اليرموك
والأكل على الغميض
بقلم:
علي بدوان
أعادتنا
محنة اليرموك لفترات زمنية ماضية، كانت ذهبية في مسار العمل الوطني الفلسطيني.
عندما كنّا نتناول الطعام في ظروفٍ إستثنائية أثناء خدمتنا الوطنية (خدمة العلم)
في الجيش وفي عموم فصائل العمل الوطني الفلسطيني، في مختلف نقاط العمل الساخنة
إبان الصعود الكبير للثورة الفلسطينية وللعمل المسلح، على خطوط التماس.
ومساء
اليوم المتأخر في الثامن والعشرين من أيار/مايو 2014 كنّا على موعد دون تواعد، ثلة من شباب ورجال
مخيم اليرموك من مختلف الفصائل الفلسطينية ومن المستقلين، على أحدى المراكز على
مداخل مخيم اليرموك، وبالتحديد في مركز منظمة التحرير الفلسطينية الذي بات يحمل مُسمى
(مركز النبلاء) نسبة لإسم المكان بالأصل. هذا المركز الذي يَبعُدُ عن بنايتنا
المُدمرة في مخيم اليرموك أقل من عشرة دقائق مشياً على الأقدام.
هي
لحظات في وقت طال وأستطال في محنة اليرموك، لحظات لها بُعدٌ قصصي درامي وتأريخي
غير مسبوق، سيكتب بتفاصيله عاجلاً ام آجلاً ليلخص بمحتواه نكبات الشعب الفلسطيني،
وليلخص في الوقت نفسه جبروت هذا الشعب المجروح والمقطع الأوصال بفعل ماحصل معه،
وتحديه الصعب للواقع المرير.
تلك
الجلسة، واحدة من متواليات ومتتاليات باتت تَسِمُ حياة الناس داخل مخيم اليرموك،
وخارجه لمن رمت بهم وقائع المحنة في مسارب وتشعبات تلخص مأساة الفلسطيني في كل
مكان.
في
تلك الجلسة، التي يُطابقها مئات الجلسات كل يوم داخل مخيم اليرموك وخارجه، تجسدت
وتتجسد الوحدة الوطنية الفلسطينية، حتى في ظل تباين الناس في تحليلاتها وفي
إستنتاجاتها. فــ (الحنية) و (العاطفة الوطنية الصادقة) تجمَع المُتسامرين على وقع
المحنة ... من حركة فتح الى الجبهة الشعبية القيادة العامة ومابينهما. هنا كان في
الجلسة الفتحاويين : أبو جهاد، محمود الشهابي (أبو عمار)، عارف لوباني (أبو محمد)،
بديع حمزات (أبو الرائد) وأخرين. وهنا كان أبو جمال أسعد، وأبو عماد التوبة من
الجبهة الشعبية القيادة العامة. كما كان صديق الأيام الصعبة الماضية جداً حسين طه
(آدم) من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... والأخرين من عموم التنظيمات، إضافة لعدد
من المستقلين، والشيخ الطبراني أبو عمر العمري.
الناس
والشعوب تسهر (للفرفشة) في مجالس مثيرة أو نصف مثيرة، وفيها الجوز واللوز والعنبر.
ونحن نسهر ونتسامر على وقع الهموم الوطنية على مقاعد مُتهالكة، وقد وحدتنا الآلام
والأهداف والعواطف الوطنية ... والآحلام بالحرية والعدالة وبعالمٍ أممي تنتهي فيه
أشكال الظلم والإضطهاد، وبوطنٍ أسمه فلسطين.
كان
أخونا أبو جهاد عضو حركة فتح، وفي تلك السهرة، قد إستطاع إنجاز (طبخة طعامٍ
ميداني) فاحت منه روائح طيبة على إمتداد المساحة الصغيرة المحيطة بنا. طبخة (عساكر
وفدائيين) مع مرقة اللحم التي وضع بداخلها مختلف أنواع الخضار الطازجة (فاصولياء +
بازلاء + جزر + بندورة + قطع صغيرة من البطاطا + مُطيبات)، فكانت طبخة سميكة توفر
الحد الأدنى من المقومات الغذائية للإنسان أو يُعرف بعلم الأحياء بـ (حاجات
الإستقلاب الرئيسية للجسم).
كما
كانت طبخة (لذيذة) شديدة الإستواء كأنها صُنعت على يد ملك المطبخ الشهير (الشيف
رمزي)، فنهبتها شهية الموجودين، ولم يتبقى منها شيئاً بالرغم من تناولها (على
الغميض) تحت ضوء مصباح خافت تحت الظلام الدامس على أبواب مخيم اليرموك الذي كان
يَضُجُ بالضجيج والأضواء ليل نهار.