علي حبيب الله/ كاتب وباحث فلسطيني
إن دفع المال للمهّرب
لقاء تأمينه مسلكًا بحريًا للجوء، يجري بطرق مختلفة ومتغيرة، والمتبع في السنوات الأخيرة
هو إيداع المبلغ المتفق عليه بين اللاجئ والمهّرب في مكتب تأمين بتركيا، ويكون هناك
شيفرة خاصة لهذا الإيداع.
"ياكلني الحوت
وما ياكلنيش الدود"؛ مثل جزائري ومطلع لأغنية اشتهرت في تسعينيات القرن الماضي،
حينما آثر بعض من الجزائريين والمغاربة عمومًا، إطعام أنفسهم لسمك البحر على أن يبقوا
لدود الأرض في بلادهم المُغرقة بالاضطرابات والفساد والعوز، والفاقة والفقر، وانسداد
أفق المعيش فيها، الأمر الذي كان يدفع بهم للهجرة عبر البحر من على قوارب الموت، تهريبا
وهربا إلى شواطئ الدول الأوروبية.
لم يعد الفرار
بحرًا عبر المتوسط حكاية عربية - مغربية، إنما مشرقية كذلك، منذ أن دارت سيوف الطغيان
والطائفية والتطرف على بعض شعوب دول المشرق في العقد الأخير، وتحديدا في إثر الربيع
العربي، في دول مثل العراق وسورية ولبنان، ما دفع لموجات من الهجرة أو النزوح، من بينهم
لاجئو المخيمات الفلسطينيية. والذي يعنينا في مقالتنا، هم اللاجئون الفلسطينيون في
مخيمات لبنان، الذين لا نبالي إذا قلنا، إن تعدادهم في لبنان اليوم، ربما لا يتجاوز
150 ألف لاجئ، وأقل من ذلك حتى؛ إذ تشهد المخيمات الفلسطينية في لبنان هجرة مستمرة
وصامتة منذ عقود، تكثفت في العقد الأخير.
عزل وحرمان
يعاني فلسطينيو
المخيمات في لبنان منذ عام 1948 من سياسة العزل والحرمان، مردّها عنصرية النظام السياسي
الطائفي، الذي لا يعني رفضه "توطين" الفلسطينيين منحهم حقوق مقيمين إلى حين
عودتهم لبلادهم - والفلسطينيون لم يطلبوا توطينهم يوما في لبنان - إنما يعني رفض التوطين،
العزل والحرمان، من مزاولة أية مهنة أو نشاط في البلد، إلى حين أن يجد الفلسطينيون
مكانًا آخر يلجؤون إليه غير لبنان. بمعنى، لا يقابل رفض توطين الفلسطينيين في لبنان
حقّ عودتهم إلى فلسطين، بل يقابله عدم الترحيب.
صحيح أن الموقف
من قضية فلسطين والفلسطينيين متباعد ومتناقض بين القوى السياسية اللبنانية، فلا يمكن
مقارنة موقف "حزب الله" واليسار بموقف "القوات اللبنانية" واليمين
مثلا؛ إلا أن كلاهما شريكان في إنتاج النظام ذاته، والمنظومة "الطائفية السياسية"
نفسها، والتي ترى في أي محاولة لدمج الفلسطينيين في الشأن العام اللبناني إخلالا بما
يُسميه لبنان سُخفا وبهتانا "توازناته الدقيقة". باعتبار أن توطين الفلسطينيين
قد يغلّب طائفة لبنانية ما، على باقي الطوائف الأخرى لناحية الوزن والعدد. علمًا بأن
لبنان قد وطّن بعض الفلسطينيين فور لجوئهم إليه عام 1948، لكنه كان توطينا محدودا،
اقتصر على فلسطينيين مسيحيين، لثروتهم غالبًا، وبعض رؤوس الأموال من المسلمين؛ فيما
رزح السواد الأعظم من اللاجئين، تحت طائل العزل والحرمان.
لم يُصادق لبنان
على اتفاقية جنيف لعام 1951 الخاصة باللاجئين، ولا على بروتوكلها عام 1967، ممّا يفسّر
امتناعه عن منح صفة "اللاجئ"، أو إقامة دائمة للاجئين. ومع أن ذلك لا ينطبق
على اللاجئين الفلسطينيين لخاصية وضعهم، إلا أن الدولة اللبنانية قبلت باللاجئين الفلسطينيين،
وأطلقت عليهم صفة "نازحين"، للتهرّب من مسؤولياتها تجاههم.
عموما، ظلّت ظروف
اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مأساوية، حتى في ظل فترات استقرار لبنان ورخائه، فكانت
الهجرة تجري على قدمٍ وساق، منذ ما بعد النكبة. هذا ناهيك عن فترات الاحتراب الأهلي
- الطائفي في لبنان، والاجتياح الإسرائيلي له عام 1982، واللذين دفع الفلسطينيون فيهما
ثمنا باهظًا من مجازر ومذابح، وتهجير وترحيل واقتلاع. فما بالنا في لبنان اليوم، كبلدٍ
منهار ومنهوب على مستوى الدولة والنظام، فمن يكترث للفلسطينيين ومأساتهم، إذا كان لبنان
لا يكترث للبنانيين أنفسهم؟
إذن، إن مصيبة
اللجوء بذاتها، ثم مأساة المخيم الفلسطيني مع طائفية النظام اللبناني، وعنصرية مجتمعه
بما انبجس عنهما من عزل وحرمان على مدار عقود، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تخلي القيادة
الفلسطينية ومنظمة التحرير عن اللاجئين، الذين لم تعد قضية فلسطين تعنيهم أو تقصدهم،
مع العلم بأن اللاجئين هم قضية فلسطين في سطر تعريفها الأول. هذا وفضلا، عن تراجع وكالة
الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التدريجي في
العقدين الأخيرين عن تقديم الدعم والإعانات والتمويل لمخيمات اللاجئين؛ يقابل كل ذلك،
أن الأغلبية الساحقة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لا تملك سوى وثيقة سفر لبنانية،
وقلّة منهم فقط حصلت على جواز سفر صادر عن السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يُغلق بوجه
اللاجئين أبواب الهجرة النظامية، ليبقى أملهم الوحيد في البحر! وهل من أملٍ في البحر؟
غير نظاميّ أم
نظاميّ غير مباشر؟
في تحقيق مطوّل
أعدّه ونشره موقع "بوابة اللاجئين" مؤخرا، عن اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات
لبنان، تحت عنوان "الانتهاكات والمخاطر المرتبطة بمسالك التهريب البحري"
للعام 2022، يبيّن لنا التحقيق الذي تضمن جملة من المقابلات مع لاجئين فلسطينيين ناجين
من قوارب الموت، حجم المأساة التي كانت ذروتها في "فاجعة البارد" يوم 23
أيلول/ سبتمبر 2022، بغرق قارب شاطئ المنية شمالي لبنان، والذي كان يحمل على ظهره ما
يزيد عن 150 مهاجرا، منهم لاجئون فلسطينيون من مخيم نهر البارد، وآخرون سوريون، ومعهم
لبنانيون أيضًا. كانوا متجهين نحو إيطاليا، فغرق قاربهم قبالة ساحل طرطوس السوري، ولم
ينجُ منه غير 20 شخصا، وعثر على أكثر من 100 جثة، من بينها نحو 40 مجهولة الهوية.
تفاصيل حادث الغرق
كثيرة ومزعجة إلى حدّ القهر، وقارب المنية ليس الأول ولا الأخير الذي يتعرض للغرق.
غير أن ترحيل مأساة غرق الفلسطينيين وحصرها ضمن ما يُعرف بـ"انتهاكات ومخاطر الهجرة
غير النظامية"، فيه بعض التسطيح لحقيقة ما يجري، فإذا كان أحد تعريفات الهجرة
غير النظامية (غير الشرعية) عمومًا بأنها تجري تهريبًا، بعيدًا عن أعين الدولة، فهل
هجرة لاجئي المخيمات الفلسطينية عبر البحر تجري بعيدة عن أعين السلطات اللبنانية فعلا؟
الجواب لا طبعا، إنما تجري تحت أعين الدولة وبإرادتها غير المباشرة. وهذا ما تثبته
حقيقة تواطؤ ضباط عسكريين وأمنيين لبنانيين مع عصابات وشبكات التهريب، والاتجار بالبشر
في لبنان.
"إن حواجز
الدولة والعساكر من منطقة المدفون حتى نهاية عكّار، يعرفون المهّربين ويسهلون مرورهم"،
هذه ما شهدهُ ويَشهد عليه جهاد مشلاوي، الناجي من غرق مركب "المنية" في أيلول/
سبتمبر العام الماضي. مما يفسر، ويؤكد ليس فساد أجهزة أمن الدولة اللبنانية، بل إرادة
النظام السياسي في التخلص من الفلسطينيين، عبر رميهم بالبحر.
كما يؤكد مشلاوي،
الناجي نفسه، أن قارب المنية قد انطلق من السواحل اللبنانية تحت التهديد بالسلاح من
قبل المهّرب، بعد أن قرر سائق القارب أسامة نافذ، وهو فلسطيني لاجئ، التراجع عن الإبحار
بالقارب لأنه لم يكن يصلح لذلك، بحمله الثقيل، مما يجعله عُرضه للغرق. ولمّا حاول نافذ،
عدم الانصياع لأوامر المهّرب، تعرض من قبله للتهديد بقتل أطفاله أمام عينيّه. المهّربون
ليسوا مجرّد تجار بشر يبتزون ضحاياهم من لاجئين بمبالغ ضخمة، بحجة تأمين هجرتهم عبر
البحر فحسب. بل المهّرب في كثير من الأحيان هو أداة تستبطنها السلطات اللبنانية للتخلص
من اللاجئين. في اللحظة التي يصعد فيها اللاجئ إلى القارب، فلا مجال للعدول أو العودة،
لأن ذلك ليس من مصلحة المهّرب، وسلطات الدولة.
"جرّبلي هالنقطة"
"طبعا المهّرب،
لا يقول لك أين هو، ولا يقول اسمه حتى، ويتواصل معنا من رقم أجنبي وأميركي، وأنت لا
يمكنك أن تعرف أين يسكن... يكلمك ويقول لك إن اسمه أبو فلان، وكلها أسماء وهمية"؛
هذا بحسب شهادة سامر الأسعد، وهو لاجئ فلسطيني من تجمع وادي الزينة في لبنان. لا يرى
المهربون وسماسرة البحر بطالبي اللجوء من اللاجئين سوى دولارات، يثابر اللاجئ على جمعها
للحدّ الذي باع بعضهم فيه مصاغ نسائهم وعفش بيوتهم من أجل توفير المبلغ المطلوب للمهّرب
أو السمسار.
إن دفع المال للمهّرب
لقاء تأمينه مسلكا بحريا للجوء، يجري بطرق مختلفة ومتغيرة، والمتبع في السنوات الأخيرة
هو إيداع المبلغ المتفق عليه بين اللاجئ والمهّرب في مكتب تأمين بتركيا، ويكون هناك
شيفرة خاصة لهذا الإيداع. في حال وصل اللاجئ إلى بلد اللجوء بأمان، يمكن عندها للمهّرب
أن يذهب ويفك شيفرة الإيداع، ويستلم المبلغ بعد أخذ المكتب موافقة اللاجئ نفسه.
ومع ذلك، كثيرة
هي الحالات التي أخذ فيه بعض المهّربين والسماسرة المال، ثم تنصلوا لصاحبه. فهذا وائل
السحماتي لاجئ فلسطيني يروي قصته مع "الغلاييني" أحد اشهر تجار تسفير طالبي
الهجرة عبر البحر من لبنان بشكل نظامي وآمن. إذ دفع السحماتي للغلاييني مبلغ 5000 دولار
على أمل أن يوفر له الأخير، رحلة نظامية عبر إحدى السفن الأوروبية إلى أوروبا، خلال
مدة لا تتجاوز العشرة أيام. ظل الغلاييني صاحب المكتب يماطل السحماتي مدة طويلة، استمرت
أربع سنوات، ثم تنصل له وانتهى الموضوع بـ"مالَك إشي (ليس لديك شيء) عندي".
لا يلتقي طالبو
اللجوء بالمهربين والسماسرة خصوصا في نقطة الانطلاق عند شاطئ البحر، فبحسب شهادة اللاجئ
سامر الأسعد، فإن "السمسار يحمل هاتفه المحمول، ويفتح ’مابس’ (خرائط) وهو لا يعرف
الطريق إلا على خرائط ’جوجل’، ويقول لك: ’جربلي هالنقطة بدك تعبر منها، وهوي بكون قاعد
ببيتو بيعمل حقل تجارب’".
تستمرّ رحلات طالبي
الهجرة أحيانًا إلى أسابيع، وهم في عرض البحر، وكثيرًا ما يضيّع سائق القارب وهو واحد
من اللاجئين وجهته في البحر، فينفد الغذاء والماء اللذين خُصِّصا لأيام معدودة، مما
يجبر ركّاب القارب ومنهم أطفال شرب ماء البحر المالح، بحسب شهادة اللاجئ عبد السلام
شحادة من مخيم نهر البارد. هذا إذا لم يتسبب الجوع والعطش في موت الأطفال قبل غرقهم.
كما لا تعني نجاة
اللاجئين من البحر خلاصهم، فقد تحتجز دول "المعبر" أي التي تعبر قوارب اللاجئين
من سواحلها مثل اليونان وقبرص، اللاجئين. وهناك يجري ما يُعرف في قاموس طالبي اللجوء
"التبصيم"، أي تبصيمهم على أنهم مهاجرون غير شرعيين، وبالتالي قد يجري احتجازهم
لشهور، وأحيانًا لسنوات في ظروف مذلة، قبل ترحيلهم. وكذلك لا يعني الوصول إلى دول
"اللجوء" المنشودة، الخلاص أيضًا، فكثيرًا ما جرى ضبط طالبي اللجوء من اللاجئين
وحجزهم، ثم إعادتهم إلى دول "المصدر"، أي بلد مصدر هجرتهم مثل لبنان، فقد
رفضت دول مثل بلجيكا وألمانيا طلبات لجوء تقدم بها لاجئون فلسطينيون من مخيمات لبنان،
وذلك بحجة أنهم قادمون من بلدٍ "آمن"؛ نعم، يُصنَّف لبنان كبلدٍ آمن!
عن الصمت
المفجع ليس في
هذه السيرة من الهجرة والموت الصامتين فقط، إنما في صمت الجهات المسؤولة فلسطينيًا
وعربيًا وعالميًا، تكمن الفاجعة. تخيّل ما الذي يدفع فلسطينيا لاجئا أو سوريا لاجئا
مثله، أن يمتطي لجّة البحر، وهو يعرف أن هذا الأخير قد يبتلع نصف أبنائه منه، وأحيانا
كلهم. هناك غير شهادة مأساوية لناجين شاهدوا أبناءهم وهم يختفون أمامهم من على وجه
ماء البحر إلى قاعه.
يهاجر بعض اللاجئين
عبر البحر صمتًا، دون أن يخبروا أهاليهم أو أيًا من ذويهم، لأن "الموت خلال الهجرة،
أفضل من الموت جوعا"، بحسب ما يقول محمد، أحد اللاجئين في مخيمات لبنان، والذي
يضيف: "لهيك، صار البحر أملنا الوحيد، لأني موت وأنا عم حاول هاجر، أفضل من إني
موت وأنا جوعان".
ليس العزل والعوز،
والفاقة والفقر، بالأمر الجديد على اللاجئين الفلسطينيينة في لبنان، إنما الجديد هو
في أن يجتمع كل ذلك بدون أي وعد سياسي ممكن أو مُحتمل لناحية سؤال قضيتهم وعودتهم التي
عاشوا على قيدها عقود طويلة. فالمخيم بلا هويته السياسية، يصبح جحيما بكل ما يعنيه
الجحيم من مصير. تظلّ مشقّة شقّ البحر المحفوف بالموت غرقا، أكثر رحمة بالنسبة للاجئ
من مخيم لجوئه في بلدٍ مثل لبنان. وذلك لأن المرء لا يُدافع عن شكل حياته فقط، إنما
يقاتل على شكل موته أيضا.
لا تتوفر إحصاءات
رسمية لعدد اللاجئين المهاجرين من مخيمات لبنان، ولا للباقين فيه، لأنه ليس هناك من
يكترث لإحصائهم أصلا. غير أن هذا الشكل المستمر من الفرار الصامت، يعني أن مخيمات اللاجئين
الفلسطينيين قد تختفي بعد عشر سنوات من لبنان، دون عودتهم إلى فلسطين.
المصدر: وكالات