بقلم:
حلم لم يتحقق
بقلم:
زياد شتيوي
نعرفها
في المخيم، كبيرنا وصغيرنا، هي ام الجميع :حنونة وطيبة ومناضلة... ولسانها «فالت ع
الآخر». تراها دائماً متشحة الكوفية الفلسطينية. حيناً تعقصها بشعرها الذي غزاه
الشيب وأحياناً تجعلها كوفية تتلثم بها لتتشبه بليلى خالد التي تعشقها كما تقول،
المثل الاعلى لكل فلسطينية
البارد
| دائمة العبوس إلا عندما امازحها. ولمزاحها طعم ولون آخر. كانت من النسوة القلائل
اللواتي عندما تلتقيهن تشعر انك في فلسطين . لكنتها، لباسها، طيبتها... لا تترك
مناسبة وطنية الا وتكون في المقدمة. تهتف، تطلق الزغاريد في تشييع شهيد او مهرجان
او مناسبة وطنية او حفل.
اتعمّد
أحياناً كثيرة ان اتحرش بها لتسمعني بعض «المسبّات من الزنار ونازل». تعوّدت سبابها.
استدرجها اليه أحياناً كثيرة لأسمع سخطها وغضبها على واقعنا المرير. إبان نكبة
البارد رفضت الخروج من المخيم لوقت طويل. بقيت في بيتها، لم تغادره رغم الخطر
المحدق. كنت اثناء مكوثي في المخيم انتهز فرصة توقف القصف لاطمئن عليها فاجدها في
البيت كأن شيئاً لم يكن. عبثاً حاولت مراراً ان اقنعها بالخروج مع اول سيارة، إلا
ان محاولاتي جميعها باءت بالفشل. كانت تقول لي: «مفكرني مجنونة؟
ولك
يا اهبل يا ابن الهبلة (تقصد والدتي) هيك لما طلعونا من فلسطين قالولنا يومين
وبترجعوا... وهاي صرلنا سنين وما رجعنا. بدك اياني اصدق انو رح ارجع على بيتي؟ وان
شالله مفكر اني بصدق السنيورة وغير السنيورة؟»
لم
تغادر حتى عنف القصف واستشرس واقنعها كثيرون بضرورة ذلك. لم التق بها ابدا طوال
فترة النزوح القسري حتى ظننت انها توفيت.
لكني
التقيتها بعد العودة الى المخيم بوقت طويل. كانت قد نزحت الى احد مخيمات الجنوب.
كنت اتحاشى لقاءها لانني توقعت انها سوف «تغسلني غسيل»... الى ان التقيتها صدفة في
اعتصام اقيم للمطالبة باعادة العمل ببرنامج الطوارئ في وكالة الأنروا. وما ان
لمحتني حتى تدفق «سيل الكلام المهذب» وانهمر علي كالمطر، حاولت الاختباء إلا انني
لم افلح، لحقت بي وامسكتني «لوين هارب يا ....»! أما أنا فكنت «فارط من الضحك»
كصبي فاجأته والدته متلبساً، احاول ان اتخلص من يدها. الا انني ادركت في النهايه
انه لا مجال للهروب. جلست بجانبها. حاولت ان اسكتها بسيكارة اشعلتها لها، لكن
السيكارة لم تشفع لي. اخذتها ثم وضعتها في فمها وعضت عليها باسنانها ولسانها ما
زال يرغي ويزبد و«بتقنعني يا… اني اطلع؟ هاي طلعنا شو صار فينا؟ وهاي المخيم صرلو
كم سنة وبعد لا اعمار ولا شحار . المصاري نهبوها الحرامية، ويعلم الله عالعايش
بشوف بيتي ولا لأ» تقصد في البارد.
ثم
أكملت الموال «ولك الله لا يوفقهن كل حدا تآمر علينا وطلعنا من بيوتنا فارعين
دارعين. والله بعد شوي كنا طلعنا بالكلاسين. اه وليش لا ما احنا طلعنا بالبيجامات
وقمصان النوم هي وقفت عالكلسون؟ وقال شو؟ اطلعوا يا عالم وبعد ما نقضي على هالعصابة
رح ترجعوا سالمين غانمين على بيوتكو. وبعدنا ع الوعد يا سنيورة: طار السنيورة وغط
سنيورة تاني وتالت ورابع وبعدنا تيتي تيتي متل ما رحتي جيتي. ويا ريت وقفت على هيك
وبس، هيانا مشحشطين من زاوية لزاوية ومن بيت لبيت. الله يوقف اللقمة بزورهن يا رب.
وهيانا
ما حدا سألان علينا لا حكومة ولا انروا. ومش بس هيك قال بدها تقطع الاغاثة
والايجارات. الله يقطع كل واحد ابن حرام. وبدي احلف انو هالانروا متآمري علينا حتى
يزهقونا ويطفشونا ولك يا عمي وين بعد بدنا نروح؟ يا حرام علينا شو صار فينا بس
تخافش يا ابني الله كبير، زي يوم النكبة الكبيرة يوم ما تآمروا علينا وطلعونا من
بلادنا قال شو يومين وبترجعو وهاي صرلنا 66 سنة واحنا ناطرين.
ولك
اسمعها كلمة مني وقول هاي المرا خرفانة: وين في فلسطيني بأي بلد عربي هوي مستهدف،
بدهن يخلصوا من قصة اللاجئين. بس بعيده على رقابهن، بدنا نضل متمسكين بحقنا
بفلسطين من النهر للبحر، والي بدو غير هيك يروح (مسبة يعاقب عليها قانون
المطبوعات)!».
كان
لكلامها وقع كبير في قلبي حتى انني لم احاول مقاطعتها الا لأخفف من شدة تأثرها
وحزنها. لكننا عدنا ايتها الام. عدنا بتصميمنا على العودة الى المخيم الذي هو محطة
على طريق العودة الكبرى، عدنا يا ام كمال رغم الالم والمعاناة والصبر والنضال، رغم
الجراح عاد المخيم من جديد، رغم كل الصعوبات التي ما زالت تعترض طريق اعماره.
لم
يطل الوقت على لقائي الاخير بها حتى صحوت على صوت المسجد القريب من مكان سكني
الموقت الذي اصبح بفضل الوعود والعهود دائماً وأبدياً، واذ بالمسجد ينادي صباحاً
ان انتقلت الى رحمة الله اختكم... ام كمال. يا الله! رحمتك غادرت هذه الدنيا ولم
تكحل عينيها مرة اخرى ببيتها الذي اعيد اعماره من جديد.
غادرت
وفي قلبها غصة: لا هي عادت الى فلسطين التي حملتها في قلبها طوال سنين النكبة ولا
الى بيتها الذي وعدت بالعودة اليه في المخيم القديم. غادرت، لتبقى لعناتها لتلاحق
كل من كان سببا في معاناتها. غادرت وما زال حلمها بالعودة ينتقل منها الى ابنائها
يعيش في قلوبهم..لربما يتحقق على ايدي احفادها قريباً.
لطالما
عُدّ مخيم نهر البارد بالنسبة إلى الفلسطينيين، منطقة سياحية. إذ إنه المخيم
الوحيد الذي يحده نهر البارد شمالاً، والبحر غرباً. أُنشئ المخيم عام 1949، بعدما
اختارت الحكومة اللبنانية المنطقة كمكان مؤقت قبل تهجير الفلسطينيين إلى سوريا. في
عام عام 2007 اندلعت اشتباكات بين مجموعة فتح الإسلام والجيش اللبناني. استمرت
المعارك لثلاثة أشهر، دمر خلالها المخيم. بعد مرور 7 سنوات لا يزال الإعمار
جارياً، ولم تُنه الأونروا إعمار ما وعدت به، متحججة بعدم وجود مال كاف لذلك.
المصدر:
الأخبار