الوفاء الفلسطيني/ الفلسطيني
طارق حمود/اسطنبول
قبل أيام أطلق فلسطينيو أوروبا حملة الوفاء لإغاثة الفلسطينيين اللاجئين من سورية إلى لبنان تحت مظلة المنسقية الأوروبية للعمل الإنساني لفلسطين.تضمنت الحملة زيارات ومساعدات وبرنامجاً ميدانياً وإعلامياً، وعادت الحملة إلى أوروبا حاملة تصوراً مأساوياً لواقع الفلسطينيين في سورية الفارين إلى الجوار، ومتهيئة لقادمٍ قد يكون أكثر مأساوية مما هو عليه واقع الحال اليوم، وحاملة معها نداءات الثكإلى والمعوزين لتعود لاحقاً محملةً بما يبث الأمل ويصبغ الواقع بغير لون الدماء والجراح. لكن المهم في الموضوع ليس في حجم ما قدمت الحملة، وإنما بقدر ما عكست من معاني التكافل والتكامل الفلسطيني الفلسطيني؛ فقد قُدّر لفلسطينيي سورية أن يحملوا المشروع الوطني بجزئه الأكبر لسنوات، كما قُدِّر لفلسطينيي الداخل في غزة مثل تلك المرحلة وكذلك الضفة والـ 48، وقبل ذلك كان فلسطينيو سورية مع الكمّ الأكبر من اللاجئين حماةً وحملةً للمشروع الوطني الفلسطيني لسنوات عديدة، واليوم يتبادل الفلسطينيون أدوارهم وفق معادلات زمانية ومكانية فيها من الاستثناء ما فيها. كان فلسطينيو أوروبا في جلّهم من مخيمات لبنان الذين واجهتهم نكبات الحروب والأزمات الداخلية العربية، ولاحقتهم في شتاتهم لتصنع لهم شتاتاً آخر حطّ بهم الرحل في أكثر من بقعة في العالم، منها أوروبا التي احتضنت القسم الأكبر منهم. فلسطينيو لبنان ـ كما غيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني ـ يدركون جيداً معنى المعاناة الفلسطينية خارج الوطن، بل ربما كانوا أكثر من عرف ذلك؛ لكونهم أكثر من مورست بحقه ويلات التهجير ومقدماته، وبالتالي حظي بنتائجه الأكيدة.هبّة فلسطينيي أوروبا جميعاً بلا استثناء عبّرت في ما عبّرت عنه عن أن شعبنا واحدٌ رغم اختلاف ظروفه وإمكاناته.بل وباختلاف توجهاته السياسية والفكرية، بدأ الفلسطيني في أوروبا يفكر بأخيه في سورية، في ظل الأحداث هناك كمن يفكر بأحد أفراد عائلته في مخيمات الأردن أو لبنان، تأكيداً لهمٍّ واحد ومصير مشترك.
طوال السنوات الثلاثين الماضية التي شهدت انتقال جزء كبير من الفلسطينين من مخيمات اللجوء إلى أوروبا بحكم ظروف مختلفة، بقيت صورة المخيم ومعاناته عالقةً في وعي الجاليات الفلسطينية في شتاتهم الجديد. لم تقلل الجنسية الأوروبية الجديدة والمريحة لقسم كبير منهم أو البحبوحة الاقتصادية من انتمائهم إلى المخيم الذي عرفوه مدرسةً ومدرّساً، فكان تعلقهم فيه يأخذ أشكالاً جديدة، منها السياسي والإغاثي والإعلامي، وقد لا يتسع المقام هنا لسرد عمق الكينونة الفلسطينية لدى هذا الجزء المهم من شعبنا، لكن يكفي للدلالة على ذلك القول إن فلسطينيي أوروبا باتوا الخزان الإعلامي الضاغط والرافعة السياسية اللافتة في تكوين الرأي العام تجاه القضايا الفلسطينية الطارئة مثل حصار غزة الذي تحركت لأجله سفن كسر الحصار من هناك، ومعها تحرك الإعلام ليصور أسطورة جديدة يخطها الفلسطيني من مهجره، وهي الصورة التي وقفت معها مخيمات لبنان بكل مآسيها وظروفها الصعبة موقف المنتمي إلى عناوين قضيته بفعل التكامل الاقتصادي الحاصل بين فلسطينيي أوروبا ولبنان. واليوم فلسطينيو سورية ليسوا إلا محطة في محطات الوفاء والتكافل والتعاضد مع إخوانهم في أوروبا، وهو دور يحمل في طياته أبعاداً أكثر من كونها اقتصادية وحسب؛ فالعلاقة ليست علاقة رغيف خبز أو سلة غذائية، بل هي مسألة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالعناوين الكبرى للقضية المتمثلة بالعودة وحقنا فيها، والأرض ومشروعنا تجاهها، والسياسة واستراتيجياتها المرحلية والنهائية.فلسطينيو أوروبا اليوم يتصدرون دوراً مهماً في تشكيل خريطة سياسية فلسطينية يصبح فيها الداخل والخارج مكونات متجانسة المضمون رغم اختلاف الظرف والشكل، ويرسم أهدافاً تسير وفق محددات وطنية فلسطينة بحتة، لا جغرافية آنية مرتبطة بالوجود الفلسطيني الحالي.وربما كانت العقلية الفلسطينية التي صقلتها الأحداث على مرّ عقود النكبة الطويلة وتنوع المأساة من مكان إلى آخر قد أوجدت عنصراً فلسطينياً نوعياً يتعامل مع معطيات مختلفة بذهنية منفتحة تتفق على هدف وطني عميق، ولو اختلفت سبل تحقيقه
الفلسطينيون في أصقاع اللجوء مارسوا أدواراً متميزة، وأسهموا في صناعة مشروع وطني، وكل مخيم أو تجمع في الدول المضيفة دفع فاتورة دماء واستقرار باهظة من أجل الوطن الذي ترسخ في وعيه.وكذلك فعل فلسطينيو الخليج العربي، وما زالوا، في تقديم كل ما بوسعهم لدعم ذلك الصمود. واليوم برز دور فلسطينيي أوروبا اللافت لإتمام الصورة الفسيفسائية للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين ودورهم الممكن والمطلوب في صناعة التحرير وإقامة كيانية فلسطينية وطنية. وعلى أبواب المخيمات الفلسطينية في سورية اليوم صرخات ونداءات بعد أن تحولت هذه المخيمات إلى ملاجئ جماعية لعشرات آلاف النازحين من الأشقاء في سورية، وبعد أن أضحت المخيمات وأبناؤها جزءاً من فاتورة الدم المهراق على جنبات الشام، صرخات أن مدوا يد العون لأهلكم، وأن انقلوا معاناة اللاجئين الذين طالما رفعوا مشروع الوطن وكانوا مكوناً رئيسياً من مكوناته.
أخيراً، إن التفات الفلسطينيين في أوروبا لمعاناة أهلهم من فلسطينيي سورية المستمدة أساساً من معاناة أهل سورية نفسها الذين كانوا الشركاء الفعليين في تصورنا لمشروع التحرير والمقاومة، هو جزء من ذلك التكامل الذي أسلفنا، ومحطة جديدة من محطات الفعل الفلسطيني في دعم حالة الوحدة الشعبية الفلسطينية على اختلاف الجغرافيا التي تحملهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المعاناة الفلسطينية في سورية لم تتجزأ عن معاناة الأهل في سورية، بل شكلت المعاناة الفلسطينية أحد تعابير التشكيل الاجتماعي الواحد بين الشعبين اللذين عاشا ظروف الحياة بحلوها ومرّها معاً طوال أكثر من ستين عاماً.
المصدر: مجلة العودة/ العدد 61/ شهر10/2012