القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

بعد سبعين عاماً على النكبة بقايا قرية «الناعمة» تنتظر العائدين

بعد سبعين عاماً على النكبة بقايا قرية «الناعمة» تنتظر العائدين
أبو علي موسى: «لو كتبت لي العودة إلى الناعمة سأدلّ كل واحد على بيت أهله»


محمد السعيد *

لتلك القرية هناك خلف تلك الحدود المرمية في داخلي والتي لم أرها سوى في مخيلتي وعبر وصف جدي وجدتي لها.. ألف شوق وحنين متأصل جارف في عروقي ودمعي ودمي، يسري معي بكل شهيق وكل زفير، بكل حرف ألفظه وأنطق به وأحدث به، يجعلني أتأمل سلاحي بين يدي دائماً، ألمعه.. أنظفه، أفككه، ثم أخفيه تحت سريري.. لا، السرير لا يليق بمقامه، فأنقله إلى ذلك المسمار، وأعلقه، وانتظر يوم الملحمة الكبرى، عسى أن أكون أو يكون أحد أولادي أو أحفادئ من اولئك الشهداء..

هناك في قريتي الفلسطينية الممحوة المنسية تركت خطو الجدود فوق ذلك التراب، عند ذلك الزيتون ضاحكاً خالداً في تلك القرى الكئيبة.. لا أعلم كيف تعلّمت يا فلسطين المكلومة أن احن لك بصوت حزين مبحوح مكسور؟ لا أعلم لماذا وكيف علّموني ذلك؟ ونطقته لأول مرّة وأنا أتأمل زواريب المخيم المنفي الشائكة الضيقة، وفي دموع وعرق أمها وقتها لمحت ملح ترابك، وأسى امرأة اقتلعت من جذورها ورميت عنها بعيداً، تدفع لخارج الوطن دفعاً وتعيش باقي العمر مثل وليدها تنتظر وتحتن وتنتظر.. وتشتاق إلى قرية الناعمة..

الناعمة

قرية فلسطينية تبعد 26 كيلومتر شمال شرق مدينة صفد، أنشئت الناعمة في سهول غور الحولة الشمالية على ارتفاع 80 م عن سطح البحر ويجري نهر الحاصباني شرقها على بعد نحو 1,5كم، ويمر وادي البريغيث (الدردارة) على بعد 1,5 كم من غربها. ومساكن القرية متباعدة. وقد كان فيها 174 مسكناً في عام 1931. وفي عام 1945 بلغت مساحة القرية 112 دونماً فكانت في المرتبة الثانية بين قرى قضاء صفد. وفي العام نفسه بلغت مساحة أراضيها 7,155 دونماً استملك الصهيونيين منها 2,414 دونماً، أي 33,7%.

كان في الناعمة 858 نسمة من العرب في عام 1931، وارتفع العدد إلى 1,030 نسمة في عام 1945(وهي بذلك في المرتبة الثامنة بين قرى قضاء صفد).

ضمت القرية مدرسة ابتدائية للبنين، واستخدم السكان مياه الأنهار والقنوات في الشرب والأغراض المنزلية، واعتمد اقتصاد القرية على تربية الماشية والزراعة  وافتقرت إلى الأشجار المثمرة.

شرد اليهود سكان القرية العرب ودمروها في عام 1948. وكان يهود هاجروا من البلقان قد أسسوا 1940 المزرعة الاختبارية (نعماه) أو "مشك شوارتز” على بعد 1,25 كم جنوبي القرية.

أخليت الناعمة من سكانها في أثناء عملية يفتاح وكان من أهم أهداف هذه العملية السيطرة على مدينة صفد.

مع ذاكرة العجائز

في هذه القرية أرى أطيافها تعبر كما كلّ عصر، تنتقل، تتجاور، وتروي العجائر درر حكمها، وتقهقه الصبايا سراً، وتسر همساً اخبارهن واحاديثهن. جلست بالقري من جدي أبو علي موسى (80 عاماً) طلبت منه الحديث عن القرية فرفض في بداية الأمر. وقال خليني بهمّي!

سّره الأمر وبدأ بالحديث واصفاً البلدة شبراً بشبر، وعدد العائلات جميعاً دون نسيان أحد.. وتحدث عن طفولته ولعبه مع أقرانه وأصحابه من أبناء البلدة، كانوا ينصبون الأفخاخ لصيد العصافر ودجاج الأرض، وكان من أشهر الطيور التي يصطادونها طائر اللّبد.

تحدث عن الأفراح التي كانت تقام في البلدة، سبعة أيام بلياليها، كانت تشركنا القرى المجاورة، ندعوها لحضور العرس. وعندما كان ينسى العريس دعوة القرى المجاورة، يقوم شباب القرية المجاورة بخطفه كي لا تتم حفلة زفافه.

الوسيلة الوحيدة التي كانوا يتسلون بها في سهراتهم – كما قال – هي الحكايات التي كان يرويها لهم الحكواتي في البلدة، بالاضافة الى الأغاني الزجلية التي كان يتبارى بها الشباب.. ولا ينسى جدي العبد موسى رحيّل الذي استشهد وهو عريس جديد أيام النكبة والتهجير الذي حصل عام 1948.

قال «يا ريت يا جدي نرجع على فلسطين وعلى قرية الناعمة لأن كل شي فيها حلو وطيب، حتى الخضرة اللي كنا ناكلها فيها بركة، كانت تصير لحالها بدون مواد كيماوية، وهو قليل هاي الأمراض التي عَتِمرضها الناس من ورا المواد الكيماوية الي بيحطوها. يا ريت يا جدي أعيش بخيمة بأرضنا، الي بعربها شبر شبر وكل حبة تراب فيها. وإذا الله كتبلنا ونرجع بدللي كل واحد مات أبوه واقلّه هين كان بيتكو. يا جدي اليهود كانوا ضعاف بس العرب تآمروا علينا».

ايتها الغالية النفيسة الحبيبة أما آن الأوان أن أرجع قبل أن يصدأ المفتاح، لتلك الدار وتلك الحقول؟ إيه يا قريتي اشتقت للفرح الحقيقي بعيداً عن قيود الغربة والمنفى والشتات واللجوء والحرمان. لا أعلم إلام سأظل أنتظر عودتي وكم سأظل أسأل؟ لكني ألمع سلاحي.. أتشبث به وانتظر اليوم الذي استعيد فيه شعاع المجد وطعم الفرح عند تلك السفوح.. قريتي في بلدتي. ونعود لنزرع فيك زقزقة العصافير وصحكات الفطولة.

* مدير شبكة «لاجئ نت»