رأفت مرة/ كاتب فلسطيني
انها السادسة مساء بتوقيت غرينتش، الثامنة مساء
بتوقيت مخيم الرشيدية في جنوب لبنان.
دقات ساعة (بيغ بن) في هذا الوقت، كانت تعني الالتزام الكامل بالصمت، فقد كان
الوالد (رحمه الله) المتربع على الاريكة الاسفنجية في غرفة المعيشة في منزلنا
المكون من غرفتين، يريد (مثل غيره من الرجال) في تلك الفترة، معرفة الأحداث
والمستجدات، ومنها اخبار القصف الإسرائيلي على مخيمنا، والذي كان قصفا دائما..
هذه صورة من صور حكايتنا مع (إذاعة بي بي سي)..
نحن مضطرون لسماعها لنعرف ماذا يجري حولنا..
كما يقول دريد لحام في مسرحية غربة (مبارح
سمعنا بنكسة حزيران)..
كنا نحن الفتيان الصغار، نسمع (إذاعة بي بي سي)
في جنوب لبنان..كانت حاضرة معنا دائما، كانت ثابت من ثوابتنا اليومية، لها
الافضلية والاولوية، خاصة وقت الحروب، وما أكثرها..
ظلت (إذاعة بي بي سي) معنا لسنوات طويلة، قبل
أن تتنوع الموجات الهوائية لتشمل إذاعة مونت كارلو (من باريس) وصوت فلسطين (من بيروت)
وغيرها لاحقا.
انها إذاعة استعمارية، لا شك، تأسست لتكمل
التمدد البريطاني في منطقتنا.. التوسعالسياسي والعسكري والاقتصادي البريطاني في الشرق الاوسط كانت تنقصة ركيزة
اعلامية ثقافية..
هكذا فعلت أمريكا بتأسيس قناة الحرة بعد 2003..
ولهذا كانت (بي بي سي)..
تأثير بريطانيا السياسي والاقتصادي القوي، أعطى
(بي بي سي) مزيدا من النفوذ والانتشار.. ضعف الاعلام الرسمي العربي او الخاص دفعك
لها دفعا..
تنوع الاذاعة بين الشؤون السياسية والثقافية
والفنية والاجتماعية والمنوعة، أعطاها مزيدا من الانتشار.. يضاف لذلك نوعية
برامجها وكفاءة مقدميها وشبكات المراسلين وتعدد لغات البث وموجاته.. انتشارها وصل
في السنوات الأخيرة إلى قرابة 250 مليون مستمع في قرابة 100 دولة.. لهذا رغم
التراجع في اهمية الاذاعات بعد غزوالفضائيات والانترنت ووسائل التواصل.
هيمنة امنية على (إذاعة ال بي بي سي) كانت
لدرجة ان جهاز MI5 البريطاني ظل حتى بداية التسعينيات هو الذي
يعطي الموافقة على التوظيف والموظفين..
يضاف إلى ذلك سياسات تحريرية استعمارية ليست
مؤيدة لقضايانا.
من فلسطين إلى لبنان إلى العراق وسوريا، إلى
الانحياز الكامل للرواية الإسرائيلية والتغاضي عن ارهاب الاحتلال.
إذاعة قدمت اخبارا وتجاهلت أخرى تحت شعار
المهنية، رفضت الاهتمام بتقرير منظمة العفو الدولية عن ارهاب الاحتلال، رفضت بث
نداءا انسانيا لدعم قطاع غزة ضد الحصار.. كانت تصف المقاومين الفلسطينيين بـ (المخربين)
وهكذا..
ملاحظات كثيرة على التمييز والعدالة والموضوعية
والمهنية والحرية.. اسلوب الاذاعة الناعم المتوحش، ليس غريبا عن السياسة
البريطانية الناعمة المتوحشة.. في منطقتنا والعالم..
رغم ذلك،لا تستطيع أن تتجاهل اهمية (إذاعة بي بي سي)، أو قل متعة الاستماع لها،
ربما لأنها كانت أكثر تنوعا وحرية وتقدما من إذاعات انظمتنا المتخلفة، التي كانت
تطبل وتزمر للزعيم..إذاعات تقدم الكذب
والتفاهة والتزوير..
انت مع (إذاعة بي بي سي) تستمتع ايها متعة بصوت
ماجد سرحان الذي يعطي مهابة للخبر وللحدث السياسي، وتستمتع برخامة صوت مديحة المدفعي، التي تشدك إليها شدا،
ولا يمكن أن تنسى متعة برنامج (قول على قول) الأدبي الرائع، الذي يأخذك حسن الكرمي
فيه الى عمق الشعر العربي بأصالته وجمالياته، ولا يمكن أن تنسى برنامج تعلم اللغة
الانكليزية، ولا تلك التمثيليات الاذاعية الساحرة نصا واخراجا واصوات ومؤثرات.
انها (إذاعة ال بي بي سي) التي كانت جزءا من
حياتنا، يوم كان جهاز الراديو حاضر دائما معنا..حتى ونحن نحمل امتعة الهجرة من
مخيم إلى مخيم..
كنا نسمع (إذاعة بي بي سي) التي تتبع دولة
أنشأت الكيان الصهيوني ورعته..كنا نسمعها لنعرف منها اخبارنا، ونحصل من الاذاعة
البعيدة على معلومات عن محيطنا القريب.
اليوم تنتهي حكاية (بي بي سي)، حدث ليس مفاجئا،
لكنه ليس صادما ايضا، انها المتغيرات الجديدة في عالم متقلب...
كل شيء يتغير..