المصالحةُ والبرنامجُ السِّياسيُّ
بقلم: هاني المصري
منذ الشروع في حوارات القاهرة وحتى الآن، تمّ الاتفاق بين المتحاورين، خصوصًا ممثلي «فتح» و«حماس»، على تأجيل البرنامج السياسي، لأن الاقتراب منه يثير الخلافات بين برنامجي المفاوضات والمقاومة. أما السبب الحقيقي، فهو أن الإداراة الأميركيّة وإسرائيل، ومعهما بتشدد أقل أوروبا، يصرون على ضرورة موافقة أي حكومة فلسطينيّة يتم الاتفاق على تأليفها على شروط اللجنة الرباعيّة الدوليّة التي تتضمن الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف والإرهاب، والتزام الاتفاقيات المبرمة بين المنظمة وإسرائيل.
على خلفيّة عدم تلبية هذا الشرط، تمت مقاطعة حكومة «حماس» التي أُلفت برئاسة إسماعيل هنيّة في العام 2006، وأدى هذا إلى سقوطها، وتمت مقاطعة حكومة الوحدة الوطنيّة التي أُلفت بعد توقيع اتفاق مكّة في العام 2007، على الرغم من أن برنامجها كان يؤيد المفاوضات، ويحترم الاتفاقيات، ويؤكد اعتماد الوسائل السلميّة لتحقيق الأهداف الوطنيّة، ويستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، التي تؤيد القضية الفلسطينية. ومن أجل التحايل على شروط الرباعيّة، تضمّن اتفاق القاهرة نصًا يؤكد تأليف حكومة وفاق وطني لا تشارك فيها الفصائل لتذليل عقدة مشاركة فصائل مدرجة على قائمة «الإرهاب». ومع ذلك تمسكت إدارة البيت الأبيض وحكومة تل أبيب بضرورة التزام أي حكومة فلسطينيّة شروط اللجنة الرباعيّة، مع التحفظ على مشاركة «حماس» في التشاور لتأليف الحكومة، صاحبة الأغلبيّة في المجلس التشريعي الذي من المفترض أنه سيعطي الثقة لأي حكومة فلسطينيّة مقبلة.
لإزالة هذا التحفظ، تم التداول بفكرة أن يعلن كل وزير سيشارك في الحكومة موافقته على شروط اللجنة الرباعيّة، إضافة إلى موافقة الحكومة ككل. وتم الاتفاق في «إعلان الدوحة» على تولي الرئيس «أبو مازن» رئاسة حكومة الوفاق الوطني في دلالة على أن برنامج الحكومة المقبلة سيكون برنامجه الملتزم شروط اللجنة الرباعيّة، على الرغم من الأضرار الناجمة عن ضم الرئيس لمنصب رئيس الحكومة إلى المناصب العديدة التي يتقلدها، فهو رئيس السلطة والدولة والقائد العام لقوات الأمن ورئيس حركة فتح.
لتبرير هذا الإذعان الفلسطيني لشروط اللجنة الرباعيّة، يتم الحديث عن أن الحكومة التي سيتم تأليفها هي حكومة انتقالية، وبالتالي ليست بحاجة إلى برنامج سياسي، أو أن البرنامج السياسي من اختصاص منظمة التحرير وليس السلطة، أو أن وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) هي البرنامج السياسي المشترك، في تجاهل لحقيقة أن هذا الطلب شرط إسرائيلي وأميركي، وإلى حد ما أوروبي ودولي؛ كي يستمر الاعتراف بالسلطة وتقديم الدعم السياسي والمادي لها.
حكومةُ الرئيس والأملُ المفقودُ
نص «إعلان الدوحة» على ترؤس الرئيس حكومة الوفاق الوطني، من أجل تذليل عقدة البرنامج السياسي، كما اتفق ممثلو «فتح» و«حماس» على تجنب عرض الحكومة المقبلة على المجلس التشريعي أولاً قبل أدائها اليمين أمام الرئيس، بل ستعرض بعد شروعها في العمل لمدة شهر عقب تأليفها؛ ما يجعل عرضها على المجلس التشريعي شكليًا، ولا يعني ذلك حصولها على الثقة منه؛ وذلك لتذليل عدة عقبات أخرى: الأولى، فلا يعقل أن يحصل الرئيس المنتخب من الشعب على الثقة من المجلس التشريعي بوصفه رئيسًا لحكومة التوافق الوطني. والثانية، لتجنب حجب الثقة عن الحكومة من المجلس التشريعي لكونها حكومة ستلتزم شروط اللجنة الرباعيّة الدوليّة حتى تحصل على الاعتراف بها. والثالثة، تجنب اعتراض واشنطن وتل أبيب على ما يسمونه «وضع مصير الحكومة» تحت رحمة «حماس» المدرجة على قائمة «الإرهاب»، والرافضة لشروط الرباعيّة الدوليّة.
إن الاتفاق على تولي الرئيس «أبي مازن» رئاسة الحكومة يرمي أيضًا إلى تذليل عقدة سلام فياض الذي يحظى بدعم أميركي وأوروبي، وصل إلى حد التهديد بعدم دعم أي حكومة فلسطينيّة لا يترأسها فياض.
وذكرت مصادر موثوقة أن الرئيس غضب غضبًا شديدًا عندما أبلغت هيلاري كلينتون بـ«إعلان الدوحة»، الذي تضمن أن «أبو مازن» سيترأس حكومة الوفاق الوطني، وعندها رفضت ذلك وأصرّت على رئاسة فياض للحكومة، إلا انها تراجعت وقالت: «ان هذا شأن داخلي»، بينما اعتبر ضوءًا أخضر من الإدارة الأميركيّة، خصوصًا بعدما صدور تصريح رسمي من الخارجيّة الأميركيّة بهذا المعنى.
شروطُ اللجنة الرباعيّة: العقبة الرئيسة
هذا الموقف الأميركي المرحب بـ«إعلان الدوحة» وبتأليف حكومة برئاسة «أبو مازن» تم التراجع عنه لاحقًا، عندما قام ديفيد هيل بإبلاغ الرئيس «أبي مازن» بأن حكومة الولايات المتحدة الأميركيّة تعارض أي مصالحة وأي حكومة تشارك فيها «حماس» أو تشارك في تأليفها من دون الاعتراف الصريح والموافقة التي لا يكتنفها أي غموض بشروط اللجنة الرباعيّة.
إن التنازلات المذكورة وغيرها لم تؤد إلى تغيير الموقف الأميركي والإسرائيلي من المصالحة، بل كلما أبدت القيادة الفلسطينيّة، وممثلو «فتح» و«حماس» مرونة، وقدموا تنازلًا يتم طرح شرط جديد. لذا لن ترى المصالحة الوطنيّة النور إلا إذا جاءت على مقاس الشروط الأميركيّة الإسرائيليّة، أو إذا تحلّت الأطراف الفلسطينيّة المختلفة بالإرادة اللازمة لتحدي الإدارة الأميركيّة والحكومة الإسرائيليّة وكسر شرط التزام أي حكومة شروط «الرباعيّة»، والاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم الوطنية المشتركة.
عقبات تنتظر حكومة الكفاءات المستقلة
في ظل التحديات والمخاطر الخارجيّة والداخليّة، والتداخلات والصعوبات أمام أي حكومة فلسطينيّة وفاقيّة ستأتي بعد سنوات الانقسام؛ يُفترض أن تكون الأولوية لتأليف حكومة وحدة وطنيّة، تشارك فيها الفصائل على أعلى مستوى، حتى تكون حكومة قويّة قادرة على الصمود ومواجهة الصعوبات وتحقيق الإنجازات التي ينتظرها المواطن الفلسطيني في الضفة الغربيّة وقطاع غزة. فأي حكومة لا تشارك فيها الفصائل، وتحديدًا «فتح» و«حماس» كيف ستتعامل مع الملف الأمني وقادة وكوادر الأجهزة الأمنيّة التي تنتمي بغالبيتها الساحقة إلى «فتح» أو «حماس»؟
كيف ستتعامل حكومة من الكفاءات الوطنيّة المستقلة غير الممثلة في المجلس التشريعي الذي يضم غالبيّة ساحقة من ممثلي الفصائل؟ وكيف ستعمل على توحيد الوزارات والمؤسسات، وإطلاق سراح المعتقلين، وفتح المؤسسات المغلقة، وتداعيات الاقتتال، ومتطلبات المصالحة المجتمعية، وإعادة المستنكفين والمفصولين إلى أعمالهم، وهم ينتمون في غالبيتهم إلى «فتح» أو «حماس»، إذا لم تكن حكومة قويّة، بحيث تكون حكومة سياسيّة مهنيّة تجمع ما بين القيادات السياسيّة والكفاءات المهنيّة الوطنية المستقلة؟
استنادًا إلى ما سبق، نستطيع القول إن العقبة الرئيسيّة التي حالت دون النجاح في تطبيق اتفاق القاهرة للمصالحة، والتي أدت إلى التأخر في التوصل إليه تتعلق بضرورة أن تأتي المصالحة (بما فيها تشكيل الحكومة) لتصب المياه في طاحونة ما يسمى «عمليّة السلام»، حتى تعيدها إلى الحياة بالرغم من أنها عمليّة ميتة، وكانت وهي حيّة «عمليّة من دون سلام»، وظّفتها إسرائيل أسوأ استخدام؛ من خلال التغطية على ما تقوم بتنفيذه من مخططات لتعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتهويد القدس وأسرلتها، وقطع الطريق على أي مبادرات وخيارات أخرى، وتحييد المجتمع الدولي وجعله أقرب إلى «شاهد الزور»، ليكون المطلوب منه أن يبارك عمليًّا بها ويغطيها لا أن يساهم فيها بفعاليّة.
فالمفاوضات الثنائيّة المباشرة برعاية أميركيّة انفراديّة فشلت ومحكوم عليها بالفشل، لأنها تضع الضحيّة الفلسطينيّة تحت رحمة المحتل الإسرائيلي من دون مشاركة أحد سوى الولايات المتحدة الأميركيّة المنحازة بشكل مطلق لإسرائيل.
الحل بحاجة إلى مسار جديد
إن مفتاح المصالحة ليس تأليف الحكومة، ولا الانتخابات كما يتردد كثيرًا، وليس مراضاة حكام واشنطن وتل أبيب، ولا ربطها بمدى إسهامها بالجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات التي أوصلت الفلسطينيين إلى الكارثة، أي إلى ما يعيشونه الآن، أو ربطها بالتغييرات العربية وصعود الإسلام السياسي؛ وإنما وضع المصالحة بعد أن تحسنت الأجواء في ضوء الانتصار الديبلوماسي في الأمم المتحدة والانتصار العسكري في غزة، في سياق إحياء القضيّة الفلسطينيّة مجددًا، وإعادة تعريف المشروع الوطني بما يستجيب للحقائق والتطورات الجديدة فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا وإقليميًا، بحيث يكون هناك مسار إستراتيجي جديد بديل من المسارات السابقة التي لم تؤد إلى تحقيق الأهداف الوطنيّة، سواء اعتماد المفاوضات كطريق وحيد والتخلي عن جميع أشكال وأسباب القوة، أو اعتماد المقاومة كطريق وحيد. مسار ينطلق من تحديد «ركائز المصلحة الوطنيّة العليا» التي تجمع الفلسطينيين جميعًا أينما كانوا، ويتم على أساس إعادة بناء منظمة التحرير، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.
يتضمن هذا المسار بلورة برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة الكفيلة بالتعامل مع الوضع الراهن من دون التنازل عن الحقوق الأساسيّة. برنامج لا يؤدي إلى انضمام «حماس» إلى مسيرة المفاوضات العبثية، كما يظهر في اعتدال «حماس» المبالغ به، والرامي إلى الحصول على الاعتراف والشرعية كلاعب رئيسي إلى جانب «فتح» أو كبديل منها.
برنامج يستند إلى الأهداف والحقوق الفلسطينيّة المتمثلة في حق تقرير المصير، وإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة، وحق العودة، والمساواة، والدفاع عن الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم وتمثيلهم، كما يستند إلى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها من دون الاعتراف بشروط اللجنة الرباعيّة التي كانت شكلًا من أشكال التحايل على المجتمع الدولي، لأنها وضعت شروطًا ظالمة على الفلسطينيين، وتركت الجلّاد المحتل من دون أي شروط.
أخيرًا، لا شك في أن إمكانية الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة أصبحت أكبر بشكل ملموس، بعد «اعتدال حماس»، وانتصار المقاومة في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وبعد «تطرف فتح» في ضوء وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وانتصار الديبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة، والحصول على عضوية الدولة بصفة مراقب، وفي ظل عدم توفر إمكانية للتوصل إلى تسوية مع الاحتلال الإسرائيلي مع تزايد تطرف حكومة نتنياهو، وعدم نضوج إسرائيل للسلام. ولكن هذا العامل الإيجابي لا يجب أن يطمس أن الخلاف بين «فتح» و«حماس» لم يعد في جوهره خلافًا على البرنامج السياسي، وإنما خلاف على القيادة والسلطة وعلى من يمثل الفلسطينيين ويقود المنظمة. وإذا أصر كل طرف على تجسيد حقه في القيادة من خلال الإصرار على تحقيق مصالحه وفقًا لشروطه، وما يعزز قيادته أو يفتح الطريق لقيادته، من دون شراكة حقيقية على أساس رؤية وبرنامج وإعادة بناء المنظمة؛ لا يمكن تحقيق هدف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو تطبيع حالة الانقسام، والتوصل إلى اتفاقات للمحاصصة الفصائلية الثنائية والشاملة.
السفير، بيروت، 15/1/2013
1. مستقبل فلسطين بعد 65 سنة من العدوان الإسرائيلي
أغوستين بيجوسو
حاز نضال الشعب الفلسطيني على مناصرين من بين الرأي العام الدولي على مر السنين. لكن وفي نفس الوقت، علينا الاعتراف بسيطرة معارضيه على الوضع، وذلك بسبب دعم أقوى الحكومات وجماعات الضغط والشركات الكبرى لإسرائيل ومن ينشط لصالحها في العالم وما أكثرهم للأسف الشديد لاسيما في الغرب.
يشعر عامة البشر بالشفقة والاشمئزاز والغضب حتى الكراهية، عندما تقتل إسرائيل الفلسطينيين بمساعدة من يدعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، كما يحلو لها دون الخوف من عقاب بالطبع تستحقه أعمالها. ويجدر الإشارة هنا إلى فعالية دعاية إسرائيل وأنصارها، حيث أدت إلى انخداع الكثير بخصوص ما يجري في فلسطين. كما علينا الأخذ في عين الاعتبار لامبالاة البعض الآخر لألم لا يعنيهم إطلاقا ولا يعانون منه والعنصرية ضد العرب والمسلمين وعدم الاهتمام بجريمة يعتقدون أنها ليست من شأنهم.
إن تأثير هذه الدعاية واسع جدا حيث لا يستغرب الكثير من الناس، مثلا، من موت ثلاثة إسرائيليين، أثناء العدوان الأخير على غزة نهاية العام الماضي، على فرض أنهم هم الضحايا، ومقتل أكثر من مئة فلسطيني، الكثير منهم أطفال، على فرض أنهم هم المعتدون. لم يسأل أحد عام 2009 لماذا أسفرت عملية الرصاص المصبوب التي تم الإعلان عنها لاستئصال شأفة 'الإرهابيين' من قطاع غزة، عن مقتل 1400 ضحية، كان الثلث منهم أطفالا. إن ما حدث في هاتين العمليتين يلخص بشكل جيد تاريخ فلسطين.
يتكرر هذا التاريخ ويتأبد بدءا من أوساط القرن العشرين، ليس فقط بسبب عدوان إسرائيل الكبير، وإنما أيضا بسبب التعاون المستمر من قبل القوى المشارة إليها مسبقا وضلال الرأي العام الغربي الجاهل المجهل. تظهر الاستبانات في إسرائيل أن أكثر من 80 بالمئة من الإسرائيليين يدعمون جرائم حكومتهم. ويسمح إفلات إسرائيل من العقاب استمرارها في ارتكاب الجرائم.
لم يتمكن تضامن مناصري فلسطين من تغيير التاريخ بشكل جوهري. لكن بالطبع لا يمكن إلقاء اللوم على هؤلاء الذين دفعوا بأرواحهم دعمهم للقضية الفلسطينية (مثلا راتشيل كوري والمسافرين على متن سفينة المافي مرمرة، الخ)، كما كانت تكلفة البعض الآخر السجن بعقوبات. وعلى عكس ذلك، هم يستحقون الاعتراف بهم والاعجاب بإخلاصهم الكريم.
إن أحد الحجج الأكثر استخداما من قبل الدعاية الإسرائيلية والغربية هي ردّ إسرائيل على عدوان الفلسطينيين. وقد تم تصديق هذه الأكذوبة لدرجة أن عددا ممن يقول إنهم يساندون حق هذا الشعب المظلوم يشترطون دعمهم بأن يتخلى الفلسطينيون عن الدفاع المشروع عن أنفسهم كلما اعتدت عليهم إسرائيل داعين إياهم إلى 'اللا عنف' و'التصدي للسياسات التوسعية الصهيونية بالطرق السلمية' وكأن الذود عن الحوض جريمة نكراء إذا لجأ إليه الفلسطينيون بواسطة أسلحتهم البالية وقنابلهم المنزلية.... مقابل العنف الإسرائيلي 'المقدس'.
إن ما ينتج عن أعمال المنظمات غير الحكومية كمنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى عندما يدينون الفلسطينيين بسبب الدفاع عن أنفسهم باستخدام الوسائل المتاحة لهم، هو إبعادهم أكثر عن الوسيلة الوحيدة المتناولة لمنع إسرائيل من قتلهم كيفما ومتى شاءت.
ومن يستنكر 'الإرهاب الإسلامي' وينصح الفلسطينيين بالاحتكام إلى محادثات السلام ويجبرهم على التخلي عن الدفاع الذاتي دون اعطائهم أي ضمان من أجل حمايتهم من جبروت دولة عدوانية بالأساس، فما يفعله هو التعاون مع الظالم والتنكيل بالمظلوم.
لم يعان اليهود والصهاينة المعاصرون ولا السياسيون الأوروبيون والأمريكيون الذين يدعمونهم ولا قادة الأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى ولا المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان، لم يعان أحدهم قط من التطهير العرقي على يد إسرائيل عام 1948، ولم يعيشوا تحت الاحتلال العسكري منذ عام 1967، ولم يروا أقرباءهم مقتولين إثر الانفجارات أو معتقلين في السجون الإسرائيلية دون محاكمة لمدة سنوات طويلة. لا يعرفون ما هو العيش كلاجئين دون القدرة على العودة إلى ديارهم ولا أربعة أجيال من بعدهم حتى يومنا هذا. لم يروا بيوتهم مدمرة على يد جيش الاحتلال، لم يروا حقولهم مجرفة ولا أشجارهم مقطوعة ولا آبارهم مسممة ولا أموالهم مسروقة ولا مرضاهم تتلاشى أرواحهم لأن إسرائيل تمنع من دخول المواد الطبية إلى الأراضي المحتلة...
كما أنهم لم يروا أبناءهم مقطعين إلى أجزاء في عز طفولتهم خلال إحدى المداهمات المريعة كالتي حصلت خلال الغارات الجوية الأخيرة أو خلال عملية الرصاص المصبوب، وهي اعتداءات شاملة لا يمكن أن تخفي بشاعة العمليات الروتينية اليومية التي يمارسها الطيران الإسرائيلي منذ سنوات وتقضي على أرواح العديد من الشهداء وتدمر البنى التحتية وتملأ المستشفيات بالمصابين ، حتى وإن كانت الصحافة الغربية تتجاهل هذه الأمور، إلا إذا تم اختطاف جندي إسرائيلي محتل واحد خلال عملية حربية. عندئذ سوف نراها تهرول إلى عناوين مزيفة خبيثة من نوع 'حماس تختطف جنديا إسرائيليا'.
كما أنهم ليسوا مجبرين على الالتزام بالحمية الغذائية التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، وبحسب ما تقوله الأمم المتحدة ليست كافية لإرضاء الاحتياجات الغذائية للإنسان. كما أنهم لم يعانوا من أن يندد العالم بأكمله، خاصة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والكنائس، في بعض الأحيان الهجومات بالفسفور الأبيض وسلاح آخر ممنوع من قبل القانون الدولي والمستخدم من قبل الطائرات والمدفعيات والسفن الحربية الإسرائيلية على مدن قطاع غزة، أكثر منطاق العالم كثافة بالسكان، المحروم من الوسائل المطلوبة للتصدي لأحدث الأسلحة الفتاكة.
متى أنقذت جملة تنديد وإدانة طفلا فلسطينيا من قذيفة أو متى قادت 'الاحتجاج' الدولي على 'تجاوزات' نظام تل أبيب حاكما إسرائيليا واحدا أمر بإطلاق تلك القذيفة إلى محكمة جنائية دولية، وهي المحكمة التي لا تستأهل بالمناسبة أن تحمل هذا الاسم فليست بالجنائية ولا بالدولية ولا تسعى إلى فرض القانون والعدالية إلا في حالات محددة جدا لا تتعارض مع مصالح القوى لمهيمنة عليها.
لا يحتاج الفلسطينيون إلى خبراء من الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية في القانون الدولي والتطهير العرقي وجرائم الحرب وضد الإنسانية، العاجزين دوما على منع إسرائيل من ارتكاب هذه الجرائم باستمرار ضدهم منذ أكثر من 60 عاما، كما لا يحتاجون إلى دروس في كيفية الرد على هذه الهمجية غير المنتهية.
حان الوقت للتخلي عن ميثاق الأمم المتحدة وبيان حقوق الإنسان الفاضي وثرثرة اللجنة الرباعية للسلام وحماقة بعثات ووفود السلام وخديعة عملية السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. إن الصهاينة على معرفة تامة بما يضر بمصالحهم ويمكن أن يضع حدا لتاريخهم المليء بالموت والسرقة والقمع، وهي تدابير ملموسة لم يقدم عليها المجتمع الدولي في أي وقت من الأوقات.
كما يعرفه الفلسطينيون أيضا، على الرغم من الضغط عليهم لعقود عدة من أجل جرهم إلى الالتزام بتعليمات المجتمع الدولي لأسباب واضحة، ما هي نتائج الضعف والانصياع أمام قوة إسرائيل والمجتمع الدولي نفسه. لم يكن هذا الطريق لصالح الفلسطينيين أبدا، فعلى عكس ذلك، انقلب هذا الخيار عليهم حيث لم يعد عليهم بشيء سوى المزيد من الموت وانحسار الأراضي وتجريدهم من أبسط حقوقهم بما فيها حق المقاومة وهو حق منصوص عليه في القانون الدولي ومعترف به، لكن لا أحد على استعداد للمطالبة به لصالح الفلسطينيين.
وعلى عكس ما تقوله الدعاية مرة أخرى، إن غياب العمليات المسلحة الفلسطينية ضد إسرائيل والتي درجت وسائل الإعلام الغربية على الإشارة إليها بمسميات سخيفة للغاية من قبيل 'العمليات الإسلامية الانتحارية' أو 'الهحمات الإرهابية' هو ما لا يجعل إسرائيل تشعر بالحاجة إلى الالتزام بالقانون الدولي والتخلي عن سياستها العدوانية المنفذة بتواطؤ المجتمع الدولي.
الموضوع ليس أن الفلسطينيين لا يحصلون على دولتهم وحقوقهم لأنهم يستخدمون العنف في الدفاع عن أنفسهم ضد عدوان إسرائيل، وإنما بسبب أنهم لا يستخدمونه أصلا. بكلمات أخرى: إن لم تدفع إسرائيل ثمنا لجرائمها، في ظل غياب العدل والقانون الدوليين، لماذا عليها التخلي عنها، أي قتل المدنيين والأطفال وسرقة أراضيهم واحتلالها وطرد سكانها، الخ... الخ؟
لا يوجد أي دافع اليوم للتفكير بأن هذا المجتمع الدولي سيجبر إسرائيل على احترام القانون الدولي، في وقت ما زال يسهل لها الطريق للاستمرار في القتل، بالإضافة إلى تمويل آليتها العسكرية والسكوت عن سياستها التوسعية. ألم يعلن أوباما الرئيس الأمريكي نفسه أمام العالم، أيام العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، أن إسرائيل تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية التام؟
كما لا توجد أية أسباب للاعتقاد بأن المنظمات غير الحكومية ستأخذ في الحسبان الموت المستمر الناجم عن القذائف، لكي تعترف بأن الضحايا هم من يستحقون المساعدة والاعتراف بشرعية كفاحهم.
تم تفجير حافلة في تل أبيب في 21 نوفمبر عام 2012. لم يحدث شيء كهذا منذ زمن طويل. قد تكون دلالة على أن الفلسطينيين غير مستعدين للسماح بأن يقع أبناؤهم وأحفادهم، كما حصل مع آبائهم وأجدادهم، فريسة سهلة في فكوك جلاديهم ومن يتعاون معهم من أبناء جلدهم. وإن كانت الأخبار المتعلقة ب'العنف الفلسطيني' يداهمك من كل حدب وصوب، فكفّ لمدة يوم واحد عن قراءة ما تنشره الصحف والاستماع إلى ما يقوله التلفاز عن الفلسطينيين، بل قم بقراءة ما يقوله الصهاينة عله يغير رأيك الموجه في الصراع الفلسطيني. فموشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب 1967، أكد بخصوص العقوبات التي فرضتها إسرائيل على المجتمع المدني الفلسطيني، أي قبل خمسين عاما من اتخاذ بنيامين نتنياهو إجراءات عقابية مماثلة بحق شعب غزة،: 'لا نستطيع أن نحمي كل واحدة من منشآتنا ضد هجوم، كما لا نستطيع الحيلولة دون قتل عامل في حقله أو عائلة في بيتها. لكن ما يمكننا فعله هو أن يدفعوا ثمنا غاليا مقابل سفك دمائنا، وسيكون الثمن عاليا جدا لدرجة أن الفلسطينيين والمجتمع العربي وجيشه والحكومات العربية لن تسول لهم أنفسهم أن دفع هذه الفاتورة يستحق العناء...'.
قد يقرر الفلسطينيون بعد 60 عام من اتخاذ دور الضحية أن يتخلوا عنه. وقد يضطر الإسرائيليون بعد 60 عام من اتخاذ دور المعتدي إلى التفكير بأن الثمن المدفوع مقابل جرائمهم عال جدا.
وصلتنا قبل أيام عدة رسالة من فلسطين: 'إن استطاعت المقاومة الاستمرار وفتح جبهات جديدة، فليكن، فالصهاينة، في جميع الأحوال، سيواصلون قتلنا. على الأقل فلنجعلهم يدفعون الثمن بقدر مستطاعنا، على عكس ما حدث حتى الآن، أن يقتلونا دون عقاب ومعاناة وإنما القليل من التخويف والترويع. لقد استمرت حالة ال 'لا سلام' وال 'لا حرب' وقتا طويلا، وهم يمارسون تصفيتنا كما يحلو لهم، حتى أنهم يستخدمون أمواتنا لصالح حملاتهم الانتخابية'.
'أستاذ جامعي وناشط إسباني متضامن مع القضية الفلسطينية
ترجمة: ليلى التلاوي
المصدر: القدس العربي، لندن