المفاوضات
الفلسطينية - الإسرائيلية ليست حدثاً
بقلم: حسن
شامي
توحي
التغطية الإعلامية، المكثفة نسبياً، للإعلان عن إطلاق المفاوضات الفلسطينية -
الإسرائيلية، بوقوع حدث مهم. مع ذلك يكاد وجه الحدث، أو متنه، يقتصر على الإيحاء
بهذه الأهمية لا غير.
صحيح أن
الإدارة الأميركية حرصت على إظهار رعايتها المباشرة لتجديد التفاوض بعد توقفه بضع
سنوات، وعلى أن تعلن توافق الطرفين المتنازعين وأن يُعقد اللقاء الأول في البيت
الأبيض، كما أعلنت تسمية مبعوث خاص لعملية السلام هو السفير الأميركي السابق لدى
إسرائيل مارتن إنديك، إلا أن وزير الخارجية جون كيري بدا وحده متفائلاً بإمكانية
التوصل بعد تسعة شهور إلى حل نهائي للنزاع. فقد استُقبِل نبأ إطلاق المفاوضات
بمقدار كبير من التحفظ، ليس في منطقتنا فحسب بل حتى في العواصم الغربية والدولية.
نصيب الشكوك في جدية المفاوضات يفوق بكثير نصيب التعويل عليها.
يتساءل
كثيرون بحق، وفي غير بلد، عما عدا مما بدا كي يُستأنف التفاوض بعد لعبة شد حبال
وبعد مناكفات بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو انتهت كما نعلم إلى عض أصابع بدا
فيه أوباما، غير مرة، ضعيفاً وعاجزاً عن انتزاع «تنازلات» من حليفه الاستراتيجي،
وإن اقتصرت هذه «التنازلات» على إعلان إسرائيلي عن تجميد الاستيطان، غير الشرعي
أصلاً، مدة ثلاثة أشهر فقط. فهل اجتمعت اليوم شروط أفضل لتجديد المفاوضات وما
عساها تكون؟ هل هي ثمرة الجولات المكوكية في الشرق الأوسط لكيري لمواكبة تحولات
أطلقها ما يعرف بـ «الربيع العربي»، وإن كان يحفها كثير من الغموض واحتمالات
التخبط والمراوحة في رمال مستقبل مجهول؟ ما هي حسابات الطرف الإسرائيلي وتلك التي
تخص المفاوض الفلسطيني في سياق هذا الربيع الممتنع عن تشكيل سياق كما يبدو؟ لا مفر
من الخوض في مثل هذه المسائل والتساؤلات لمن يحاول العثور على خيط أبيض وسط حزمة
من الحبال السود التي تلف عنق القضية الفلسطينية.
تحدثت
تقارير إعلامية، خصوصاً في الصحافة الإسرائيلية، عن رسائل ضمانات وتطمينات قدمتها
الإدارة الأميركية لكلا الطرفين المدعوين إلى التفاوض مجدداً. وقيل إن الرسائل
تضمنت عدم إقدام أي طرف على التسبب في مشاكل خلال شهور التفاوض. وفسر بعضهم هذا
بأنه لجم لأي إحراج في المحافل الدولية قد يسببه الطرف الفلسطيني، خصوصاً في
الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة التي ستُعقد في أيلول (سبتمبر). في المقابل،
ودائماً وفق بعض المفسرين، تلجم الرسائل الطرف الإسرائيلي وتمنعه من الإقدام على
«تكثيف» الاستيطان، كما جاء حرفياً في بعض التقارير.
في
الحالة الأولى، الفلسطينية، نجد مطالبة أميركية باعتماد واقعية سياسية وديبلوماسية
مفهومة وإن كانت مدعاة رفض واستياء. في الحالة الثانية، الإسرائيلية، تبدو
المطالبة الأميركية أقرب إلى الجدال النقدي والشعري حول وجه «التكثيف» الاستيطاني.
لماذا لا يكون القضم الديموغرافي للقدس وللضفة الغربية بالملعقة وليس بالجرافة؟...
فهذا أقرب إلى النثر المتخفف من التكثيف والضغط الشعريين.
خلافاً
لاعتقاد شائع عن الضعف الفلسطيني الذي لم تحمل له سنونوات «الربيع العربي» سوى
الوعد بمزيد من العزلة واللامبالاة، يبدو الطرف الفلسطيني أقل حرجاً من الطرف
الآخر في خوض المفاوضات. فهو يستطيع أن يقول دائماً: نستجيب الرغبة الأميركية
ونذهب إلى المفاوضات ونتمسك بمواقفنا الثابتة كما سابقاً. وبهذا نضع الطرف
الإسرائيلي في موقف حرج باعتباره مَنْ يرفض عملية السلام ويعطّلها، وبذلك أيضاً
نضع الإدارة الأميركية أمام مسؤولياتها. والحال أن الحكومة الإسرائيلية الائتلافية
ليس لديها ما تخسره، من وجهة نظرها. فهي تستطيع رشوة الفلسطينيين وذر الرماد في
عيون كثيرة، مصابة أصلاً بنوع من الرمد الطوعي، عبر الإفراج عن نيف ومئة سجين، ومن
ثم التمسك بالبؤر الاستيطانية وتوسيعها وتغليف ذلك بالحاجة الوجودية إلى أمن
استثنائي يتعدى السياسة والتاريخ والمصالح. ويسع المفاوض الإسرائيلي أن يتذرع
بضبابية المشهد المتولد عن الثورات في مصر وسورية، وتعاظم الظاهرة الإسلامية في
شقّيها السياسي الإخواني والجهادي القاعدي للتشديد على أولوية الاعتبارات الأمنية
في رسم خريطة التفاوض. كل ذلك متوقع. غير أن الكلام الذي جرى تداوله عن ترك الراعي
الأميركي للطرفين حرية التفاوض المباشر من دون أي تدخل، إضافة إلى الحديث عن ضرورة
أن يكون الجزء المهم من المفاوضات سرياً، يرمي حجراً كبيراً في بحيرة النيات
الطيبة للتفاوض.
الحديث
عن سرّية المفاوضات يعيد إلى الأذهان حكاية تفاهمات أوسلو التي أُجريت بالتوازي مع
مفاوضات علنية خاضها فريق فلسطيني يتمتع بصدقية أكبر وبثقة من الشارع تفوق الثقة
الممنوحة للسلطة الفلسطينية الحالية. ومعلوم ما وصلت إليه أوسلو وكيف جرى تدجين
الفلسطينيين المتواصل، خصوصاً بعد موت زعيمهم التاريخي ياسر عرفات بطريقة غامضة،
بات من شبه المؤكد أنه كان ضحية اغتيال. وكانت مفاوضات أوسلو تندرج، كما تصورها
الطرف الأقوى في المعادلة، في استراتيجية تهدف إلى عزل المسألة الفلسطينية عن
مدارها الإقليمي العربي والإسلامي. وتحقق ذلك إلى حد بعيد، ما يسمح باعتبار
العملية التفاوضية المستجدة هذه الأيام استئنافاً للاستراتيجية ذاتها في ظروف تخبط
عربي يعدّ سابقة.
فالوضع
المصري مرشح لتعقيد متزايد في ظل الصراع بين العسكر و «الإخوان» وسعي كل من
الطرفين إلى احتواء الآخر باسم شرعية معينة. الوضع السوري يتجه بدوره نحو استنقاع
دموي معطوف على مزيد من التشظي والنزاعات المفتوحة، ليس بين معارضة ونظام فقط، بل
بين فصائل تنسب نفسها الى المعارضة كما هي حال النزاع مع إسلاميي «جبهة النصرة» و
«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ناهيك عن اتساع المواجهة بين الإسلاميين
والأكراد على خلفية عِرقية واقتصادية نفطية وأيديولوجية.
يبقى أن
التهم المتدفقة في مصر ضد قيادات «الإخوان»، كالتحريض على القتل ودعوتهم إلى فض
اعتصامهم لأنه يهدد الأمن القومي، لا تبشر بتسوية مقبولة. ما ينبغي أن يثير
الانتباه أكثر هو التهمة الموجهة إلى الرئيس المعزول محمد مرسي بالتخابر مع حركة
«حماس» الفلسطينية. التهمة غريبة أياً يكن التفسير الحقوقي والقانوني للتخابر.
«حماس» هي الخاسر الأكبر في التقلبات الحاصلة عربياً، وليس مستبعداً أن تكون
المفاوضات المتجددة حلقة في مسلسل إنهاك الفلسطينيين ودفعهم إلى الاحتراب.
الحياة،
لندن، 4/8/2013