المفاوضات... عباس عندما يستثمر عزل مرسي
د.صالح النعامي
كيف يمكن فهم تراجع رئيس السلطة محمود عباس المفاجئ عن الشروط التي وضعها
لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، والتي تضمنت: موافقة إسرائيل المسبقة على الانسحاب
إلى حدود عام 1967 ووقف عمليات التهويد والاستيطان في الضفة الغربية، وإطلاق سراح
الأسرى الفلسطينيين الذين اعتقلوا قبل التوقيع على اتفاقيات أوسلو.
لقد انطلق عباس من افتراض مفاده أن استئناف المفاوضات مع إسرائيل في هذا
الوقت تحديداً، سيوفر له مبررا لعدم التوجه للأمم المتحدة للحصول على عضوية كاملة
لفلسطين في المنظمة الدولية، كما أن استئناف المفاوضات يفترض أن يحد من قوة الضغوط
الداخلية التي تمارسها النخبة الفلسطينية على عباس للتوجه للمؤسسات القضائية
الدولية لمقاضاة إسرائيل، بسبب مواصلة عمليات الاستيطان والتهويد. يخشى عباس أن
يفضي خضوعه لهذه الضغوط إلى فتح مواجهة مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة؛ وهي
المواجهة التي يمكن أن تنتهي بتقويض السلطة الفلسطينية وتعزيز مكانة الحركات
الفلسطينية التي تنافس حركة فتح، وعلى رأسها حركة حماس. من ناحية ثانية، إن
استئناف المفاوضات يسمح لعباس بالدفاع عن تواصل التعاون الأمني مع إسرائيل؛ وهو
التعاون، الذي يواجه بانتقادات حادة ولاذعة من قبل الكثير من الأوساط الفلسطينية.
من ناحية ثانية لا يمكن فهم تراجع عباس عن خطوطه الحمراء دون الأخذ بعين
الاعتبار حجم الضغوط التي مارستها الإدارة الأمريكية على عباس السلطة للتراجع عن
شروطه لاستئناف المفاوضات. ففي خلال الجلسات المغلقة التي عدها مع عباس مع وزير
الخارجية الأمريكية جون كيري هدده الأخير بقطع العلاقات مع السلطة، علاوة على
تهديده بوقف المساعدات المقدمة للسلطة، في حال ظل يصر على شروطه المسبقة. في الوقت
ذاته، وكما زعم عضو اللجنة المركزية لحركة « فتح « عباس زكي، فقد مارست دول عربية
ضغوطاً كبيرة على عباس للموافقة على العودة للمفاوضات بدون الاصرار على الشروط
المسبقة، عبر التلويح بسلاح المقاطعة السياسية والعقوبات الاقتصادية.
وفي ذات الوقت، لا يمكن فهم تراجع عباس دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير
التطورات في مصر، حيث أن عباس بات يرى إن عزل الرئيس مرسي سيؤثر سلباً على مكانة
حركة حماس وسيضعف من قدرتها على العمل بشكل فاعل ضد قراره استئناف المفاوضات.
لقد جاء رضوخ عباس للضغوط
الأمريكية، وموافقته على استئناف المفاوضات ليزيد من مظاهر التطرف على الموقف
الإسرائيلي من شروط التسوية. فبعيد إعلان وزير الخارجية الأمريكية جون كيري عن
استئناف المفاوضات، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً ببناء مئات الوحدات السكنية
في المستوطنات اليهودية في جميع أرجاء الضفة الغربية والقدس المحتلة. إلى جانب
ذلك، أوضحت الحكومة الإسرائيلية أن استئناف المفاوضات لن يؤثر على مخططاتها في
البدء في تنفيذ المشروع الاستيطاني الخطير»E1 «، وهو
المشروع الذي يهدف إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها؛ والذي سيؤدي استكماله
إلى إسدال الستار نهائياً عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية ذات إقليم متصل. وإن
كانت السلطة الفلسطينية قد تراجعت عن شروطها المسبقة لاستئناف المفاوضات، فإن
الصهاينة يطرحون شرطاً تعجيزياً يتمثل في مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية
إسرائيل قبل بحث قضايا الحل الدائم؛ مع العلم أن الاعتراف الفلسطيني بيهودية
إسرائيل يعني عملياً تنازل الفلسطينيين المسبق - وقبل أن تبدأ المفاوضات - عن حق
العودة للاجئين الفلسطينيين. علاوة على ذلك، فقد وظفت النخبة اليمينية الحاكمة في
تل أبيب التراجع الفلسطيني في محاولة جني أرباح على الصعيد الداخلي الإسرائيلي،
عبر اعتبار أن هذا التراجع يعد مؤشراً على صدقية الخطاب السياسي لليمين
الإسرائيلي. فقد عد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن تراجع عباس عن
شروطه « ثمرة من ثمار التصميم والعناد «، الذي أبدته حكومته، مع تأكيده على أنه لا
ينوى التراجع عن هذا النهج في المستقبل. ومن الواضح أن السلوك الفلسطيني الرسمي
بات يمثل مصدراً من مصادر تعزيز قوة اليمين الإسرائيلي.
وفي مقابل مظاهر الثقة بالنفس لدى الجانب الإسرائيلي، فإن الجانب الفلسطيني
يتجه لهذه المفاوضات في ظل افتقاده مصادر الدعم الداخلي، وهي المقومات التي كان
بإمكانها تقليص قدرة إسرائيل والإدارة الأمريكية على ممارسة الضغوط والدفع نحو
مزيد من التآكل في الموقف الفلسطيني. فموافقة عباس على استئناف المفاوضات جاءت في
ظل تفاقم حالة الانقسام الداخلي؛ مما سيضعف من موقفه خلال المفاوضات التي ستجرى في
واشنطن. لقد أصبح حلم انهاء الانقسام بعيد المنال، تحديداً بعد توجه عباس للدعوة
لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في الضفة الغربية وحدها وبدون التنسيق مع
حركة حماس؛ وفي حال نفذ عباس تهديده؛ فإن هذا يعني القضاء على أية فرصة لتحقيق
المصالحة الوطنية واستعادة الصف الفلسطيني وحدته؛ وهذا ما سيسمح للإسرائيليين
بهامش مناورة كبير لابتزاز المزيد من التنازلات من الجانب الفلسطيني.
وحتى قبل ان تبدأ المفاوضات، فإن
الإسرائيليين يعلنون إنه لا يمكن انجاز أي اتفاق نهائي مع السلطة الفلسطينية في
حال ظل عباس يمثل نصف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. في الوقت ذاته، فإن موافقة
عباس على استئناف المفاوضات في ظل تواصل مشاريع الاستيطان والتهويد ستقلص من حجم
الضغوط الدولية التي تمارس على إسرائيل لوقف مصادرتها للأرض الفلسطينية؛ وهذا بحد
ذاته سيغري إسرائيل بمواصلة التشبث بمواقفها المسبقة. فمن المفارقة، إن موافقة
عباس على استئناف المفاوضات قد جاء بعد قرار الاتحاد الأوروبي بالانسحاب من أي
اتفاق اقتصادي مع إسرائيل في حال تبين أنه يشمل المستوطنات اليهودية في الضفة
الغربية. وفي ظل هذا الواقع، فإنه من غير المستبعد أن تتمكن إسرائيل من تحسين
مكانتها الدولية؛ حيث إنه سرعان ما وظف الإسرائيليون تراجع عباس عن مطالبته بوقف
الاستيطان، لمطالبة الأوروبيين بوقف إجراءاتهم العقابية ضد إسرائيل.
السبيل، عمّان، 6/8/2013