المقاومة
الفلسطينية.. صعود المارد أم سقوط الثور؟
د.
محسن صالح
بدا
المشهد في الأسبوع الأول من حرب غزة الأخيرة لدى بعض القوى الإقليمية والدولية،
وهي تتعامل ببرود لافت للعيان مع الهجوم الإسرائيلي الوحشي على القطاع، وكأنها
تنتظر "سقوط الثور" (المقاومة) حتى تجهز عليه وتتناوشه بسكاكينها.
خاب
فألهم، لم يكن ثورًا في مهرجان إسباني لصراع الثيران، أولئك الذين كانوا يودون
التلذذ بمشهد السقوط، تسارعت نبضات قلوبهم، وأحرقوا آخر نفَس في
"السيجار"، وهم يرون ماردًا "مؤمنًا" صاعدًا يقلب حساباتهم.
منذ
إنشاء الكيان الصهيوني لم تعش المقاومة الفلسطينية بيئة إقليمية أسوأ من تلك التي
عاشتها قبل العدوان الإسرائيلي على القطاع في صيف 2014م وفي أثنائه، الترتيبات
كانت تجري على قدم وساق لإغلاق ملف المقاومة الفلسطينية، ولإعداد مراسيم جنائزية
"لائقة".
كانت
ثمة رؤية لدى اللاعبين الكبار أنه حتى يغلق ملف الثورات، وتعود الأنظمة الفاسدة
والمستبدة للتموضع بشكل يسمح لها بالاستمرار، مع تكريس حالة من الضعف والتمزق
الطائفي والعرقي، ما يوفر أيضًا بيئة إستراتيجية مثالية للكيان العبري؛ لابد من:
-
ضرب الاتجاهات الرئيسة التي شكلت قاطرة رئيسة للتغيير، وخصوصًا الاتجاهات
الإسلامية.
-
لابد من إغلاق الملفات التي تشكل عنصرًا للتفجير في المنطقة، وتحديدًا الملف الفلسطيني
وجذوته المتمثلة في العمل المقاوم.
في
مطلع الصيف كان هناك ما يبرر صقل السكاكين والسيوف: حالة حصار غير مسبوقة من
النظام المصري أغلقت "الرئة الاصطناعية" التي كان يتنفس منها القطاع
(الأنفاق)، واستمرار الحصار الإسرائيلي، وتوقف المساعدات منذ نحو سنة ونصف من
إيران و"قوى الممانعة"، وضيق وانزعاج من أطراف الاعتدال والممانعة من
تيار "الإسلام السياسي" السني الذي تشكل حماس مركزه الفلسطيني.
وجاء
"اتفاق الشاطئ"، وتفعيل ترتيبات المصالحة، وإنهاء حكومة حماس في القطاع
وتسليمها الإدارة لحكومة التوافق الوطني؛ ليفسره كثيرون _ومنهم القيادة الفتحاوية
في رام الله_ أن حماس جاءت إلى المصالحة وهي راغمة، بل جاءت وهي "شالحة"
كما ذكر قيادي فتحاوي كبير في أحد مجالسه.
عندما
سارت الحرب في أيامها الأولى كانت أطراف عربية تتوقع أن تتلقى حماس الصفعات
والضربات القاسية، وأن تخرج خافضة الرأس مهيضة الجناح، وكان إعلامها باردًا، وكان
سمجًا وهو يستبطئ سقوط "الثور"، أما في مصر فلم يكتف معظم الإعلام
الفعال بالابتعاد عن الدور الوطني والقومي والعروبي والإسلامي المعهود لمصر، وإنما
انضمت جوقات إعلامية إلى حفلات الطبل والزمر في تشويه المقاومة، وتشويه نضال الشعب
الفلسطيني، والتبرير للعدوان الإسرائيلي.
فالإعلامية
أماني الخياط وصفت العدوان الإسرائيلي بأنه مسرحية هزلية تديرها حماس، وبرر توفيق
عكاشة الهجوم الإسرائيلي، وطالب أهل غزة بالثورة على حماس، وطالبت أماني الدرديري
السلطات المصرية بمساعدة الكيان العبري على القضاء على حماس، ووصلت الفجاجة بمذيع
مثل محمد الغيطي إلى عرض صور مفبركة مزورة في برنامجه على قناة التحرير لإسماعيل
هنية قائد حماس في القطاع، تتهمه بعلاقات جنسية مع "نساء الموساد"،
وفبركت مجلة "روز اليوسف" أكاذيب أخرى.
الكيان
العبري الذي كان مرتاحًا للأداء العربي _خصوصًا المصري_ لم يخفِ سعادته بالعلاقة
التي نتجت مع دول المنطقة، ورأى فيها ذخرًا مهمًّا له، كما قال نتنياهو، وكانت
وزيرة القضاء الإسرائيلية تسيبي ليفني أكثر صراحة عندما تحدثت عن أن هناك توافقًا
مع مصر على خنق حماس.
أما
إسحق هرتسوغ رئيس حزب العمل فتحدث في مقابلة مع (يديعوت أحرونوت) عن "حلف آسر
في المنطقة، يشمل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية والسعودية ودول الخليج"،
مؤكدًا أن الكيان العبري جزء منه، وأن هذا الحلف يعبر عن رؤية إقليمية.
صحيفة
(جيروزاليم بوست) تحدثت في10/7/2014م عن أن مصر والكيان يشكلان يدًا واحدة ضد
حماس، ووصف موقع صحيفة (معاريف) العلاقات المصرية الإسرائيلية بأنها وصلت إلى
مرحلة "التحالف الشجاع"، أما داني دانون نائب وزير الجيش الإسرائيلي
السابق فقال بعد نحو شهر من الحرب على غزة: "إن المصريين طلبوا من
الإسرائيليين الاستمرار في ضرب حماس؛ لأنها لم تتألم بما فيه الكفاية".
ولخص
المستشرق الإسرائيلي المعروف "إيهود إيعاري" المشهد بقوله: "إن
الرئيس المصري السيسي يريد أن يرى حركة حماس تنزف، وأن يستمر النزف، لذلك إنه يعمل
من أجل الإمعان في إذلالها في العملية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي".
وطوال
الحرب ترددت فكرة نزع أسلحة حماس والمقاومة، وقال الإسرائيليون: "إن هذه
الفكرة تدعمها الولايات المتحدة ومصر ودول أخرى"، حسب ما عبر جلعاد أردان
وزير الداخلية وعضو المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر.
كان
نزع أسلحة المقاومة يعني عمليًّا إغلاق ملف المقاومة الفلسطينية، وإذا كانت هذه
الفكرة تروق الإسرائيليين والأميركيين فقد وجد فيها نظام السيسي ضربة للإسلام
السياسي وفرع "الإخوان" في فلسطين، ووجدت فيها بعض أطراف السلطة
الفلسطينية فرصة لتهميش تيار المقاومة، والهيمنة على الساحة الفلسطينية، وفرض
أجندتها المرتبطة بمسار التسوية على القضية الفلسطينية.
فاجأ
أداء المقاومة الجميع وأربك حساباتهم، فالمقاومة صمدت على الأرض وقدمت أداء
بطوليًّا، والمقاومة مرغت أنوف قوات النخبة البرية الإسرائيلية في التراب،
والمقاومة غطى مرمى صواريخها التجمعات الصهيونية في فلسطين المحتلة كافة، ولأول
مرة منذ عشرات السنوات أبدعت المقاومة في البر والبحر والجو.
والمقاومة
التفت حولها الجماهير واستعادت تألقها، وقدمت دورًا متميزًا لـ"الإسلام
السياسي"، وأقامت الحجة على الدول والشعوب، وفضحت تخاذل الأنظمة.
لم
نعد أمام "ثور" يترنح بل أمام "مارد" يصعد، ليس ماردًا من
الجن، وإنما مارد "مؤمن" بمفهومه الإيجابي المرتبط بالقوة والعزة
والعنفوان.
وفي
هذه الأيام تعيش الساحة الإقليمية حالة من التدافع و"صراع الإرادات"،
والجميع تعامل مع ما حدث في غزة كمجرد "جولة" من الجولات.
الجديد
في هذه الجولة أنها صدمت الموجة المرتدة العاتية التي استهدفت "الإسلام
السياسي" وتيارات المقاومة، وأنها كشفت عن حجم التضليل الهائل والإعلام
الأسود اللذين يستهدفان المنطقة طوال أشهر عديدة، وأن هذه الجولة أعادت للتيار
الإسلامي السني المعتدل صورته الطبيعية، وأكدت التفاف جماهير واسعة حوله، وأخرجت
الناس من الثنائية المقيتة التي أرادت بعض القوى أن تضعهم بين أحد خياريها: وهو
إما أنظمة فاسدة مستبدة، وإما أنموذج مشوه للإسلام يستسهل التكفير والولوغ في
الدماء. الكيان العبري والقوى الإقليمية التي أقلقها أداء المقاومة وكشف بعضًا من
عوراتها سيواصلان السعي في الأيام القادمة لإفراغ إنجازات المقاومة من محتواها،
والحملات الإعلامية ستستأنف ضد المقاومة، وسيُركَّز على الدمار والخسائر التي وقعت
في القطاع، مع تحييد متعمد للحديث عن المقاومة وبطولاتها وصمودها.
وسيركز
أيضًا على ما "جرّته" المقاومة من خسائر وأضرار على الشعب الفلسطيني،
وما تتسبب به مغامراتها من "كوارث" على الناس، ولكن لن يتحدث عن المعتدي
ولا المجرم الصهيوني، ولا أنه سبب مأساة الشعب الفلسطيني.
سيركز
على لوم الضحية، وعلى من حاول أن يدافع عن شرفها، وسيحاول الطرف الإسرائيلي _ومعه
أطراف أخرى_ تأخير الإعمار ومعالجة الدمار حتى "يتعفن" جرح الناس، وحتى
يجبروا الناس على الانفضاض عن المقاومة، ليسهلوا بعد ذلك على أنفسهم الانقضاض
عليها، سيحاولون إعادة المارد إلى "القمقم"، وسيجهزون السكاكين من جديد.
لن
تكون المهمة سهلة أمام المقاومة للدفاع عن نفسها ومكتسباتها؛ فالهجمة ستكون شرسة،
وقد تكون بأدوات ومعايير أكثر قسوة، ولذلك أمام المقاومة جدول عمل طويل وشاق،
مطالبة فيه بأن تحافظ على قوتها وتماسكها، وأن تزداد التصاقًا بالجماهير وهموم
الناس، وأن تبقى بوصلتها مصوبة نحو الاحتلال.
مطلوب
أن توقّع الفصائل والتيارات الفلسطينية كافة ميثاقًا يجعل سلاح المقاومة خطًّا
أحمر، ويرفض نزع أسلحتها، ويرفض تطبيق إملاءات الاحتلال في الضفة الغربية على
الوضع في قطاع غزة.
ومطلوب
أيضًا عدم الاستفراد بقطاع غزة الذي صمد وأبدع في ثلاث حروب كبيرة، يجب ألا يستفرد
به في أي مرة قادمة، ويجب أن تستعيد باقي فلسطين حيويتها، وكذلك شعبها في الخارج،
ومعهم أبناء أمتنا العربية والإسلامية وأحرار العالم.
صحيح
أن البيئة الإقليمية ما زالت غير مواتية للمقاومة، وصحيح أن المخاطر كبيرة، ولكننا
ننبه إلى أن البيئة هذه تضطرم بالحركة والتغيير، وربما كسبت جهات بعض الجولات، لكن
النتائج لم تستقر بعد لأحد، والمقاومة في معظم تاريخها الحديث والمعاصر لم تعمل في
بيئات إقليمية مواتية، ثم إن قضية فلسطين أولًا وأخيرًا هي قضية حق وعدل، وقضية
تكفل الله (سبحانه) بها، وسترجع فلسطين عاجلًا أو آجلًا بعز عزيز أو بذل ذليل،
والمهم تجاوز العقبات بأقل الخسائر وأفضل النتائج، بإذن الله.