القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

النكبة حية ترزق من المحيط إلى الخليج

النكبة حية ترزق من المحيط إلى الخليج

بقلم: نصري الصايغ

I ـ الجريمة المزدوجة

نستذكر النكبة فقط؟ النكبة ذاكرة راسخة، يضاف إليها من جنسها ولا شفاء منها. مقيمة في تاريخها وتاريخنا. تنغرز أكثر في الوجدان. لا تمحى من الحضور، برغم مؤامرات النسيان المتعمد، وتقاوم الحدث.

نستذكر النكبة فقط؟ النكبة مقيمة معنا. هي حدث تأسيسي للكارثة الوطنية والقومية والإنسانية. ولا تزال تستنزف منا الحاضر ومستقبلنا. محاولات الهرب منها فشلت. الرغبة في تجاوزها لم تتحقق. عمليات التخلص منها سقطت، فالنكبة تأسيس لتاريخ عربي لم يتوقف عن التداعي والسقوط... ومحاولات التحدي كذلك.

أسست النكبة لما بعدها: «إسرائيل»انتصرت وأقامت كيانها الاستيطاني الديني السياسي الثقافي في فلسطين، محققة في ذلك، «نبوءة هرتزل» الكاذبة، وشهوة الغرب المزدوجة وهي: التخلص من اليهود في بلادهم، وإعطاؤهم بلاداً ليست من بلادهم. كانت تلك، بعد السطو الأوروبي على القارة الأميركية، أكبر عملية سطو مباشر، في عز صعود الدول الديموقراطية وانتشار مبادئ العدالة والمساواة والتحرر من الاستعمار.

النكبة في معناها الإنساني، كبيرة الكبائر إنسانيا وجريمة الجرائم بشرياً: أعطى القتلة الأوروبيون الذين مارسوا القمع والاضطهاد والإبادة بحق اليهود، أرض فلسطين الفلسطينية لليهود، الذين عرفوا عصرهم الذهبي الوحيد، عندما كانوا أحد مكونات الحضور العربي الحضاري. يقول جاك أتالي، مستشار الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران، في كتابه «اليهود، العالم، المال»، لم يحظ اليهود بفترة ذهبية إلا عندما كانوا شركاء مع العرب. فلقد كانوا أسياد التجارة من قندهار إلى طنجة، وساعدوا جيش الخليفة عمر بن الخطاب على فتح الاسكندرية، وتولوا مناصب عليا في الدول الأموية والدولة العباسية، حتى أن قائد جيوش المسلمين في الأندلس كان يهوديا لثمانية عشر عاماً، وعلى يده هزمت الممالك المسيحية...

تصف الكاتبة الفرنسية فيفيان فورستر ما حصل في فلسطين بأنه كان تنفيذا لجريمة مزدوجة: جريمة اضطهاد وتنكيل وإبادة اليهود في أوروبا على أيدي أوروبيين، وجريمة تعويض اليهود على ما ارتكبه الغرب بحقهم من كيس الفلسطينيين. ومما تذكره الكاتبة في كتابها «Le Crime Occidental» ان الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، (دول الحلفاء) تلكأت في استقبال الناجين من المحرقة النازية، حتى أن دولاً أقدمت على إقفال أبواب هجرة اليهود الناجين إليها، برغم «الكوتا» التي كانت تسمح بعدد معين من المهاجرين إلى بلادها. ولا نجد دولة فتحت حدودها لفائض الناجين، بل ان بعضها قلّص العدد إلى حدوده الدنيا. كل ذلك حدث واليهود الناجون يقيمون في العراء الأوروبي، أو يتسللون إلى مراكب وسفن، علها تنقلهم إلى موانئ قريبة.

أوروبا التي نكلت وطاردت وأحرقت اليهود، طوال عهودها العنصرية المظلمة، ارتكبت جريمة منح فلسطين لليهود، تحت شعار كاذب: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».

النكبة في هذا المقام، جريمة غربية. مسؤولية أوروبية. النكبة هي أولاً: جريمة بدأت في وعد بلفور، وتستمر حتى اللحظة، في سكوت الغرب المطبق، ومعه العالم «المتحضر»، على توحش الاستيطان وبربرية الاحتلال.

II ـ الضحية المزدوجة

النكبة الفلسطينية ليست من تخاذل شعب فلسطين، ولا من تباطؤ الشعوب العربية، بل هي نتاج معركة هائلة استعملت فيها دول عظمى متفوقة، كامل طاقتها الديبلوماسية والعسكرية و«الأخلاقية»، لنصرة الباطل الصهيوني الفاقع والمعلن، على الحق الفلسطيني البديهي والطبيعي والمزمن.

لن نغسل أيدي الغرب، ومعه الاتحاد السوفياتي غير المأسوف على موته، لأن الدماء الفلسطينية والعربية ملء كفه وملء جسده حتى تخوم أنفاسه.

الفلسطيني ضحية مزدوجة للسياسات ما فوق الاستعمارية الغربية، ولمشروع الصهيونية ما دون الإنسانية.

من كان يظن أن الشعب الفلسطيني كان قادراً على منع تحقق المشروع الصهيوني، واهم جداً. قام الشعب الفلسطيني، منذ ما قبل وعد بلفور، بمقاومة الهجرات الاستيطانية اليهودية. قلما نجد عاماً فلسطينيا لم يشهد أحداثاً ومقاومة. في العشرينات استبسل. في الثلاثينات قاد عصيانا مديداً. في الأربعينات كابد وعانى وقاوم. وفي أيام النكبة، قاتل بما ملكت يداه. حقول فلسطين مروية بدماء الفلسطينيين. جبالهم مكللة بجهادهم ونضالاتهم. قراهم تشهد على تمسكهم بأرضهم. مفاتيح بيوتهم أقدس من أبواب السماء. والشهادة انتساب فلسطيني.

من يحمل العرب والجيوش العربية الوليدة والمؤممة والمحمية من قبل دول الغرب، مسؤولية النكبة، واهم ومشتبه. كان الغرب حاضراً بثقله الباهظ، في مصر الخديوي، وأردن الملك، ولبنان «اللا شرق ولا غرب». وحدها سوريا الضعيفة، ابنة سنوات الاستقلال الثلاث قاتلت وهزمت.

المعسكر الصهيوني كان خندقاً صغيراً في معركة خاضها الغرب كله، بريطانيا وأميركا ومعهما الاتحاد السوفياتي... من لا يحسب هذا الحساب يخطئ في التقدير وفي وضع الأمور في نصابها. النكبة ليست بسببنا بل بفعلهم... ولا يزالون على وعد بلفور أمناء حتى آخر فلسطيني.

III ـ مسؤولية الأنظمة الناطقة بالعربية

نستذكر النكبة كحدث مستمر، ولّد نكبات جساماً: نكسة الخامس من حزيران. معاهدة «كامب ديفيد» بعد حرب تشرين. نكبة احتلال بيروت. نكبة تحويل العمل الفدائي إلى سلطة فلسطينية. نكبة احتلال العسكر للأنظمة العربية.

هي أم النكبات، وويلاتها حية ترزق في فصول مآسينا العربية. ومسؤولية الدول العربية وأنظمتها الملكية والعسكرية هي في عدم الرد على النكبة، والاستعداد التام لها كأولوية، إلى جانب أولوية بناء دولة الاستقلال والديموقراطية والعدالة.

إسرائيل اعتقلت فلسطين وبنت دولتها الديموقراطية القوية، المستعدة للقتال دائماً، دفاعا عن نموذجها الذي اعتبرته حذوة تحتذى. الأنظمة العربية، فور اعتقال فلسطين، اعتقلت شعوبها، وبنت ديكتاتورياتها الفظة، واستعدت للتنازل عن فلسطين، مقابل حماية نظامها من السقوط.

إسرائيل منعت الفلسطينيين من حقهم بالقوة، أما الأنظمة العربية فقد اعتقلت الفلسطينيين في مخيمات الذل واللجوء، ومنعت عنهم السلاح، ثم منعت عنهم الحلم بفلسطين والعودة إليها، مدّعية أن طريق فلسطين تمر حتماً بانتصار الأنظمة والممالك. وبالفعل، فقد انتصرت على شعوبها وانكسرت، بلا معارك، أمام إسرائيل.

إسرائيل، جندت قواها الحية، الشبابية والنسائية. في إقامة دولة قوية بصيغة ثكنة عسكرية صناعية زراعية إنتاجية، وقاتلت على كل الجبهات وانتصرت، فيما تبرعت أنظمة الفشل العربية، في تلقين العدو دروساً خطابية تثير السخرية والشفقة.

النكبة أيضاً، هي الإبنة الشرعية لهذه الأنــظمة، التي لا يزال نسلها حــياً يــرزق ويتحكــم بنــا، معــلنا طلاقه مع فلسطين التـي لم يعد لها رب يحميها سوى المقاومة.

IV ـ أعمدة السقوط العربي

ثلاثة أعمدة قامت عليها «سيبة» العرب.

1 ـ سايكس ـ بيكو. كان جائزة فضلى لقوى التخلف والعشيرة والاقطاع والطائفية.

2 ـ وعد بلفور: وكان جائزة مسبقة لليهود ليقيموا دولتهم في فلسطين.

3 ـ النكبة، وكانت حدثا مفصليا تاريخيا، وضع العرب أمام التحدي الذي لا مناص منه.

هذه الأعمدة الثلاثة رسمت خريطة المنطقة: إسرائيل دولة قوية تتمتع بحماية دولية فائقة... دول عربية عاجزة عن إقامة أي وحدة أو تشكيـل أي منــظومة تعاون إيجابية (الجامعة العربية مشروع فاشل منذ ولادته) على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو العسكري. وشعوب عربية ممنوعة من أن تكون فلسطينية. وملزمة بأن لا تكون مواطنة في أوطانها الصغيرة. فكل دولة لها صاحبها، وأصحابها ليسوا مواطنيها.

وهكذا تأسست مشهدية العنف الدائمة: حروب إسرائيلية عربية. قمع إسرائيلي للفلسطينيين. قمع سلطوي للشعوب العربية. هيمنة وتسلط وحروب غربية.

إنها النكبة إذاً وهي لا تزال حية ترزق في مفاصل حياتنا السياسية والاقتصادية والأمنية.

لكن النكبة، برغم هولها واستدامة فعلها وتأثيراتها البليغة والشنيعة، فهي كانت المحفز لقوى المقاومة الفلسطينية والعربية واللبنانية.

الرد على النكبة متعدد ومتنوع. أحد فصوله الناجحة: المقاومة الفلسطينية بقيادة فدائييها، والمقاومة الفلسطينية الواعدة، فلا مفر من ذلك، خاصة ان فلسطين على وشك الدخول في التصفية.

أحد الفصول الحاسمة: المقاومة اللبنانية، والمقاومة الإسلامية، وحلفها الفلسطيني الذي بلغ طهران، التي باتت تعويضا لازماً لغياب النظام العربي الرسمي والمزمن عن فلسطين... إلا لتصفيتها.

V ـ التيه العربي

نقيض النكبة لا يكون بأنظمة نكبتنا وسياسات ألفتنا وثقافات هجّنتنا وإعلام طبّعنا وفتاوى خذلتنا... نقيض النكبة لا يكون بمفاوضات العدو مع نفسه أو مع من يشبهه أو يعينه وكيلا عنا... نقيض النكبة لا يكون بحروب كلاسيكية فشلت ثم خرست بعدما خسرت، ولا بتنازلات جزئية كان من حظنا أن إسرائيل رفضتها... نقيض النكبة لا يكون بقبول وضع اليد الغربية والأميركية على الملف الفلسطيني والجغرافيا العربية والتعويل على الـ 99 في المئة من الأوراق بيد أميركا... وللأسف، نقيض النكبة لن يكون الربيع العربي بقيادة «الأخوان» الذين أسرعوا في طلب الرضوان الدولي والاتكال على الله الأميركي وملائكته الموزعة في المؤسسات الدائنة... ما كان أحد يتوقع أن يكون وزير أخواني في واشنطن يتبرع بفلسطين في مبادلة في ذروة الظلم.

نحن في التيه العربي الممتد من المحيط إلى الخليج لولا: المقاومة في لبنان، والمقاومة في فلسطين، وحلف المقاومة العربي والإسلامي.

نقيض النكبة التي صنعها الغرب بأيدٍ اسرائيلية تأسيساً، وبأيدٍ عربية في ما بعد، هو العودة إلى اتجاه البوصلة: فلسطين. من يظن، انه سينجو من فلسطين، واهم. اسرائيل ستنتزع من كـل نظــام عــربي ما تريده، والبوادر كثيرة. شهيــة اسرائيـل، أبعد من فلسطين التاريخية. حلمها السياسي: امبراطورية صهيونية في سديم عربي بهيم... وهو كذلك اليوم.

ماذا بعد؟

أن تبقى النكبة في معناهـا التأسيــسي للانهـيار العـربي، هـو أن تكـون أصولياً فقــط في هذا التحـدي، إذ لا تسوية مـع الاحتلال الأصلي والاستيطاني. كل أصولية عدا هذه، مدانة مهما كان دينها أو أياً كانت عقيدتها.

المصدر: السفير، 16-5-2013