القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

المخيّم يكتب حكايات ساكنيه

المخيّم يكتب حكايات ساكنيه

حسن داوود *

الأحد عشر كاتبا وكاتبة جاؤوا إما من مخيّمات لاجئين هنا في لبنان، وإما من جوارها، بل ربما كانت «أرض الداعوق» مخيّما صغيرا لم يجر تعداده بين المخيّــــمات، بسبب صغر مساحتها «التي لا تتعدّى ثلاثـــــين مترا بأربعين» أو لأن ما جرى في تاريخ هذه الأرض الصغـــــيرة، بل هــــذا المخيم الصغير، لم يجــــعل اسمه شائعا. هو من ملحقات المخيّم إذن، بــــدأ معها، بل بدأ مثلمــا بدأت إذ تبرّعت به عائلة الداعوق: «لإقــــامة اللاجئين الفلسطينيين إلى حين عودتهم إلى ديارهم».

أما مخيّم اليرموك فبعيد. هو هناك في سوريا، لكن ربا رحمة، التي هجرته بسبب ما أحلّت به الحرب، لن تكون غريبة في المخيم اللبناني الذي التجأت إليه. هنا ستجد أنها حلّت بين آخرين هي منهم، تجمعها بهم هوية ولغة وحكايات وأحلام ومعاناة واحدة. الكل، هم الأحد عشر الذين صنعت نصوصهم هذا الكتاب، الآتون من مخيمات برج البراجنة وصور وعين الحلوة إلخ… كأنهم جاؤوا من مخيّم واحد. ربما تسبب موضوع الكتاب بهذا الجمع (وهو، أساسا، العيش في المخيم)، وكذلك التاريخ المشترك الذي في كنفه تحتضن المصادفات الخاصة والتجارب الشخصية؛ أو ربما ما رغبتُ في أن أُطلق عليه عبارة «أخُوّة المخيّم»، وهي أخوّة جامعة لهم في وقت ما تعجز شعوب عاشوا بجوارها عن التوصل حتى إلى حدّ أدنى من القواسم الجامعة بينها.

هذا القرب بين القادمين من مخيّماتهم لم تُفصح عنه النصوص وحدها. في اللقاءات التي كانوا يعقدونها، وقد أوتيتُ حظّ أن أكون حاضرا معهم، كانت المودّة بينهم غامرة. لم تكن تجري الأمور على نحو ما تجري بين مشاركين في ورشة عمل مثلا. إن تأخّرتْ حنين مثلا يجدّون كلهم في التساؤل عن سبب تأخّرها، متخوّفين من المسافة التي تقطعها حنين كل أسبوع، من صور إلى بيروت، في الإياب كما في الذهاب، ثم هناك الصداقة التي تقوم من اللقاء الأول، والاهتمام المشوب بحسّ الرعاية. هكذا تبدو القرابة، تلك التي تجمع عادة بين الأهل ومَن بمنزلتهم، متسعة هنا وحاضنة حتى لمن لم يسبق لهم أن التقوا من قبل.

المخيمات المتباعدة بين أول لبنان وآخره تبدو مع كاتبيها الجدد كأنها مخيم واحد. أما ما يرويه كل من هؤلاء الأحد عشر فمتصل بهم جميعا، أو هو روايتهم جميعا. فمشهد المخيّم من الداخل، أقصد ذاك الذي لا يعرفه حتى أولئك الذين يقيمون في الشارع القريب إليه، يصفه سالم ياسين، رغم خصوصية تفاصيله وغنى دلالاتها، كأنه «المخيّم»، هكذا بأل التعريف، أو هو المخيم الآن، الذي رافقت ثباتَه حروبٌ ومنازعات وطموحات لا تلبث أن تُحبط في الغالب، وشعارات كبيرة يتمكن الأولاد الصغار من كشف ادعائها. وكذلك، في نصّ ميرا صيداوي، هو المكان الذي تجري فيه الحوادث العابرة والغريبة، بل والأكثر طرافة، مثل الاحتفال بالببغاء الذي جاء به أبو عماد إلى المخيم، وكان بمثابة هدية تلقّاها من صديق لبناني. فبعد وصول هذا الوافد الجديد: «لم ننم تلك الليلة وقد ضربت الجميع في حارة التراشحا في مخيّم البرج هستيريا جماعية (…) وفي الليل جلس الجميع أمام دار أبو عماد وتوافقوا على لقب للبغاء، سموه «نصر»، تيمّنا بالنصر».

ذاك القرب بين التجربة الخاصة والحكاية العامة تبدو مشتركة في نصوص نازلي المخيّم، الذين هم هنا، في هذا الكتاب، الجيل الراهن الجديد من أجيال اللجوء الفلسطيني. الفصل الطويل الذي كتبه محمود زيدان أقرب إلى أن يكون أرشفةً لتجربة فردية، عائلية تاليا، وفلسطينية ثالثا، لاجتياح إسرائيل للبنان في 1982. هنا، في هذا النص، لا ذكر للمشاعر، ولا للعذابات. ما نقرأه هو التذكّر فقط. التذكّر الذي حرص على تعطيل المخيّلة قبل الشروع باستحضار تلك الأيام.

في التقاء من أمكنهم الحضور إلى معرض بيروت للكتاب، للاحتفال بصدور مؤلّفهم الجامع، أخبرتني ربا رحمة بما هو تتمة لنصّها الذي انتهى عند انتظار أن يلتقي والدها ووالدتها. قالت لي إن ذلك قد حصل، لقد التقيا خلال هذه المدة القليلة الفاصلة بين ختام لقاءاتنا وصدور الكتاب. كنت متذكّرا ما روته عن ذلك، متأمّلا أن يلتقي والدها المقيم في الدنمارك ربما، وأمها المنتظرة هنا. ولم يكن هذا الانفصال هو الوحيد في نصّ ربا، إذ أن سيرة عائلتها هي سيرة تفرّق متشعّب ومستمر للشمل. وهذا ماثل في النصوص الأخرى أيضا. فالمخيّم، الذي يبدو لغير أهله دائم البقاء على حاله وصورته، نقرأه هنا مقسِّما لمن هم فيه ومباعدا بينهم. كما نراه صانعا لسير تنقّل و»تغريبات» هي واحدة من صوره التي تكاد تغلب صوره الأخرى.

*كتاب «حكايات من اللجوء الفلسطيني» كان ثمرة لقاءات أدبية بين مشاركين مختلفي التجارب والأعمار، بعضهم سبق له أن نشر نصوصا ومنهم من كان قد أصدر كتابا، وآخرون كانت تلك اللقاءات صلتهم البادئة بالكتابة. أشرفت برلا عيسى على تنظيم اللقاءات وإصدار الكتاب عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» وذلك برعاية من مؤسسة برنس كلاوس ومؤسسة عبد المحسن قطان. عدد الصفحات 302 ـ 2017 .

٭ روائي لبناني

المصدر: القدس العربي