بات عيش الفلسطيني في لبنان مرّا
بقلم: ماجد كيالي
تعامل الجيش اللبناني مع فلسطينيي المخيمات، التي باتت بمثابة معسكرات اعتقال، وأماكن لامتهان الكرامات، لم تعد مقبولة، وهي تذكر بالممارسات التعسفيّة واللا إنسانية التي كان ينتهجها 'المكتب الثاني'، إزاء اللاجئين، في مرحلة سبقت صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان.
قصة مخيم نهر البارد ليس لها علاقة بالسلاح الفلسطيني في المخيمات، والطفل الذي قتل في المرة الأولى لم يكن مسلحاً، إلا بدراجته الهوائية. وبالمثل فإن الشاب الذي قتل في اليوم الثاني لم يكن يحمل سلاحاً البتّة، وإنما كان مجرد مشارك في مسيرة تشييع الطفل الذي قتل في اليوم الأول إلى مثواه الأخير.
وللعلم فإن هذا المخيم، أو ما تبقى منه، منزوع من السلاح، منذ خمسة أعوام (2007)، بعد المعركة الهوجاء التي شنّها الجيش ضدّ ما يسمى تنظيم "فتح الإسلام"، والتي نجم عنها تدمير ستة آلاف منزل فيه، ومصرع أربعمئة من سكانه، وتشريد معظمهم؛ وهؤلاء ما زالوا يكابدون العيش في ظروف "سكن" صعبة، في انتظار الوعود بإعادة إعمار المخيم. ولعله من الأصل لم يكن ثمة داعٍ، وقتها، لكل هذا القتل، وهذا التدمير في المخيم، بل إن ثمة ما يدعو للتشكيك في كل ما حصل، آنذاك، وبمراميه الحقيقيّة، لاسيما إذا علمنا أن تنظيم "فتح الإسلام" لا يمتّ بصلة الى الكيانات السياسية الفلسطينية المعروفة، وأنه مجرّد تنظيم جرى تصنيعه، كما جرى تصنيع غيره من تنظيمات لبنانية أو فلسطينية، وفرضه على مخيم نهر البارد، من خلال تنظيم "فتح الانتفاضة" المعروف بعلاقته المتميّزة مع النظام السوري.
وللعلم، أيضاً، فإن هذا المخيم البائس أصلاً، والذي لا يصلح لعيش بشر، بات يخضع منذ تلك المعركة المشؤومة والمريبة لحصار مطبق من الجيش، بحيث يتم الكشف على بطاقات هوية الداخلين إليه والخارجين منه، وتفحّص حقائبهم وحمولاتهم، في ممارسات مهينة، وكأنهم يعيشون في سجن، أو تحت سلطة احتلال. القصد من ذلك التأكيد على أن ما حصل إنما هو قتل متعمّد وبدمّ بارد، وينمّ عن عقلية تستخف بحياة البشر، ومتحللة من أي قيمة أخلاقية.
مع كل ذلك فإنه من دون تحقيقات شفافة ومسؤولة وقانونية، ومن دون إرادة سياسية، من الصعب معرفة ما إذا كان ذلك حادثاً فردياً، وعابراً، أو أنه حادث مقصود وله استهدافات سياسية أكبر بكثير من مخيم نهر البارد، وربما من لبنان ذاته.
ومهما يكن فإن تعامل الجيش اللبناني مع فلسطينيي المخيمات، التي باتت بمثابة معسكرات اعتقال، وأماكن لامتهان الكرامات، لم تعد مقبولة، وهي تذكر بالممارسات التعسفيّة واللا إنسانية التي كان ينتهجها "المكتب الثاني"، إزاء اللاجئين، في مرحلة سبقت صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان.
اللافت أن هذا يجري في ظرف لم يعد فيه الفلسطينيون يشكّلون هاجساً امنياً بالنسبة إلى مختلف القوى اللبنانية، لذا ربما من الأجدى للبنان التعامل معهم على هذا الأساس، فقد انتهى زمن الكفاح المسلح الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، وفي لبنان وفي غيره، وبالنسبة لـ"فتح" و"حماس"، أما ما تبقى فليس له علاقة بالأجندة الفلسطينية، ولا بالكيانات الفلسطينية، وإنما هي مجرد استطالات إقليمية .
وفي المقدار ذاته فإن الفلسطينيين، في هذه الحال، ما عادوا يشكلون قوة يمكن احتسابها في معادلات صراع القوى السياسية الطائفية في لبنان، ما يفرض أيضاً الانتهاء من التعامل معهم على أساس إنهم قوّة مضافة إلى هذا الفريق أو ذاك.
أما بالنسبة للمنّ على الفلسطينيين عيشهم في لبنان، فالواقع يفيد بأن المخيمات التي يعيشون فيها، منذ ستة عقود، هي من معايير عديدة بمثابة علامة على ضعف أخلاقي في النظام السياسي اللبناني.
فهذا مخيم نهر البارد، مثلاً، كنموذج عن مخيمات لبنان، دليل على حياة البؤس والحرمان والتهميش التي يعيش فيها الفلسطينيون اللاجئون، فهو لا يصلح لعيش البشر، ويفتقد لأدنى الشروط الصحية، وهو عبارة عن متاهة من البيوت المتراصة، التي بالكاد ثمة ما يفصلها عن بعضها. ليس ثمة شوارع في هذا المخيم، فالشوارع فيه بالكاد يمكن أن تتسع لشخصين متجاورين، لذا فإن الشمس نادرا ما تتمكن من النفاذ إلى البيوت المتهالكة، والمستهلكة، والواهية. وهذه هي حال الهواء، أيضاً، لاسيما مع مجاري مياه معظمها مكشوف.
وكما أي مخيم آخر، فمخيم نهر البارد، أيضاً، على بؤسه وضيق مساحته، شديد الاكتظاظ، والعائلات تتناسل فيه. وتتناسل معها حياة الفقر الشديد، والحرمان الفاقع. مع ذلك فإن هذا المخيم لم يخل من الأحلام والآمال، فقد خرج من بيئته الصعبة هذه أجيال من الشباب المتعلم، الذين أضحوا أطباء ومهندسين وصيادلة ومدراء ومحامين وكتاباً وشعراء ومدرسين وعمالاً مهرة. لكن حتى هؤلاء لم يجدوا فرص عمل لهم في لبنان، بسبب القوانين اللبنانية، التي تضنّ عليهم بحق العمل، لذا فإن المحظوظ من كل هؤلاء هو من حالفه الحظ فأخذ تأشيرة إلى دولة خليجية للعمل، أو من حصل على فيزا للهجرة إلى دولة اسكندنافية أو غيرها في ارض الله الواسعة، التي مازالت تجد حاجتها في هؤلاء الشباب، أو من تلك التي عندها نوع من نزعة أخلاقية للتخفيف من حال البؤس في هذا العالم الظالم.
هذا يعني أن اللاجئ الفلسطيني في لبنان لا يكلف الدولة اللبنانية، ولا دافع الضرائب شيئاً، ولا ينافسه البتة في سوق العمل، بل انه مساهم نشط في الدورة الاقتصادية في لبنان بالنظر إلى أن عشرات ألوف الفلسطينيين، الذين أتيحت لهم فرص العيش في الخارج، يرسلون حوالات مالية إلى ذويهم الباقين في لبنان؛ والذين يتحيّنون بدورهم الفرص لمغادرة هذا البلد وعيش ما تبقى من حياتهم كبشر عاديين، وبدون منّة من أحد.
حقاً لقد بات العيش في لبنان بالنسبة للاجئ الفلسطيني يبعث على المرارة، فإضافة إلى الحرمان، ثمة امتهان، وقتل. ولعل هذه المرارة يمكن تلمسها في النداء الذي وجّهته فتاة فلسطينية ـ لبنانية (Zaynab Dika)، على صفحتها في "فيسبوك"، وقالت فيه:
"إلى كل لبناني ولبنانية، إلى رفاقنا وشركائنا في الفقر والحرية. مخيم نهر البارد ليس شاكر العبسي... كل ما نريده: فتح المخيم المحاصر من خمس سنوات على الجوار اللبناني... نريد مقبرة لموتانا وملعب "الشهداء الخمسة"... ولجنة تحقيق في قتل الولد، الذي عجزت الصحف اللبنانية "النبيلة" عن تحديد اسمه أو عمره أو نوع الدراجة الهوائية التي كان يلعب بها. نحن اللاجئين الفلسطينيين، بؤساء ولا نتعطّر جيداً ولا نكوي ملابسنا... ومنفعلون من غير سبب... وعصابيون... وملّ الناس شكوانا. نعرف ذلك، لكن اصبروا علينا. فنحن كأي موتى عاديين، نشعر بالصداع أحياناً، متطلّبون وشكاؤون ولنا احتياجات مضحكة... ولا نحبّ تصاريح الدفن التي يجبرنا حارس المقبرة على استلامها، كلما أردنا أن ندخل أو نخرج من مقبرتنا غير السعيدة...
أعطونا مقبرة لموتانا في المخيم، ولو تغيّرت الدنيا ذات يوم سنحمل رفاتنا ونعود".
المصدر: ميدل ايست أونلاين