهدين المغاربة الذين شاركوا بفتح بيت المقدس، الحارة نقع في الجانب
الغربي لمدينة القدس، يحدها من الجنوب سور القدس وباب المغاربة، ومن الشرق الزاوية
الفخرية، ومن الشمال المدرسة التنكزية وقنطرة أم البنات ومن الغرب حارة الشرف ونحفظ
الزقاق، والحدود.
ونجحنا في الامتحان، آذان الأقصى لا يفارق
أرواحنا، وحكايا الشجر والحجر والبشر، المسألة لا تعدو أن تكون مسألة وقت، والمسافات
لا وزن لها فنحن على الأبواب وتكبيرنا يعانق الساحات رغم الأيدي التي تصافح السكين،
رغم جفاف الزهر على الضفاف المحاصرة، فالصقيع وإن تمادى فهو على السطح ومن برده سيتدفق
دافئاً عشق فلسطين.
المصدر: مدونات الجزيرة