المخيّمات وصهينة الوعي
الفلسطيني
بقلم: خالد بركات
المخيّمات الفلسطينية التي
تجاوز عددها 62 مخيّماً وتجمّعاً، واللاجئون الفلسطينيون عموماً، يُشكّلون الأكثرية
الشعبية المضطهَدة داخل الوطن المحتل والمنافي. وهذه التجمعات كلها تعيش بلا حقوق،
أو مشروع سياسي تحرري يعبّر عنها. وكلها صامتة أيضاً ــ ولكنه صمت لا نظنّه سيطول؛
ذلك لأنّ الغضب المكتوم في صدرها، والأزمات المتفاقمة والمتراكمة، وحالةَ الإقصاء والتهميش،
ستجبرها مرةً أخرى على الثورة، لا ضدّ الاحتلال وأنظمة القمع والنفط فحسب، بل ضدّ الأقلية
الفلسطينية الفاسدة أيضاً.
لقد سقطت البرجوازية الفلسطينية
في امتحان الشعب. سقط القصر في امتحان المخيّم، ولم تعد قيادةُ «الثورة» و«المنظمة»
مؤتمَنة وموثوقة. فطبقة المال الفلسطيني تهيمن على أعناق الناس وأرزاقهم، وعلى كلّ
مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وتصادر صوتَ المخيّم وتخنقه، وتتحكّم ــ بالتعاقد
مع الاحتلال ــ بجزءٍ من شعبنا في فلسطين. هذه الطبقة لا تتعامل مع الناس إلّا بلغة
الهراوة، وبأدوات التجويع والإقصاء. وقد أسست سلطةً لها في «المناطق»، أصبحتْ فيما
بعد الأداةَ «الفلسطينية» الرسمية في تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها: حقُّ
عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
وبالأمس فقط، اجتمعت اللجنة
التنفيذية لمنظمة التحرير في رام الله المحتلة وأصدرتْ بياناً هزيلاً، لم تأتِ فيه
على مذبحة تل الزعتر في ذكرى استشهاده، مع أنّها لم تنسَ التشديدَ على عبارات من نوع
«القدس الشرقية» و«حدود العام 1967» و«السلام» وغيرها من العبارات التي تدين اللجنةَ
المذكورة أكثرَ مما تجلب لها الاحترامَ؛ عبارات تعبّر عن انخراط هذه الشريحة في إطار
مشروع سياسي ثقافي تصفوي ومتكامل الأركان يمكن وصفُه بـ«مشروع صهينة الوعي الفلسطيني»
على طريق تصفية الحقوق الفلسطينية والوجود الفلسطيني!
«المنظمة»
لم تذْكر مخيم تل الزعتر؛ وهذا طبيعي على أيّ حال، لأنها لم تعد تُعنى بالعودة والتحرير،
بل أصبحتْ بيت البرجوزاية الفلسطينية الكبيرة، وكيانَ الأقلية الحاكمة «المنسّقة» مع
الاحتلال، فلم تعد تقبل بالشراكة مع المخيّمات والطبقات الشعبية، ولم تعد منظمةً لكل
الشعب الفلسطيني، وإن ادّعتْ شرعية تمثيله ووحدانية تمثيله خمس مرات يومياً!
لقد أسّس الشعبُ الفلسطيني،
وفي الشتات تحديداً، منظمة التحرير الفلسطينية، وبنى مؤسّساتِها بالدم والتضحيات (تذكّروا
مخيمات الأردن ولبنان وسوريا). ثم جرى اختطافُها، ومصادرتُها، وتجريفُها، وإفسادُها،
أي مسخُها، ولم يتبقَّ منها اليوم إلا الاسم. ويجري التعاملُ معها كأنّها «الختم الأخير»
في جيب «المختار الفلسطيني الأخير» الذي لا يريد العودةَ إلى صفد لكنه يرغب في «زيارتها»
فقط!
في ذكرى المخيم الشهيد،
مخيم تل الزعتر، يبدو أننا انتقلنا إلى مرحلة جديدة، الصمتُ الرسميّ فيها هو الموقف
«الوطني» و«الشعبي» المزعوم. فمع أنّ هذا المخيم اقتُلع بالسكاكين والسواطير، وقاوم
حتى الطلقة الأخيرة قبل أن يُستشهد إلى الأبد، فإنّ الفلسطينيين ـــ باستثناء «أهل
الزعتر» وأهالي الشهداء وأفراد قاموا بجهود بسيطة هنا وهناك ـــ لم يقفوا أمام ذكراه
كما يستحقّ الأمر. ولم يكن ذلك تعبيراً عن قلة وفاء، وإنّما انعكاساً لحالة تيهٍ وضياعٍ
وحصار شاملة، أوصلتنا إليها البرجوزايةُ وطبقةُ المال العربي. وهذه الحالة لم تأتِ
عفواً، بل هندستْها وما تزال دوائرُ إمبرياليةٌ وصهيونيةٌ معادية، بهدف صهينة الوعي
الفلسطيني. وذلك لا يجري من خلال تدريب الناس على النسيان وحسب، بل على قبول التطبيع
والدفاع عنه أيضاً، وإدانة المقاومة وتشريع حصارها، وتبنّي رواية العدو والخصوم عن
القضية والمجزرة في آن.
ألم ننسَ ذكرى مجازرَ أيلول
وجرش وعجلون؟ فلماذا، إذن، لا ننسى تلَّ الزعتر والشجاعية؟
إنّ عبارة «لن ننسى ولن
نغفر» يجب أن تكون اليوم وشماً على زنود الشباب والفتيان والفتيات في المخيّمات على
نحو خاصّ من أجل مواجهة ثقافة الإلغاء والتطهير المستمرة. ويجب أن نتذكّر تل الزعتر
كي لا ننسى حيفا والمجزرةَ الكبرى التي وقعتْ في عام 1948، وقبلها وبعدها، لأننا ــ
على ما يبدو ــ بدأنا ننسى فعلاً! ومن الموجع أن نسأل أنفسَنا: هل تحقّقتْ مقولاتُ
زعماء الكيان الصهيوني عن شعبنا «غير الموجود» وعن «الكبار الذين سيموتون والصغار الذين
سينسوْن»؟
الحقيقة أنّ صهينة الوعي
الفلسطيني تبدأ بآفة النسيان. ثم يتبعها الصمتُ، والإنكار، والقمع الذاتي، والمنع،
والتخويف، والتدجين، والرشاوى الصغيرة. ويصبح على الفلسطيني أن يتخلّى عن ضميره وعقله
وتاريخه، وعن وجوده، إذ لن يعترف به العدوُّ ولا العالم ما لم يقل: «خلص، أنا مش موجود!»
وحينها، حينها فقط، سيقال إنّه حريص على مشروع السلام، وعلى الوحدة الوطنية في الأردن،
وعلى السلم الأهلي في لبنان، وعلى وحدة سوريا، وعلى أمن الخليج والمنطقة! عندها فقط
سيقولون له: «أنت فلسطينيّ جيّد!».
واليوم، باسم «المصالح
الوطنية»، أو «المصالحة الوطنية» لا فرق، يجري إطباقُ الحصار الرسمي الفلسطيني على
شعبنا في قطاع غزّة، فلا تعود غزّة قضية ومسؤولية وطنية وقومية وإنسانية بل تصبح «مشكلة
حماس» و«المتطرفين». إنّ فريق محمود عبّاس في الحقيقة هو «الممثّل الشرعي والوحيد»...
لكنْ ليس للشعب الفلسطيني، بل لمصالح البرجوازية الفلسطينية المُلحقة باقتصاد الاحتلال
والنظام الأردني وبترول الأنظمة. وإنّ سلطة رام الله هي سلطة البرجوازية الفلسطينية
الكبيرة التي تديرها «الحكومة» و«الرئيس» و«الوزير».
محمود عبّاس يريد من شعبنا
في غزّة أن يحمده على «نعمته» وعلى حزمة قراراته الأخيرة. ولأنّ سلوك عباس أمام العدوّ
هو الرضوخ الكامل، فإنه يصاب بالإحباط واليأس حين تصرخ غزّة في وجهه: «لا»؛ فهو يتوقّع
أن يصدّقه الصيّادون والعمّال والفقراء والمزارعون، وأن تخرج الجماهير إلى الشارع وهي
ترفع صورَه. هكذا يريد «الرئيس» أن يرى صورةَ غزة: ضحيّةً مهزومةً، لا روح فيها ولا
كرامة، حبلى بالوعي المتصهين!
وجوهر الأمر في كلّ هذا
الحصار هو تركيعُ الطبقات الشعبيّة، حاضنةِ المقاومة المسلّحة، لأنها قاومتْ ولم تسمح
لدبّابات العدوّ الصهيوني باجتياح أرض القطاع خمس مرّات على الأقل! هذا الأمر يزعج
واشنطن وتل أبيب والسعودية والسيسي وسكّانَ القصور في الضفة المحتلّة.
ومن جديد نسأل: لو كانت
القيادة الفلسطينية في رام الله، وأحزابُ السلطة التي شاركتْ في اجتماع اللجنة التنفيذية،
حريصةً على تاريخ شعبنا ومشاعره وحقوقه، فلماذا تنسى تل الزعتر وهي تعقد اجتماعَها
في ذكرى المذبحة؟
ولماذا لم تذكر صبرا وشاتيلا
والشجاعيّة من قبل؟
ولماذا لم تقرّر عقدَ مجلسها
الوطني في مخيم جباليا مثلاً، برعاية سلاح المقاومة الفلسطينية، بدل عقده تحت بساطير
الاحتلال؟
ولماذا تحرم ملايينَ اللاجئين
في الأردن وسوريا ولبنان حقَّهم في المشاركة؟
وأخيراً، مَن قال لهؤلاء
القوم إنّ مَن يتخلّى عن 78% من فلسطين ويبيع حقّ العودة يمكن أن يأتمنَه الشعبُ الفلسطيني
على القدس ورام الله؟ إنّ شعبنا لن يأتمنه على كيس رمل فارغ!
هذا بعضُ ما يجري في ساحتنا
الفلسطينية العاثرة، من محاولات مستمرة لصهينة الوعي الوطني الفلسطيني على يد الاحتلال
والإعلام العربيّ المتصهين وطبقة البرجوازية الفاشلة والمهزومة في «المناطق» وفي «يهودا
والسامرة».
إنّ الانقسام الفلسطيني
اليوم ليس بين حركتيْ «فتح» و«حماس» فقط. فلقد كان الصراع الفلسطيني الداخلي دائماً
ذا جوهر طبقي (سياسي – اجتماعي) بين الباشوات والفلّاحين، بين مَن ذهبوا إلى القصر
ومَن صعدوا إلى الجبال، بين مَن يملك ومَن لا يملك. وهو كذلك الآن. هذا هو العنوان
الحقيقي للتناقض الداخلي الفلسطيني الذي يغلي اليوم في مرجل الواقع الصعب: صراع بين
إرادات وخيارات متناقضة، بين نهج المفاوضات العبثية ونهج المقاومة الوطنية.
ويظل السؤال الكبير: مَن
يملك القرار الوطني الفلسطيني؟ المخيّم أم القصر؟
هذا هو سؤال الأسئلة الفلسطينية
الأكبر، وسوف تحسمه الطبقاتُ الشعبية الفلسطينية لصالحها في المستقبل. فهذه الطبقات
كانت ولا تزال مستعدةً للبذل والنضال والتضحية في سبيل العودة والتحرير. لكنْ يبدو
أنّ عليها أولاً ألّا تنسى وألا تغفر؛ وأن تستعيد إرادتها وأدواتها وقرارها وسلاحها؛
وأن تلِد مرةً أخرى غسان كنفاني وناجي العلي؛ وأن تبني بعقولها وقبضاتها المؤسسات القادرةَ
على إدارة الشأن الوطني، التي مِن رحِمِها فقط يتولد التجديدُ الثوري. هذه الجموع الفلسطينية
المقهورة هي صاحبة المصلحة في التغيير والتحرير، ولا أحد سواها يدفع الثمن والدم وضريبة
الحُرّية.
*
قيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
المصدر: جريدة الأخبار