بين النكبة والنكبة.. ثمة
مشترك
طارق حمود - لندن
مع الذكرى الخامسة والستين
للنكبة، ثمة نكبة أخرى بشكلٍ جديد، وقاتلون جدد، مارسوا ممارسات أسلافهم عام 1948 فحاصروا
وقتلوا وشردوا وارتكبوا المجازر بأبشع صورها، لم يتسن للاجئين الفلسطينيين بعد أكثر
من ستة عقود أن يعيشوا حياة استقرار ولو نسبية،
ودخل اللاجئون مراحل مختلفة عبر مسيرة الصراع مع الاحتلال، إلا أن محطات الصراع الداخلي
عربياً ألقى بظلاله على واقعهم أكثر من غيره، فمن محطة الأردن وأيلول الأسود عام
1970 – 1971 ومارافقها من تجديد للنكبة الفلسطينية من خلال ما ترتب عليها من تشريد
جديد، إلى محطة لبنان وحربها ?انزلاق البندقية الفلسطينية في آتونها لأكثر من عقد من
الزمن، وما خلفته من ضحايا على كافة الصعد، ثم محطة حرب الخليج، وغزو العراق للكويت،
وما ترتب على موقف منظمة التحرير الفلسطينية المؤيد للغزو من تبعات هجّرت مئات آلاف
الفلسطينيين من دول الخليج، مترافقة مع خسائر اقتصادية كارثية في واقع اللاجئين الفلسطينيين،
إلا أن الأخطر كان مع ولوج المنظمة عملية التسوية السياسية، وما خلّفته من تجاهل وتهميش
لقضية اللاجئين الفلسطينيين، إذ جعلتهم عرضة لتعسف الأزمات العربية أكثر من السابق،
وهو ما لمسناه حين تعرض فلسطينيو العراق ?لقتل والتهجير والإرهاب الطائفي والشعوبي،
ثم مأساة نهر البارد في لبنان، وتهجير سكانه حتى اليوم. إلى أن وقعت المأساة في مساحة
كانت تعد حتى وقت قصير النموذج الأفضل للتعامل مع الفلسطينين اللاجئين في الدول العربية،
وفقاً لبنود بروتوكول الدار البيضاء الصادر عام 1965 عن وزراء الخارجية العرب، إذ فقد
فلسطينيو سورية وضعهم المسمى، وبعد مرور 65 سنة على نكبتهم، هاهم يسطّروا نكبة جديدة،
في ظل غياب كامل للتمثيل الرسمي الفلسطيني، وهو ما يزيد من المأساة، ويجعلهم عرضة لانتهاكات
أكبر وأوسع بدون أي رادع أو متساءل.
اليوم مع مرور ذكرى النكبة
الخامسة والستين، ربما سيقف الشعب الفلسطيني أمام تعداد كبير، وحصاد مرّ، وهو ينظر
إلى نكبته المتجددة في سورية، النكبة التي تختزل أكثر من معاناة، فهي ليست مقصورة على
معاناة القصف والتدمير والقنص والقتل والتشريد، وإنما معاناة مركبة، يختلط فيها السياسي
بالإنساني والميداني، تتجدد النكبة وآمال القيادة الفلسطينية معلقة، إما في مفاوضات
بلا أفق، أو في ملف مصالحة بات الحديث فيه
من المكرور الممجوج من عموم الشعب، على أهمية هذا الملف وأهمية تفعيله وتجاوز آثاره.
معاناة بات فيها الطرف الفلسطيني ?لمعني بحلحلة مشاكل اللاجئين أقل من مراقب للمأساة،
وأكثر من شاهد زور، فصفقة المنظمة التي حصلت مع النظام في سورية لإعادة تموضع التحالفات
الرخيصة في هذا التوقيت، وهذه الظروف، متاجرة واضحة بالدم الفلسطيني النازف في سورية،
وتنكر لمعاناتهم، وضرب بعرض الحائط لكل نداءاتهم وصرخاتهم. تتجدد نكبة العام 2013 وتعانق
جدتها نكبة العام 1948 لتكونا معاً رسماً لمشهدٍ واحدٍ، رغم اختلاف الزمن، لكن مع اتحاد
الظرف والشخوص وربما العدو، وربما عاش فلسطينيو سورية حياتهم تحت سلطة قانون اتاح لهم
نسبياً حياة أفضل من نظرائهم في الدول ال?ضيفة المجاورة، لم يستشعروا معه بشكل ملموس
ثمن غياب الممثل الرسمي، وتهالكه، وانهياره كما غيرهم، إلا من خلال ما أضفاه الوعي
السياسي نظرياً، لكنهم ومع بدء الأحداث الدموية في سورية، اكتشفوا أن نكبتهم بدأت قبل
الأحداث في سورية بسنوات طويلة.
المشترك كبير بين نكبات
الأمس ونكبات اليوم، ففي كل النكبات الفلسطينية كان للعرب وأزماتهم المحلية يدها الطولى،
وكان للقيادة الفلسطينية التي تدّعي التمثيل جزء من المسؤولية، وكان الاحتلال حاضراً
دوماً في كل المراحل وفي كل المحطات، إما بشخصه أو بمن ينوب عنه، وليس مستغرباً أن
يجدد الأحفاد اليوم عهد الأجداد، فكما ورث الأحفاد من الأجداد المأساة والانتماء معاً،
لن يستطيع جيل النكبة الجديد إلا أن يورث ذات المعنى وذات المفهوم للأجيال القادمة،
وكما تعلّم جيل اليوم درس التهجير من سلفه، فرابطوا في مخيماتهم قدر الإمكان، ?إن الجيل
القادم هو الكفيل بمنع تجدد النكبة من أصلها، لن يكون بمقدور أحد أن يلغي نواميس التاريخ
والكون، ولن يكون جيل اللاجئين الفلسطينيين اليوم، إلا ذاك الجيل الذي استلهم الدرس،
رغم تكرار المعاناة نفسها، لنجد أن شباب اللاجئين الفلسطينين اليوم لم ينتظروا عون
القريب أو البعيد، وإنما نقلوا نكبتهم لحظة بلحظة للعالم، صنعوا إعلامهم، وأطرهم الإغاثية،
رسموا خطط الثبات، والتحايل على المأساة، كي يحدّوا من حجمها، لم ينتظروا القائد المخلص،
ولم يخدعوا ويخدروا ببيانات الشجب، وإنما كان الواقع الأليم محفزاً للانطلاق اعتماد?ً
على الذات والتجربة السابقة، واستلهاماً لدروس السابق، متحدين العوائق رغم كل قساوتها،
وارتفاع الفاتورة التي دفعوها من دمائهم.
نكبة اليوم تعانق نكبة
الأمس لتقول لها أن القادم ليس بالضرورة نكبة، وأن التجارب القاسية هي التي تزرع الوعي
الأرسخ، والأقدر على تجاوز المحن وصناعة مابعدها، وأن قتامة مشهد اليوم ليس كلياً،
فثمة نور يشع من ثنايا أزقة مخيم اليرموك والسبينة وخان الشيح ودرعا، عنوانه شباب لايزال
منتمياً لهويته، وقادر على إدارة مأساته بالشكل الذي يصنع منها درساً وعبرة لمن هم
أكبر وأصغر منه.
المصدر: مجلة العودة،
العدد الـ68