بريطانيا.. أمّ جيمس بوند وعرّابة بلفور
بقلم: مزوار محمد سعيد*
في سنة سبعة عشر وتسع مائة وألف، ولد الوعد الشهير
الذي أقرّه اللورد بلفور من أجل اليهود "الصهاينة" وما يمثّله من إقرار لحق
ملكيتهم لفلسطين التاريخية، ومن يقرأ تلك الرسالة إلى اللورد روتشيلد، مهتما بالمضمون
والشكل، فإنه سيستنتج حتما تلك النبرة التي توحي برجاء قبول الهدية التي تمنحها المملكة
البريطانية لكل الصهاينة في العالم، إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
تعجبني المملكة البريطانية، بجمالها وحضورها
الإمبراطوري اللافت، برجالها العظماء، ونسائها الحديديات، بموروثها الثقافي-البحري
العابر للقارات، بأراضيها وصخورها العتيقة، بمبانيها الشامخة وكل ما ترتب عن ثورتها
الصناعية المتجذرة في العالم المعاصر وقبله العالم الحديث، إنها قوة تاريخية قبل أن
تكون ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى سياحية.
لكن ما فعله بلفور يبقى خارج كل هذا السياق الناضج،
فقد وضع هذا "الرجل" أولى بذور الشقاق في العالم المعاصر، تلك البذرة التي
نمت وأطلقت أغصانها السامة في كافة أرجاء العالم اليوم حتى وصلت سمومها إلى بريطانيا
ذاتها، لتضرب لندن ومانشستر.
من المعروف عن بريطانيا ذاك الرجل "الخارق"،
عميل مخابراتها الأنيق، فاتن النساء، وصاحب الألبسة والسيارات الفاخرة، الذي يحمل مسدسه
الفريد من نوعه، وأجهزته الصغيرة والمتطورة جدا، يجول العالم بحثا عن أعداء الامبراطورية،
وإن ما صادفهم قضى عليهم بذكائه قبل قوة حركاته الاستعراضية، هو مستعد لهدم مدن بأكملها
كالبندقية الايطالية، أو العاصمة المكسيكية من أجل زرقة عيون لندن: إنه العميل رقم
صفريْن وسبعة.
كل هذه القوة "الأنيقة" لم تستطع حماية
الطريق المؤدي إلى البرلمان البريطاني بـ: واست منستر، ولم تنقذ ضحايا مراهقين في حفل
موسيقي بمدينة مانشستر، ولم يسعفه الحظ من أجل العبث مع إحداهن مقابل معلومات تؤكّد
وجود تهديد "إرهابي" على أراضي إنجلترا سيضرب إحدى أنفاق قطاراتها السريعة،
والتي خلفت الكثير من الضحايا الأبرياء من مواطني بريطانيا، لقد فشلت أناقة السيّد
بوند ومهارته في مواجهة بذرة اللورد بلفور.
ضرب الإرهاب بريطانيا، ونحن نؤكد بأن هذا الوحش
الذي يقضم الإنسانية بشكل متسارع ودون تمييز هو مدان بكافة الشرائع والشعائر والمشاعر،
لكن علينا أن نفهم أولا علة العلل، حتى يتسنى لنا فهم البقية والوصول إلى الدواء، فما
معنى الإرهاب؟ ولما بلفور هو واضع أساسه؟
أ. من معاني الإرهاب:
الإرهاب هو من الترهيب لغة، ومعناه اخراج فرد
ما من حالة الأمان إلى دائرة التهديد، سواء معنويا أو بدنيا، ومن الناحية الاصطلاحية،
فالإرهاب هو تنفيذ اعتداء على فرد آمن دون وجه حق. والتاريخ البشري حافل بهذا النوع
من التصرّف، لعل الحروب تمثل أوضح صوره التي تتجلى للمتأمّل، فهو (الإرهاب) يمثّل جانبا
من الحرب الإعلامية المعنوية من جهة، ودفاعا عن النفس أو الوطن من جهة أخرى، بالطبع
حسب المبدأ الروماني القديم القائل: من أراد السلام عليه أن يستعد للحرب.
يلفت انتباهنا هنا أنّ الارهاب هو عملية منظمة
ومخطط لها ضمن نسق عدائي متكامل الحضور، يهدف إلى إهانة وتطويق الارادة الذاتية لكيان
بشري معيّن، مستعملا الخوف الذي يرتقي إلى درجة الرهاب، ومؤكدا على ثباته في النفسية
التي يتم ترهيبها عبر إثبات وقوعه بواسطة استدعاء الموت أو الألـم.
لا يمكن إذن ورود الارهاب ضمن حلقة الصدف، ولا
يمكن اعتباره قدرا محتوما على فئة ما من البشر، وإنما هو ظاهرة اجتماعية ثقافية ترسوا
على دعامة الشر في الروح البشرية باتجاه جشع السيادة على الآخرين عبر تخويفهم واذلالهم.
ب. بلفور عميد الارهابيين:
عندما أقرّ هذا اللورد البريطاني لزوم تأكيد
أحقية اليهود "الصهاينة" في إقامة دولة قومية لهم على أرض فلسطين، فقد أعطى
شرعية لهذه الفئة من البشر من أجل تملّك مكان لا يمتلكونه، ومن أجل امتلاك أمر ما على
الساعي إلى الملكية أن يحوز السيادة على ملكيته، وهنا بدأ الإرهاب كتنظيم.
من هذه الفكرة ولدت فرقة الهاغاناه (הגנה) كتنظيم مسلّح،
يهدف إلى إفراغ الأرض من أهلها، وصاحب الأرض طبعا لن يترك رزقه وأرض أجداده وأولاده
من بعده إلا إذا خاف وألقي في قلبه الرعب إلى درجة الرهاب، وهذا بالفعل ما قامت به
تلك الفرقة الإرهابية المسلّحة على أرض فلسطين.
وعند نجاح الهاغاناه في التحوّل إلى جيش
"الدفاع" الأكثر تنظيما وسطوة، برزت فكرة "الإرهاب" كتيّار فكري
فعّال في خدمة السياسة، فقد منح عنصرا أساسيا لدولة جديدة، ألا وهو: الأرض، وقد بدى
هذا النجاح واضحا في سنة ثمانية وأربعين وتسعة مائة وألف، حين تم إعلان قيام دولة
"إسرائيل".
بعد نكبة فلسطين انتشرت فكرة بلفور الإرهابية
في كافة أرجاء العالم، ولقد بدت واضحة بعد الحرب الباردة على أراضي أوروبا الشرقية،
لتفوز السياسة مرة أخرى بواسطة الإرهاب، بل تعدّت كل الحدود لتصل إلى بريطانيا عينها
في مواجهة الجيش الإيرلاندي المعارض لقصر لندن، وعلى الرغم من عدم فعاليتها على الأرض
البريطانية حتى الآن سياسيا لوجود بوند "بلير"، إلاّ أنها نجحت في نيويورك
ومومباي، في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وكل أرجاء العالم، في حين أنّ البشرية لا
تزال تحصد ويلات بلفور بسقوط الضحايا كل يوم، وإقامة المآتم كل حين.
* أكاديمي وباحث جزائري
المصدر: مدونات الجزيرة