المرأة الفلسطينية مدرسة نضالية رغم الواقع الصعب
بقلم: وليد محمد محمد
تميزت المرأة الفلسطينية عن غيرها من النساء بأنها تقف أمام تحديات كثيرة على مستويات مختلفة تستنزف حياتها وتجعل منها بحقّ الشمعة التي تحترق لتنير للآخرين طريقهم. وقدر المرأة الفلسطينية أن تواجه هذه التحديات مجتمعة، وخاصة ما تعلق منها بأبرز تحديين، هما: مساهمتها في النضال الوطني لاسترداد الحقوق المغتصبة، وتحقيق حلم العودة والتحرير. والتحدي الآخر هو نضالها الاجتماعي الذي لا يقتصر فقط على حقوقها الإنسانية، بل يتعداها إلى التركيز على واجباتها وما ينبغي لها القيام به.
لا شك في أنّ الحديث عن أوضاع المرأة الفلسطينية هو جزء من تشخيص أزمة المجتمع الفلسطيني ككل، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو مرتبط بالضرورة بالأزمة العامة للمجتمع العربي، وهو ما لا نريد التطرق إليه، بل نريد التركيز على خصوصية المرأة الفلسطينية بصفتها أختاً وأماً وزوجة ومربية تمكنت عبر تضحياتها الكبيرة من ان تتحول إلى قيمة معنوية ومادية كبيرة ذات قدسية لدى الفرد الفلسطيني تم التعبير عنها بأشكال مختلفة عبر الإنتاج الثقافي والأدبي والفني الشعبي، رغم الإقرار بحالة التقصير الكبيرة نحوها، والتجاهل شبه التام لقضاياها الخاصة، وعدم تمكينها من المساهمة في القضايا العامة، بمعنى أن الاهتمام بقضايا المرأة الفلسطينية وتمكينها من الضلوع بدورها بما تستحق، ما زال في إطاره النظري. من هنا يأتي التركيز على يوم المرأة الفلسطينية، الذي يصادف الثامن من آذار من كل عام، ليكون مناسبة لتسليط الضوء على التضحيات الكبيرة التي قدمتها عبر مسيرة كفاحها الطويل، الأمر الذي يستوجب تقديم نماذج نسوية تستحق بكل جدارة أن تكون مدارس حقيقية تتعلم منها كل نساء العالم. وفي الحقيقة إن السجل الفلسطيني المعاصر مليء بأسماء من تركن بصمات لا تمحى في الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني، بدءاً من الأمهات اللواتي شهدن النكبة الكبرى وعشن آثارها وكنّ بمثابة الجنديات المجهولات اللواتي فُرض عليهن أن يشكلن أعمدة خيام اللاجئين في المواطن الجديدة التي هُجّروا إليها، حيث اضطرتهنّ الظروف الجديدة إلى ممارسة أوجه نشاط اجتماعية واقتصادية لم يعتدنَها في الوطن، بحكم ما كان سائداً من أعراف وتقاليد وقيم عائلية وعشائرية. فاضطُرت المرأة الفلسطينية إلى العمل في أراضي الآخرين وفي ورش لمهن مختلفة، مثلما اضطرت إلى الوقوف ساعات طويلة في طوابير وكالة الغوث لتحصل على بعض ما يسدّ رمق أبنائها، رغم ما كانت تشعر به من إذلال ومهانة في ذلك، مع إصرارها على أن ترضع أبناءها لبن العزة والكرامة والثورة بدل ذلّ اللجوء والقهر. وبعد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، أدّت المرأة الفلسطينية دوراً كبيراً في تأجيج المشاعر الوطنية وقيم الحرية لدى الأبناء والحضّ على رفض الواقع والثورة عليه للوصول إلى تحقيق حلم العودة إلى القرى والبيوت التي هُجِّروا منها. وحرصت المرأة الفلسطينية على وضع بصمتها، فدفعت بزوجها وبابنها إلى حيث الواجب، وتفرغت هي لتربية من بقي من الأبناء وتقديم ما يلزم لشدّ أزر المقاومة. ولم تكتف بذلك، بل اندفع بعضهن لمشاركة الرجال في الجهاد والمقاومة وخوض تجارب الأسر والاعتقال والتعذيب والزنازين الباردة، وسجل التاريخ أسماء الكثيرات، كشادية أبو غزالة وفاطمة البرناوي وليلى خالد وعفيفة بنورة ودلال المغربي.
وسجّل التاريخ للحركة النسوية الفلسطينية مشاركتها الفعالة في كل المفاصل التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية. وبديهي أنها كانت أحد العناصر المهمة في انتفاضة الأقصى، حيث استشهد وجرح واعتقل الكثيرات منهن. كذلك فإنهنّ شكّلن سياجاً اجتماعياً واقتصادياً ساهم في الصمود والاستمرار بالثورة من خلال جمعيات خيرية وأهلية ومؤسسات غير حكومية مدنية حملت على كاهلها الاهتمام بأسر الشهداء وكفالة أبنائهم وإعانة الحالات الصعبة والاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة. كذلك، سجل التاريخ للمرأة الفلسطينية مع الرجل، بكل اعتزاز، مساهمتها في رفع السويّة التعليمية للأسرة الفلسطينية ومحاولة القضاء على الأمية؛ فرغم حالة القهر والاحتلال والتشريد والبؤس، احتلت قضية التعليم الاهتمام الأكبر لدى الإنسان الفلسطيني، الأمر الذي أنتج كادرات علمية بنسب كبيرة وباختصاصات مختلفة ومتعددة، وهو ما ساهم في تغيير نظرة العالم إلى الإنسان الفلسطيني وأكسبه الاحترام والتعاطف بصفته ينتمي إلى شعب متحضر يستحق أن ينال حقوقه كاملة غير منقوصة فوق أرضه التي هُجِّر منها.
وتأتي ظاهرة خنساوات فلسطين لتشكل قمة عطاء المرأة الفلسطينية، خارقة بذلك كل قواعد السيكولوجية الإنسانية، وهي تدفع أبناءها الواحد تلو الآخر إلى مذبح الحرية والشهادة وتحتسب ذلك عند الله بقلب يعتصر ألماً بحكم تكوينها الأنثويّ، ويمتلئ فخراً ووطنية وصبراً وجلداً بحكم إيمانها بعدالة القضية وحتمية انتصارها. لم تكن أم محمد فرحات الوحيدة في ذلك، بل سبقتها ولحق بها العديد من أمهات الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين وفي خارجها، حيث مخيمات اللجوء. نذكر مثلاً أم محمد نايف، من سكان مخيم سبينة جنوب العاصمة السورية دمشق، وهي في العقد السادس من عمرها. وهي واحدة من المدارس النضالية التي تستحق تسليط الضوء على تضحياتها. فهي أم لسبعة أولاد، استُشهد ابنها أحمد نايف في عام (1989) في مواقع النضال في لبنان، فقالت: الحمد لله. واستُشهد أيضاً ولداها محمود وحسام في يوم واحد، وهما يستعدان لمواجهة مع الكيان الغاصب. وقالت أيضاً: الحمد لله، هذا ما أعددتهم لأجله. وتؤكد وهي تبتسم أنها مستعدة لتقديم من بقي من أبنائها فداءً لفلسطين؛ فهي تستحق منا الغالي والنفيس. اعتاد المخيم ابتسامة أم محمد؛ فهي التي لا تبحث عن تعويض مادي ولا عن مكاسب دنيوية؛ إذ تقول إن المهم ألّا تذهب تضحياتنا هباءً، المهم أن أعود إلى قريتي الخالصة في قضاء صفد شمال فلسطين المحتلة. وتوجه أم محمد نداءها إلى قادة العمل الوطني الفلسطيني بمختلف أطيافهم، داعية إياهم إلى أن يتقوا الله في الشعب الفلسطيني ويتجاوزوا خلافاتهم ويتحدوا على قلب رجل واحد؛ لأنه الطريق الأقصر نحو النصر. صحيح أن القضية الفلسطينية تمرّ بأخطر مراحلها، إلا أننا منتصرون في النهاية؛ فهي لا تفقد الأمل، ولا يعرف اليأٍس طريقاً إلى قلبها. وتؤكد أم محمد نايف أن المفاوضات (شغلة فاضية) على حد تعبيرها، والطريق إلى فلسطين واضح ولا يكون بغير المقاومة لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الصهيوني. أم محمد، بعفويتها وصدقها الكبير، تعبّر عن استعداد المرأة الفلسطينية للعطاء المستمر بلا حدود، وهي كما أرضعت ابنها الشهيد محمود حب فلسطين، تربي اليوم أبناءه على عشقها؛ فدور المرأة في تربية الأجيال تربية وطنية هو عمل مفصلي ومهم، وهو الأساس لاستنهاض الطاقات وزجّها في معركة التحرير. وما ينطبق على الأم يسحب ظله على الأخت والبنت والمناضلة في مختلف نواحي الحياة.
لا شك في أن الواقع المعيشي للمرأة الفلسطيني صعب ويتفاوت من دولة لأخرى؛ فالمرأة التي تعيش في كنف الاحتلال تتعرض لتحديات أكبر قد تساويها بدرجة أقل التحديات التي تعيشها المرأة الفلسطينية في مخيمات الصفيح بدول اللجوء وسط الاكتظاظ وانعدام البنى التحتية وارتفاع نسب البطالة والفقر والمرض. لذلك، إن التركيز على النضال الوطني للمرأة الفلسطينية في مناسبة عيدها لا يعني إهمال النضال الاجتماعي الذي تقوم به؛ فهي كمثيلاتها في الدول العربية ودول العالم الثالث تشارك الرجل أعباء الحياة كافة، وخاصة الاقتصادية، وهي بذلك تستحق وضعاً إنسانياً أفضل لتشعر بالاستقرار والأمان. وبعيداً عن ترتيب أولويات النضال، من الضروري أن تُكرَّم المرأة الفلسطينية وتُنصَف، وأن يُرفَع عنها الظلم والحيف والشعور بالدونية، ومن الضروري أيضاً إشراكها في اتخاذ القرار على كل المستويات، بما يتناسب مع طبيعتها وظروفها.
المصدر: مجلة العودة العدد الـ54