اللاجئون المنسيون في مؤتمر "فتح”
بقلم : أيمن أبو هاشم
أكثر من رسالة غير مشفّرة، حملها مؤتمر
حركة فتح السابع إلى اللاجئين الفلسطينيين، كأنها تتوّج مساراً تاريخياً من التخلي
والتنكر الصارخيْن، حيال من شكّلوا جذوة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعِماد مشروعها
الوطني.
لم يكن تجهيل مأساة فلسطينيي سورية في كلمة
رئيس "فتح” والسلطة الوطنية ومنظمة التحرير، مما يُمكن فصله عن دواعي انتقاء أحمد مجدلاني
ليُلقي كلمة منظمة التحرير في المؤتمر، وهو الشخص الذي يثير مجرد ذكره كل غضب فلسطينيي
سورية الذين اختبروا دوره في تزييف رواية الضحايا في مخيم اليرموك، وترويجه أكاذيب
النظام السوري بلا أدنى خجل.
ثمّة رسائل أخرى تُضمر حدود رؤية الرئيس
محمود عباس في تعامله مع قضية اللاجئين الفلسطينيين، المهجورة في ذيل مشروعه للحل العادل
والمتفق عليه، لكن المسكوت عن تصفيتها في سياساته الواقعية، ودوره في ترسيم هوة الاغتراب
بين مجتمعات اللاجئين وحركة فتح التي جرى تدجينها وتكييفها لكي ترفد السلطة بجيشٍ من
الموظفين.
لكن الغريب والمؤلم معاً أنّ ممثلي حركة
"الحزب الحاكم” عن ساحات اللجوء التي قدِموا منها للمشاركة في المؤتمر، أسهموا في عملية
الترسيم تلك، ولا يبدو أن أحداً منهم رفع مجرد إيماءة احتجاج، عن معنى التمثيل الضئيل
والرمزي لساحات اللجوء، في مؤتمرٍ كشف التصفيق الحارّ والمتواصل لأعضائه عن تفشّي طقوس
العدوى البعثية التي انتقلت إلى سدنة الدفاع عن (القرار الوطني المستقل).
كانت القطيعة مع إرث "فتح” القديمة في مؤتمرها
السابع ضرورة لشرعنة الانفضاض عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين، والتغطية على مآسي (ومعاناة)
أبناء المخيمات المنكوبة الذين أطلقوا بدمائهم وآمالهم مشاعل "فتح” وبقية الفصائل،
لكي لا يبقوا لاجئين خارج وطنهم، فكيف وأن من جعلوا للحركة مكانتها الوطنية التي تغنت
بها ردحاً طويلاً، أمسوا اليوم مشّردين على عتبات المصير المجهول!.. فيما تتوزع المغانم
والمناصب على حساب تضحياتهم ومعاناتهم.
أكثر من سبعة مخيمات فلسطينية تم تدميرها
في سورية، وألوف ضحايا القصف والحصار والاعتقال حتى الموت، قضوا على يد النظام السوري
وأدواته، وأصبح قرابة ثلث فلسطينيي سورية مهجّرين خارج الحدود، بيدَّ أن نكبتهم الثانية
التي سبقت الأولى بفظاعتها لم تكن كافيةً لكي تثير حميّة المؤتمرين، للتعبير عن أقل
واجب التضامن والتعاطف، مع أنين الأخوة الضحايا، الغائبين بين رسائل مغازلة الاعداء،
وتحدّي خصوم التجنح.
حين يُغيّبُ أصحاب القضية، خلف حسابات أهل
السلطة، تصبح كل الشعارات سقط متاع، وينعدم الفارق بين شرعياتٍ متآكلة، تستحيل فيها
المنظمة وفصائلها أدواتٍ لخدمة مشروع السلطة، والأخيرة تُهيكل وظائفها بما يحقّق للاحتلال
أمنه واستقراره. قامت هذه المعادلة القسرية، أساساً، على تحويل حركة فتح، تدريجياً،
من مشروع تحرّر وطني لكل الشعب الفلسطيني إلى شاهد زور على تصفية الحوامل والمرتكزات
الوطنية التي يقوم عليها ذاك المشروع.
من هنا، نفهم دلالات ومرامي إهمال مؤتمر
"فتح” وتجاهله أي برنامج أو خطة عملية ذات صلة باستنهاض واقع اللاجئين، ومعنى تركهم
يواجهون مصيرهم الجماعي، أشتاتاً وفرادى، من خلال الرهان على تبعثر وجودهم المجتمعي،
وانكفائهم على هموم نكباتهم الجديدة، توطئةً لاندثار قضيتهم.
لا مفاجأة في مستوى اختزال قضية اللاجئين،
في النسخة الفتحاوية الأخيرة، كل من عايش فصول تهميش أوضاع اللاجئين منذ اتفاق أوسلو،
ولا غرابة في عجز بقية الفصائل عن توليد مقاربة أخرى أكثر تعبيراً عن مصالح اللاجئين،
لكن هذه المحصلات البائسة تضع اللاجئين، كما لم يسبق من قبل، أمام واقعٍ عارٍ حتى من
بريق الشعارات، يفتقدون فيه إلى مظلة الشرعيّة والتمثيل التي كانوا يستظلون بها في
العقود الماضية، بل ويشعرون بمزيجٍ من اليأس والغضب، أنهم الضحية الكبرى التي دفعت
ثمنَ قيام سلطةٍ على منطقة جغرافية محدّدة، وضحية ربيع عربي أحالته الثورات المضادة
إلى نكبةٍ مفتوحة، من عناوينها المؤلمة: تحوّل الحركة الفلسطينية الأم التي عانت طويلاً
من بطش النظام السوري إلى حركةٍ يتقاطع موقف رئيسها مع منظّري المؤامرة الكونية التي
أبدعها النظام الأسدي الممانع لذبح شعبه، ومن في حكمهم.
إذ ليس من الحكمة والأخلاق أن يكون الصمت
على من تسبّب بمأساة اللاجئين في سورية تكتيكاً سياسياً لحماية سلطةٍ قائمةٍ تحت حراب
الاحتلال، وأن يسوّغ ما تعرضوا له من قتل وتنكيل وتهجير، كحال الشعب السوري، بدواعي
حماية المصلحة الفلسطينية العليا التي استحالت مصالح شخصية وحزبية ضيقة، فيما أضحى
أصحابها الفعليين قطعاناً بشرية هائمة على وجوهها في مسالك الهجرة القسرية.
في ضوء انسحاب تلك المظلة الوطنية الجامعة
التي شكلتها منظمة التحرير، ورفعِ غطائها التاريخي، بعد أن تهتك، عن رؤوس اللاجئين،
وهو ما أوجزه مؤتمر "فتح” السابع، وأظهره جلياً بلا مواربة. لم يعد في وسع اللاجئين
تعليق قضاياهم الوطنية والإنسانية على حائطٍ آيل للسقوط، وأكثر من ذلك لم يعد يصلح
متكأً لأغلبية الكل الفلسطيني الذي أوصلته نزاعات وانقسامات فصائله على المحاصصة السلطوية،
ونشوء طبقة سياسية طفيلية، تستمد شرعيتها من إرضاء الاحتلال، ومسايرة كل منها ولاءاته
العربية والإقليمية، إلى تراجع الثقة الجمعية بكل الفصائل والمؤسسات التمثيلية القائمة،
وعدم الاكتراث، إلى خصومات فرقائها ومصالحاتهم التي تعكس حالة التمزق والتردّي في البنى
السياسية الفلسطينية، بما في ذلك تيار محمد دحلان الذي يقدم نفسه بديلاً عن أبو مازن،
فيما هو جزء من منظومة الفساد الرائجة.
لعلّ في تفحص مواقف اللاجئين وردود أفعالهم
على أزمة التمثيل، وشرعيته المهدورة في الواقع الفلسطيني، ما يشير إلى تجاوزها دعوات
إصلاح بنى المنظمة ومؤسساتها المتهالكة، طالما أنّ دعاة التصدي لذاك الاستحقاق بعيدون
عن هموم شعبهم ومعاناته، ولا يمتلكون القدرة والرغبة لاستعادة روح المشروع الوطني الفلسطيني،
وثوابته الكفاحية، وطالما أنهم يحاكون، في بنية تفكيرهم وأدائهم، السياق السلطوي لبقايا
النظام الرسمي العربي.
يبقى أن أحد أهم الردود التي تحمل بذور
التغيير في نظرة اللاجئين لحقوقهم وأدوارهم ومستقبلهم انطلاق مبادرات أهلية ومدنية
وسياسية عديدة في أماكن لجوئهم الجديدة، بقدر ما يعبّرون من خلالها عن رفض التمثيل
الصوري الذي أنتجته المؤسسات القائمة، يحاولون إبداع صيغ جديدة في التعبير عن أصواتهم
ومواقفهم وتطلعاتهم، من شأن تطوّرها وتراكمها أن يفتحا أفقاً جديداً.. لا مكان فيه
للإقصاء والمتاجرة بقضية اللاجئين ومعاناة أهلها.