الكوفية في عزلتها
بقلم: نصري حجاج
أخذتني طالبة بيرزيت التي كتبت باحتقار فكري إسلامي
عن ياسر عرفات، بعد انتخابات الجامعة قبل أسابيع، إلى سؤال الرمز في حياة الفلسطينيين
وجدواه، وأنا الذي كنت مع نبذ تقديس الرموز، على أهميتها في حياة شعب مهدد بهويته الوطنية
التي لم تكتمل. وجد الفلسطينيون في تاريخهم وجغرافيتهم المنفلته من بين أصابعهم رموزاً
سقوها بدمهم وسيرورة آلامهم، كي تترسخ في عقولهم ووجدانهم من جيل الى جيل، حفاظاً على
هويتهم أمام قسوة التفتت وعذابات التشتت. وقد كانت مآكلهم وأشجارهم التي يزرعونها،
منذ وجدوا في بلادهم، وفي برّهم بما يحمله من نباتات خارجة من رحمه، بلا رعاية غير
الهواء، والنفس الذي يمنحه وجودهم في المكان، ولباسهم التقليدي وأغانيهم الشعبية تحمل
دائماً رغبة جامحة لخلق الرموز، والمحافظة عليها، وهم يواجهون، منذ احتلال فلسطين،
فعلاً إسرائيلياً دؤوباً وممنهجاً لتحطيم تلك الرموز أو السطو عليها.
هكذا زعم الإسرائيليون أن شجرة الزيتون رمزٌ يخصهم،
وأن الفلافل والحمص، وأخيراً أكلة المقلوبة، أطباق إسرائيلية، ما أثار حفيظة الفلسطينيين
الفخورين بتلك الأطباق. ولم يكن في جميع تلك الرموز أعزّ وأكثر إثارة للشعور بالهوية
الوطنية من الكوفية الفلسطينية البيضاء والسوداء. وعلى الرغم من المآلات الحزينة للكوفية
راهناً، إلّا أنها تبقى الرمز الأقرب إلى قلوب الفلسطينيين. وكان ياسر عرفات هو الذي
نقل الكوفية من غبار التاريخ الوطني الذي لم يصب بالأذى، كالجغرافيا الفلسطينية، ونفض
عنها غبار حكاية ثورة الـ36، حيث بدأت ولادتها رمزاً فلسطينياً عزيزاً، واشتغل على
إعادة الحياة إلى خيطانها، خيطاً خيطاً، وتفاصيل أبيضها وأسودها، بعد أن كادت تضيع،
بمحاولات حثيثة، في فوضى الألوان التي حاولت محو توهجها وتميزها. منذ الصدام الدموي
بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني في سبتمبر/أيلول 1970 شهدنا كيف بدأت
الكوفية على رأس ياسر عرفات تتطور، في شكل قعدتها وعلاقتها برأسه، وبما توحي للرائي
والمتابع لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية التي عرفت أول هزائمها في الأردن، مشروعاً
وطنياً طموحاً. وكلما اشتد الحصار على الحركة الوطنية الفلسطينية، عربياً وإسرائيلياً
ودولياً، كانت الكوفية على رأس عرفات تبدع قوتها، لتترسخ رمزاً، على الرغم من هشاشة
واقعها وواقع حاملها، حتى بتنا لا نميز بين الكوفية وياسر عرفات وفلسطين، إلى حد أن
الميديا الغربية أطلقت عليه لقب "مستر فلسطين"، وصارت الكوفية معه، ومع الفدائيين،
رمزاً عالمياً للفلسطينيين، ولكل المتمردين على الظلم، طبقياً أو وطنياً، في كل بقاع
الأرض، ما أنتج سوقاً تجارية رائجة لبيع تلك القطعة من القماش.
جعل عرفات من الكوفية حلة كاملة من اللباس المميز
له، فصارت غطاء للرأس، بقعدة مميزة، وصفها هو بأنها انسياب قماشي، يشبه شكل خارطة فلسطين
الكاملة المستحيلة، وبأن القعدة على الرأس هي قبة الصخرة في المسجد الأقصى، وقد أضاف
أبو عمار إلى ذلك شالاً من القماشة نفسها، يحمي رقبته النحيلة.
لكن الكوفية انكمشت على نفسها، مثل طفل خائف من
العتمة، وتركت وحيدة بعد هزيمة المنظمة في اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982. لم يعد يكترث
لعزلتها أحدٌ، فقد حاربتها قوى قديرة، تمتلك من الجبروت والوحشية ما لا طاقة للكوفية
عليه. كانت الكوفية سوداء وبيضاء، وبعد رحيل عرفات، عادت الألوان لتخترق مكامن الدلالات
والرموز، فأدخلت حركة حماس اللون الأخضر إلى جسد الرمز الفلسطيني، ابن التاريخ الطويل
من البحث عن الهوية، وأخفى أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، وجهه بكوفية حمراء،
وتوشح مقاتلو حركة الجهاد الإسلامي باللون الأسود الإيراني. لم يعد للنجوم بريق يضيء
الكوفية، وليس للملائكة شأن بها، وكأن تلك الغابة من التاريخ الوطني، المتوهج الذي
أشعل أطرافها بسحر خاص، تخيفها، اليوم، عصا، فترتجف أشجارها، وتخرج ذكريات منها واحدةً
واحدةً... وتموت.
المصدر: العربي الجديد