القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 22 تشرين الثاني 2024

النكبة في الرواية الفلسطينية... ساحة المواجهة والاشتباك

مصطفى بشارات

دلالات المواجهة الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين حملت أبعاداً استراتيجية على مستوى الصراع بين الطرفين والمنطقة والعالم. أبرز الدلالات تمثّل في المستوى العالي من التضحية والبطولة والصمود الذي أبداه الفلسطينيون في تلك المواجهة، وحالة الوحدة التي حققوها رغم كل معوقات الجغرافيا التي توزعوا فيها منذ نكبة عام 1948، وكل سياسات «الأسرلة» و«التهويد» التي أُخضعوا لها، ومعها جملة الجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية بحقهم.

حلول الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة الشهر الماضي تزامناً مع هذه المواجهة، جاء بدلالة هي الأكثر أهمية: على خلاف الأيام التي حلّت فيها الذكرى خلال الأعوام الماضية، كان التركيز في ذلك اليوم على المواجهات التي عمّت كل أنحاء البلاد، ولم ينشغل الفلسطينيون بـ «ندب» حالهم.

في ظلّ هذا التوحد على المواجهة، بدا المشهد كأنّ الفلسطينيين لم يواجهوا بعد أي نكبة، كأن فلسطين لا تزال كاملة، لم تتقسم إلى داخل وضفة وقدس وغزة وشتات. كأن الشعب الفلسطيني لا يزال كتلة واحدة، وكانت هناك صورة رقمية واحدة اقتصر الفلسطينيون على نشرها إحياءً لذكرى النكبة التي حلّت بهم قبل 73 عاماً. انقسمت الصورة إلى جزءين: في الجزء الأول، كتب المعلقون «15 أيار 1948ـ النكبة»، وفي الجزء الثاني كتبوا «15 أيار 2021 ـ النصر».

ربما؛ لذلك، يكتسي البحث في موضوع «النكبة في الرواية الفلسطينية»، أهميةً خاصة هذا العام، تنبع، تحديداً، من التحولات التي قد تطرأ على قراءة المختصين لهذا الحضور. وهذا ما بدا واضحاً من خلال لقاء أجريناه مع الروائي والإعلامي والأكاديمي أحمد رفيق عوض والناقد والأكاديمي نبيه القاسم.

فشل أنسنة العدو

أحمد رفيق عوض (1960) المولود لأب لاجئ من قرية يانون، والمسكون بقصص والده عن البحر «أيام البلاد»، إلى درجة أنه ألّف رواية بتأثير من هذه القصص أطلق عليها اسم «بلاد البحر»، يقول إنه ليس هناك روائي فلسطيني لم تحضُر في باله هذه النكبة، مستدركاً: «لا أريد أن أقول إنها فوق التاريخ بالنسبة لنا كفلسطينيين، لكنها كبرت جداً إلى درجة أنّ الوعي تجمّد هناك». يوضح أنّ نكبة عام 1948 تمثل «الحادثة التي توقف عندها تاريخ الإنسان الفلسطيني؛ بمعنى أنها جرح شخصي، من جهة، وجرح عام، من جهة ثانية. وبالتالي، فإن هذا الجرح لا يلتئم على الإطلاق (..) إنها نوع من الإهانة الشخصية لكل فلسطيني، وإهانة جماعية للفلسطينيين كلّهم». يفصّل عوض: «في عام 1948، تغيّر كل شيء، وإذا كان السؤال «هل هذا الكلام ما زال موجوداً في الرواية الفلسطينية الحالية؟»، فإن ردّي عليه هو أنه موجود وغير موجود؛ لأن الروايات الفلسطينية الأخيرة ـــ خلال السنوات الـ 15 الماضية ـــ تغيّر فيها النقيض/ الآخر/ الإسرائيلي، وأصبح الحوار يُجرى معه من جهات وزوايا مختلفة، تارة تحت اسم «أنسنة العدو»، وطوراً من باب «التطبيع»، وتارة ثالثة بمنطق «الخضوع للقوة»، ورابعة تحت دعوى إمكانية «التعايش» (..) لقد تغيّر هذا المحتل الذي كان يمثّل عدواً دائماً وأشبه بسبيكة واحدة مصمتة». إلّا أنّ هؤلاء الذين سعوا لـ «أنسنة العدو» لم ينجحوا في مرادهم. وفق عوض «لم يُعطَ هذا العدو المجال على الإطلاق حتى يتأنسن. لغاية الآن، مشروعه قائم على أنقاضنا؛ والمشروع الصهيوني بشكله الأخير يكشف عن أنيابه باعتباره ينفينا تماماً من المكان كلّه، بزعم أنّ هذا المكان يهودي ويجب الاعتراف بأنه يهودي، وأننا أناس غير معرفين، يعترف بحقوقنا الفردية وليس الجمعية. وبالتالي، فإن هؤلاء الأفراد الذين يؤنسنون هذا العدو، يواجَهون بكثير من الاعتراض والشجب. وأنا هنا لا أريد أن أعبّر عن رأيي الشخصي، لأنّ كثيرين عبّروا عن الرأي نفسه، لكني أعتقد أن هذه التوجهات في الرواية الفلسطينية أو العربية لا تلقى القبول الجماهيري؛ ليس لسبب فني في رواياتهم التي لا تفتقر إليه، لكن لسبب إنساني وثقافي».

«مذكرات لاجئ» أول رواية تناولت الموضوع

الناقد والأكاديمي نبيه القاسم قال بدوره إن النكبة الكبيرة التي وقعت للشعب الفلسطيني، هو أنه تُرك من الجميع، وبشكل خاص من العرب. «والمصيبة الأكبر أنّه ترك كل العبء والمسؤولية على الآخرين كي يقوموا بحلّ مشكلته، خصوصاً من قِبل الشعوب والأنظمة العربية، وهذا للأسف مستمرّ حتى يومنا هذا». يعتبر قاسم: «أن الشعب الفلسطيني، لو أخذ على نفسه، منذ البداية، أن يقوم بما يجب أن يقوم به لما كان حدث كل الذي حدث، ولما وقعت هذه المأساة الكبيرة». ويتابع: «هذا الجرح، عملياً، أثّر عميقاً، في الإنسان الفلسطيني، وتحديداً على من هجّر، أو قتل، أو فقد أفراد أسرته أو تشتتوا؛ وهذا يعني أن هذا الجرح لم يندمل وما زال موجوداً». لقد تناولت الروايات الفلسطينية التي كُتبت خارج الوطن المحتل، هذه القضية بشكل مؤلم جداً، مثل أعمال يوسف الخطيب وغسان كنفاني وآخرين، لكن في الداخل، يقول نبيه القاسم، إنّه بعد السنوات الأولى للنكبة «لم يكن لدينا رواية؛ والرواية الوحيدة التي يمكن أن تكون شبيهة بالرواية كانت بعنوان «مذكرات لاجئ» للمحامي توفيق معمر، رصد فيها الناحية التاريخية لما حصل في حيفا من عملية تهجير وقفت خلفها ممارسات بعض أبناء جلدتنا من خلال التخويف أو التشجيع على الهرب، كما أبرز دور الإنكليز في إذلال الإنسان الفلسطيني وإرغامه على الخضوع لسيطرة اليهود». يوضح القاسم أنه حتى سنوات الستينيات تقريباً «لم تكن لدينا رواية، بينما ظهرت النكبة خلال هذه الفترة في القصة القصيرة التي عالجتها بشكل رائع جداً، وتناولتها من جميع النواحي: الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والإنسانية، والاقتصادية، وعلى يد كتّاب تحدثوا عن ذلك في قصصهم: محمد علي طه، ومحمد نفاع، وزكي درويش، وإميل حبيبي، وآخرون». ويستشهد القاسم بـ «قصة «بوابة مندلباوم» لإميل حبيبي التي أثارت هذه الإهانة وهذا الألم الذي كان يعانيه الفلسطيني أثناء ذهابه لزيارة أهله أو الأماكن الدينية في القدس الشرقية قبل عام 1967 على الحاجز المقام على البوابة». ويتابع: «بدأت الرواية تعالج النكبة بشكل أكبر وأوضح في فترة السبعينيات، وكانت بدايتها في ثلاثية إميل حبيبي «المتشائل».

«مسار» أفنان القاسم

الروائي والأكاديمي والإعلامي أحمد رفيق عوض تدخّل هنا شارحاً: «عندما وقعت النكبة، تُرك الفلسطينيون في الداخل بدون نخب تقريباً؛ فمعظم المثقفين والزعامات أُجبروا على الهرب، والسيطرة الإسرائيلية كانت كاملة وفرض المنهاج الإسرائيلي، وبالتالي تم حصار الفلسطينيين، ومسألة الأدب كانت نوعاً من الترف، وطال الأمر حتى استوعبوا ما حصل، فكان الشعر الأقدر على التعبير. النثر يحتاج إلى تحليل وتركيب؛ لذلك تأخرت الرواية، بل النثر كله، عند الأهل في أراضي عام 1948 حتى السبعينيات. كذلك، لم تظهر الكتابة عن النكبة في أراضي عام 1967 وفي الشتات إلا بطريقة أيديولوجية، بمعنى أن البعثي والشيوعي والإسلامي كتبوا في هذا المفهوم، وبالتالي، فإنّ ما صدر من روايات عن النكبة حتى السبعينيات فيها كثير من الأيديولوجيا وقليل من الفنّ». وعن حقبة السبعينيات، يوضح عوض: «هناك كتّاب رائعون جداً، سواء في الخارج أو الداخل، كتبوا في تلك الفترة روايات تناولت تفاصيل التفاصيل عن لحظة النكبة، في وقت تعذّر فيه على الكتاب الذين جاؤواً لاحقاً، الكتابة عنها بالقوة نفسها؛ لأنه كان يصعب عليهم التحديق في تلك الكارثة أو المصيبة كما وقعت في الحقيقة». ويشرح: «برأيي، فإن أروع من كتب عن التهجير - أي لحظة النكبة - هم كتّاب الخارج؛ لأنهم كتبوها باستعادة متمثّلة، ومتأنّية لما وقع؛ لأن سنة 1948 بالنسبة إلى الفلسطينيين في المنفى سنة فارقة؛ لذلك كتبوا عنها الكثير الكثير».

ويتابع أحمد رفيق عوض: «في الداخل الفلسطيني، محمد علي طه، كتب كلاماً جميلاً عن هذه اللحظة، أتذكر أن لديه قصة تتحدث كيف كانوا في موسم حصاد القمح عندما حدث ما حدث. أما أطول وأعظم وأدق رواية فلسطينية عن النكبة فجاءت من فلسطينيي الشتات وحملت عنوان «مسار» لأفنان القاسم.

في المجمل، يقول عوض، إن «لحظة النكبة رُصدت في الرواية الفلسطينية، نعم هناك فروق في الكتابة، لكن أسأل، وهذا كلام مهم، هل تمت أسطرة ذلك؟ هل تم حمل هذه اللحظة الأسطورية للعالم؟ هل تم الاحتفاء بها عربياً؟ الجواب لا؛ لأننا نقاتل حركة صهيونية قوية جداً، تسيطر على المال والإعلام، هي من يؤصل ويؤيقن، ويصنع الأبطال أو يشيطنهم. وبالتالي، فإنّ لحظتنا المذهلة هذه لم يتم الارتقاء بها بتحويلها إلى فعل عظيم. كما أنّ أخوتنا العرب لم يعملوها قصة، بما في ذلك في السينما. وعليه فإن ما فعلناه نحن ـــ الفلسطينيين ـــ جميل ورائع، لكن لم يحتفِ به أحد كما يجب أو يستحق».

أعمال أخرى تناولتها

يستعرض نبيه القاسم روايات عدة تناولت موضوع النكبة: «رواية ليوسف الخطيب (عناصر هدافة) وصف فيها حالة الفلسطيني الذي يفقد كل شيء، حتى عندما تموت زوجته، لا يجد الكفن اللازم فتُدفن بثوبها، لكن عندما لا يعثر على بطاقة التموين، يضطر لنبش قبرها ليستخرج البطاقة فيجدها وقد تلفت. الرواية الثانية، التي تعتبر مهمة في تاريخ الرواية الفلسطينية في الداخل، هي «إلى الجحيم أيها الليلك» لسميح القاسم الذي تحول فيها من التعرض للموضوع العام الذي يشغل الناس، إلى مواجهة الآخر من ناحية فكرية/ أيديولوجية، واتّهم المحتل بأنه محتل، مغتصب، وقاتل، واستطاع أن يكتسب البعض من الطرف الآخر - اليهودي - إلى جانبه. حتى إنّ المرأة اليهودية التي صوّرها في الرواية، وهي في الحقيقة رود ديان زوجة موشي ديان الجنرال الإسرائيلي المعروف بعدائه للفلسطينيين، أصبحت تنحاز لليسار. في المقابل، هناك روايات في السنوات الأخيرة، تحاول أن تستعيد التاريخ ولحظات النكبة، ومن الأمثلة على ذلك: رواية محمد علي طه «الغزلان» التي تحدث فيها عن لحظات الهزيمة والترحيل من بلده «ميعار» واللجوء إلى الجليل، ومن ثم إلى لبنان والعودة لاحقاً إلى بلدته، وما قاساه من آلام هو وأبناء أسرته وموت أخته في الغربة.

وهناك رواية «المنحوس» لسهيل كيوان التي وصف فيها ما حدث للبلاد قبل النكبة وبعدها، كما عرض ما عاناه الفلسطيني من معاناة وإذلال على يد الآخر، ثم بداية التمرد، وبعدها بداية المواجهة». هنا يستخلص نبيه القاسم إلى أنّ «الرواية في الداخل لم تبكِ ما حدث، بل انتقلت إلى مواجهة الآخر، مرة بالعنف، ومرة بشكل أيديولوجي، ومرة بالموقف (..) لو أخذنا رواية «المتشائل» لإميل حبيبي، وبالرغم من الكثير الذي قيل عنها، إلّا أنها الطرح الصريح الذي قام به إميل حبيبي لوضع الإنسان الفلسطيني في النكبة وما جرى له بعد ذلك بعشر سنوات، وكيف أن هذا الإنسان، وفي وقت كان يعاني فيه ذلاً كبيراً من المحتل الجديد، استطاع أن ينجب ولداً هو «ولاء» كبر وأصبح فدائياً. وهذا يعطينا الأمل بأن المستقبل هو للفلسطيني». ويتابع قاسم: «في معظم الروايات التي صدرت في السنوات العشرين الأخيرة، نلحظ تجدّداً لدى الكاتب الفلسطيني، إذ لم يعُد يبكي على ما حدث وإنما يحاول أن ينقد ما حدث وأن يقف على بعض النقاط المهمة التي يرى ضرورة إبرازها ومن ثم ينتقل إلى مواجهة الآخر وتحدّيه (..) هذه الأمور تركت أثرها في الطرف الآخر»، مشيراً إلى أنه كتب عن روايتين لكتاب يهود نجد فيهما هذا التأثير الكبير للمواقف الفلسطينية على الفكر اليساري لكتاب يهود.

الرواية الأولى، يقول القاسم، هي «جدار حي» عالجت فيها الكاتبة اليهودية قضية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وحوت قصة حب بين فتاة يهودية وشاب فلسطيني من الضفة تعرفا إلى بعضهما في نيويورك، إلّا أن الفتاة ظلت على موقفها «أنتم في الضفة ونحن في الداخل/ إسرائيل» ولا مكان للقاء الكامل، حتى إن الكاتبة جعلت الشاب الفلسطيني يغرف في بحر يافا الذي يعتبره بحره بينما اليهود يعتبرونه بحراً لهم.

كان تعليقي على الرواية، يقول الناقد والأكاديمي نفسه، بأن «هذا الحلم بالسلام بين الشعبين من المستحيل أن يحدث»، ويضيف: «هذا ما نجده أيضاً في آخر رواية لمحمد علي طه «دوار العز»، إذ يؤكد أن التعايش بين الشعبين مستحيل أو شبه مستحيل بسبب طبيعة الفكر الصهيوني الذي يرفض أن يعترف بالفلسطينيين كشركاء حتى في عملية سلام؛ لأن هذا الفكر يعتبر أن السلام أكبر خطر على دولة إسرائيل».

روايات الجيل الثالث

يعرّج أحمد رفيق عوض على روايته «بلاد البحر» لارتباطها العميق بموضع النكبة، قائلاً إنّه كتبها من أجل الاحتفاء بذكرى والديه. يضيف: «هذه الرواية عن النكبة ولكنها عن أرض فلسطين الباهظة الثمن وشديدة الحضور (..) أنا كتبتها بدون فواصل، بدون عناوين، كتبتها مرة واحدة، كتبت عن أسماء العصافير والورد والحجارة وقطع الأرض والأساطير، عن الماء وجداول الماء والروائح والأساطير، عن الشمال ودير الأسد وفسوطة وسهل الروحة وقاقون وكفر قرع والسنديانة (..) أنا كتبت عن بحيرة طبرية قبل عام 1948، وعن كل ما يمكن أن يقال عن هذه البلاد الغريبة/ العجيبة». ويتابع عوض: «أنا ابن الجيل الثاني للنكبة، وبالمناسبة أبناء هذا الجيل ومعهم أبناء الجيل الثالث يكتبون عن النكبة بطريقة أكثر عمقاً، وأكثر حفراً، وأكثر تحليلاً لما جرى» موضحاً أنه، و«على العكس من الرواية الصهيونية التي تغيرت فأصبح الصهاينة ينقضون أنفسهم «ويحفرون تحت حالهم» فإننا، نحن الفلسطينيين، تحولت النكبة لدينا كحجر أساس في وعينا باتجاه تجاوزها».

كما أوضح عوض أن هناك اتجاهين روائيين فلسطينيين في تجاوز النكبة: اتجاه غير صحيح وغير مقبول من وجهة نظري، واتجاه أقبله ويقول إنه حتى تجاوز النكبة هناك طرق محددة ومعروفة (..) لهذا السبب، فإن الجيل الثالث للنكبة جيل أقوى وأقدر وأهم ولديه قدرة على المواجهة والثبات، وهذا يفسر كيف انكسرت مقولة «الكبار يموتون والصغار ينسون»، فذكرى ما وقع ستبقى حاضرة في الرواية وغيرها».

وعن تفسيره لذلك، يقول أحمد رفيق عوض: «كلما ابتعدنا عن هذا الجرح النفسي زمنياً، يكبر ويحضر ويؤثر بشكل كبير جداً، وأنا أقول كمواطن وروائي ومشتبك مع كل ما يجري إنّ الـ48 تشكل بالنسبة إليّ تاريخي، من هناك يبدأ تاريخي، القومية الفلسطينية بمعناها الجزئي، كيف أحدد هويتي والجغرافيا الخاصة ببلدي ونفسيتي وثقافتي، تبدأ من عام 48، لأنه كان هناك، وقتها، نقيض رفسني خارج التاريخ، وخارج الجماعة، وخارج الكون». ويتابع: «الـ48 بالنسبة إليّ هي تعريف لكل شيء، للهوية الذاتية والجماعية للفلسطينيين، ومن لا يريد أن يعترف بذلك فهذا شأنه، أما بالنسبة إليّ، فإن الـ48 هي الحد الأول وحجر الزاوية».

الحدث... درامياً

يقول نبيه القاسم: «ما وقع عام 48 يستحيل على أي فلسطيني أن ينساه، ليس لأنه حدث كبير وهاوية عميقة جداً سقط فيها الفلسطيني، وإنما لأن الواقع منذ عام 48 وحتى اليوم لم يتغيّر، فما زال الفلسطيني يواجه التصلب والصلف والإذلال من قِبل "إسرائيل"، فالنكبة الفلسطينية لم تتوقف عام 48، بل هي مستمرة حتى اليوم، وما حدث أخيراً في الضفة والقدس وغزة والداخل، يؤكد على ذلك». ويضيف: «بالنسبة إليّ، فإن تحويل النكبة الفلسطينية إلى حدث درامي كمسلسل «التغريبة» وغيره، يمثل أمراً مهماً جداً يجب أن نشجعه وننتج أعمالاً درامية مماثلة؛ لأن الجيل الجديد الذي ربما لا يقرأ كما الأجيال التي سبقته، ستقدم له مثل هذه الأعمال الدرامية المعلومة وتحيي فيه المشاعر وتجعله يلتصق أكثر بما وقع لأبناء شعبه من مآسٍ عام 48 قبل أن يولد. وبالتالي يجب أن تظل الذاكرة الفلسطينية، ولدينا في الداخل الكثير من الأفلام التي تتحدث أيضاً عن نكبات غير تلك النكبة التي وقعت عام 48 يعيشها الفلسطيني ويعاني منها وتفعل فعلها مع الأجيال الجديدة».

بدوره، يختم رفيق عوض بأنّ الرواية الفلسطينية التي عمرها اليوم 100 عام، «عبّرت عن عدوها ونقيضها ومرّت بمراحل مختلفة، من الرفض المطلق، إلى ما نشهده اليوم من قبول مشروط (..) الرواية الفلسطينية التي بدأت ترفض المحتل من بداية القرن وأصبحت الآن تحاوره أمر نتيجة الانهيارات المختلفة، من أنظمة وأفكار ومجتمعات، وبسبب تغوّل الإمبريالية والفكر الصهيوني. هذا التغول أثّر في الرواية، ولكنها من أكثر الأسلحة الثقافية الفلسطينية تعبيراً عن الحراكية الفلسطينية، من نضج وجمال، وبالتالي فإنها فضاء جميل ورائع وحضاري للحضور والفعالية والمواجهة والاشتباك».

أما القاسم فيختم بأنّ «الرواية قامت عملياً بدور مهم جداً في ترسيخ آثار وأحداث النكبة لدى الأجيال الفلسطينية المتعاقبة وحافظت على إنسانية الإنسان الفلسطيني، ولم تكن عنصرية، بل كانت واعية لدورها في الحفاظ على الأجيال الطالعة بأن تذكّرها بما كان، ولكن مع إعطائها الأمل بأن المستقبل ليس أسود كما يعتقد بعضهم، وأن بإمكانه أن يتغير إلى الأفضل». يضيف: «صحيح أنّ هناك تغيراً في التعامل مع الآخر، إلا أن الوعي بدأ يظهر أكثر، ليس فقط في أن نتعامل معه بشكل آخر، وإنما أيضاً في الندية: لقد بدأنا من خلال روايتنا وغيرها ننظر إلى الآخر اليهودي بنديّة، نطالب بحقنا ليس من منة منه بل لأنه حق لنا، وأن نواجهه أيديولوجياً بفكره الصهيوني-العنصري، ونعلمه أن لدينا فكراً وأيديولوجيا يجب أن يقبله وأن يتعامل معه، وما بدأ يظهر في روايات السنوات الأخيرة بما يبشّر بالأفضل، حتى إنّ الرواية الفلسطينية بدأت ترقى فنياً وتأخذ اهتماماً أكثر وأكثر».

المصدر: جريدة الاخبار اللبنانية