القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

تصويت اليونان وأسئلة الاعترافات الأوروبية بفلسطين

تصويت اليونان وأسئلة الاعترافات الأوروبية بفلسطين

هيئة تحرير شبكة الجزيرة نت

كسبت فلسطين تصويتاً رمزياً جديداً لدولتها. فقد جاء تصويت نواب البرلمان اليوناني بالإجماع لصالح الموافقة على الاعتراف بدولة فلسطين منسجماً مع بيئة التأييد الدافئة للقضية الفلسطينية في هذا البلد البلقاني. وتمخض عن التصويت طلبٌ غير مُلزم إلى الحكومة اليونانية باتخاذ الإجراءات الضرورية للاعتراف بدولة فلسطين، التي لم تقم بعد في الواقع.

تابعت أثينا مسار الاعترافات الذي عبر عواصم أوروبية على مدى عامين تقريباً، بما يثير أسئلة الجدوى والأبعاد والأدوار ذات الصلة بهذا التطوّر. فقد تراكمت جولات التصويت المشابهة وجاءت في معظمها رمزية على شكل توصيات برلمانية للحكومات بأن تعترف بفلسطين، وهو ما يشمل البرلمان الأوروبي أيضاً، بينما تتعثر المحاولات في دول أوروبية أخرى تُحجم عن خطوات كهذه.

الاستثمار الفلسطيني للتطوّر

كيف سيستثمر الموقف الفلسطيني هذه الاعترافات وفي أي اتجاهات تحديداً سيبني عليها؟ لا إجابة محددة في الأفق. فرغم الشعارات المرفوعة في جولات التسويق الداخلي عن إنجازات متجددة يتم تحقيقها؛ لم يترافق المسار مع توضيحات واقعية أو مراجعات استراتيجية أو نقاشات موسعة في الساحة الفلسطينية بشأن خيارات استثمارها.

وبعد جولات التصويت الأوروبية ظلت حال الانسداد الفلسطينية قائمة دون إزاحات ملموسة باتجاه الاستقلال والسيادة أو نضوج ملامح الدولة. بل ظلّت المعضلات التقليدية على حالها؛ مثل تعثر حكومة التوافق، أو الإحجام عن التحرك في الهيئات الدولية التي تم الانضمام إليها لعزل نظام الاحتلال والدفع باتجاه محاكمته وفرض العقوبات عليه، فضلاً عن المأزق المالي لسلطة تسعى للتحول إلى دولة.

يجدر بالاعترافات الجديدة، وإن كانت رمزية أو مقدمة لاعترافات، أن تدفع باتجاه تعظيم الضغوط على الاحتلال، لكنّ ذلك لن ينهض بمعزل عن استراتيجية فلسطينية متكاملة وإرادة سياسية جادة واستعداد لدفع أثمان قد تترتب على ذلك.

يتطلب استثمار الاعترافات إرادة سياسية جادة لا تبدو واضحة حتى الآن. فكيف ستقوى الرسمية الفلسطينية على مقارعة نظام الاحتلال في المحافل الدولية إن أحجمت عن خطوات أيسر مثل عزل فريق الكرة الإسرائيلي؟ وما الذي يمكن توقعه من صانع القرار الفلسطيني الذي يتجاهل الجهود الشعبية الداعمة للقضية عبر العالم مثل حملات كسر الحصار، والمقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات على الاحتلال؟

لا ريب أنها أسئلة شائكة وحساسة تتعلق بالإرادة السياسية ذاتها أو باستعداد بيروقراطية السلطة العالقة بين فكي كماشة لدفع أثمان التحرك الجاد. فـ من مقتضيات المصارحة الداخلية خوض مراجعة فلسطينية لسياسة "تفويت الفرص" ودبلوماسية "سحب الملفات" والرضوخ للضغوط الخارجية. ومن شواهدها ما جرى مثلاً صيف 2007 بتعطيل غير ملحوظ لتحرك قطري في مجلس الأمن كان من شأنه إنهاء الحصار المشدد المفروض على غزة باعتباره "منطقة منكوبة إنسانيا".

أو ما تم خريف 2009 بتفويت فرصة تاريخية في مجلس حقوق الإنسان لمحاسبة الاحتلال بموجب ما جاء في تقرير غولدستون بخصوص جرائم العدوان على غزة. كما تنازل الموقف الفلسطيني عن خوض مواجهة رابحة في الاتحاد الدولي لكرة القدم لعزل اتحاد الكرة الإسرائيلي نهاية مايو/ أيار 2015.

رمزية "استعادة فلسطين"

في سياق القيمة الرمزية لمسار الاعترافات بالدولة، تبزغ "استعادة فلسطين" كحتمية تاريخية في الوعي الجمعي، كما ينعش ذلك النقاش العام بشأن قضية فلسطين في الدول الأوروبية المعنية، بما يتخلله من فرص التوعية والتكتل مع الحقوق الفلسطينية. لكنّ ذلك يتطلب خطوات أبعد من تقاليد الشكر والثناء بعد كل جولة تصويت؛ أي بالمضي نحو نبذ الاحتلال والضغط لتجريم ممارساته والمطالبة بالمساعدة في عزله وتحصيل حقوق شعب فلسطين.

فبصرف النظر عن فحوى القرارات الأوروبية التي تصدر في مسار الاعترافات الرمزية أو الفعلية هذه؛ تتيح أجواؤها العامة فرصاً لقضية فلسطين عبر تحريك بعض المواقف، وكسر الجمود، على الأقل لدى بعض الأطراف السياسية والمجتمعية. أما وضع ملف فلسطين في دائرة النقاش العام، فيختزن فرصاً لقضية فلسطين التي تكسب من مجرد تنمية الوعي بواقع الاحتلال في عالم يتقارب.

لن ينهض هذا التوجّه دون تطوير الموقف والخطاب في الساحة الفلسطينية، سياسياً وشعبياً، وعلى نحو يتوجّه إلى العالم بما يعزز حضور الحقوق غير القابلة للتصرف ويتصدى لواقع الاحتلال من مداخل شتى، ويستعد للتعامل مع التحديات والمخاطر التي تمثلها أي مشروعات سياسية قادمة.

ثم إنّ المبالغة في تقديم "الدولة" على مطلب التحرّر الوطني تفاقم معضلة جوهرية تتصل بأولويات البيت السياسي الفلسطيني وخياراته. فقد عمد الخطاب الفلسطيني الرسمي منذ ثلاثة عقود إلى تضخيم هدف إقامة الدولة على حساب الأهداف الجوهرية للتحرر، حتى تجاوزت رمزيات الدولة في التناول العام جوهر الدولة ذاتها، زيادة على سابقة تقليص الحلم واختزال الجغرافيا وطيّ سجلات الحقوق الثابتة وتعطيل الميثاق الوطني وغير ذلك من متلازمات. وكان لافتاً للانتباه أنّ إدارة بوش الابن التقطت مطلب الدولة هذا ووضعته في الصدارة دون أن يعني محتواها دولة بحق.

وعبر عقدين من تجربة السلطة الفلسطينية يبدو ملموساً كيف أنّ منطق مدّ البساط الأحمر تحت الاحتلال لا يقيم دولة "قابلة للحياة" بل يفضي إلى كيان جاهز للرضوخ، وأنّ المؤسسات التي تتنفس من فضاء الاحتلال تبقى مرتهنة لأعطيات المجتمع الدولي وفق معادلة مشروطة بالتزامات مغلّظة.

إنها فرصة للمراجعة المحفوفة بالحذر من أن تمنح أجواء التصويت لصالح الاعتراف بدولة فلسطينية شعوراً وهمياً بإنجاز الاستقلال، فقد يتشكّل الانطباع بأنّ الشعب الفلسطيني قد انتزع شيئاً من سيادته بالفعل، أسوة بانطباعات عن إنجاز تسوية سلمية للقضية بمجرد المصافحة التاريخية في حديقة البيت الأبيض سنة 1993.

وحتى في الحالات التي يتم فيها رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني؛ ينبغي لهذا الإجراء البروتوكولي أن يُقاس بأثره على الواقع الفلسطيني العام وبفرص تفعيله وتطويره، ولا ينفكّ ذلك عن حالة السلطة الفلسطينية وفعالية مؤسساتها في الحاضر والمستقبل.

السقف السياسي للاعترافات

لا غنى لفلسطين عن المكتسبات المتوالية مهما بدت رمزية أو بروتوكولية، لكنّ تضخيم الأبعاد الرمزية لا يصح به أن يطمس الواقع وضرورات الفعل الملحّ في الميدان. وتبقى الاعترافات الأوروبية محكومة في سقفها بمحددات الخطاب السياسي المعتمد أوروبياً، فهي تتأسس على الأرضية المسماة "حل الدولتين".

ورغم التفاوت النسبي في الصيغ الأوروبية التي حملت سلسلة اعترافات أو توصيات بالاعتراف بدولة فلسطين؛ إلا أنها جاءت مقيّدة عملياً بمشروع "حل الدولتين" الذي يجعل نهوض دولة فلسطين مشروطاً بالتعايش الآمن والسلمي مع الجانب الإسرائيلي الذي هو الاحتلال عينه.

تكتنف مشروع "الدولتين" هذا شكوك متزايدة في الأروقة الأوروبية بشأن قابليته للنهوض الفعلي، علاوة على أنه لا يمثل حلاً حقيقياً لشعب فلسطين لأنه لا يستجيب لحقوقه الأساسية، وفي مقدمتها حق العودة.

ومع ذلك؛ تبقى المسألة برمّتها متعلقة بقدرة الساحة الفلسطينية على استثمار الاعترافات وتطويرها ورفع سقوفها؛ بدل اعتبار قيام دويلة تحت الاحتلال نهاية التاريخ ومحطة أخيرة تتنازل عن الحقوق الفلسطينية. ومن مسؤولية دبلوماسية التحرر أن تعتمد خطاباً ضاغطاً يدفع بمزيد من المطالبات الملحّة في الفضاء الأممي ويتماشى مع خطورة الموقف على الأرض وروح الانتفاضة السارية في الشعب.

ولا أمل على أي حال بتعديل الاستراتيجيات الفلسطينية دون الإقدام على مراجعة المنطق السياسي الذي تنازل مُسبقاً عن حقوق تاريخية، فانتصب هزيلاً إزاء منطق الاحتلال الذي تشبّث بالرغيف كاملاً ليتنازل في نهاية المطاف عن فتات منه لصاحبه مقابل أثمان باهظة.

ما بعد رفع العلم

إن كان رفع العلم الفلسطيني في الفضاءات الدولية مكسباً مضافاً إلى ما سبقه؛ فللحقيقة وجه آخر هو أنّ نظام الاحتلال الإسرائيلي بات قادراً على التعايش مع العلم الفلسطيني المرفوع في الآفاق. بل يمكن اعتبار صفقة أوسلو المبرمة قبل عقدين من الزمن قائمة على مقايضة الرمز بالجوهر، فالاحتلال يسعى للحفاظ على وجوده وأمنه ويمنح سلطة فلسطينية لقاء ذلك رموز الاستقلال دون الاستقلال ذاته.

ورغم رمزية العلم الفلسطيني؛ إلا أنّ رفع مزيد من الأعلام لا ينعكس على الميدان بآثار ملموسة، والمفارقة أن يتلازم ذلك مع تعاظم الاستيطان وتمزيق أوصال الأرض واستنزاف الموارد والتهام القدس ومواصلة الاعتقالات، وهي حقائق تفاقمت بعد حصد اعترافات سابقة.

فما إن أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988 عن قيام دولة فلسطين وحرّر "وثيقة الاستقلال"، حتى حصدت دولة المنفى أكثر من ثمانين اعترافاً، منها اعترافات دول شرق أوروبا ووسطها الاشتراكية آنذاك.

وما زالت رقعة الدول الممتدة من أوكرانيا وروسيا البيضاء حتى التشيك والمجر محتفظة باعترافها بدولة فلسطين وبتمثيل دبلوماسي رسمي، وهو ما يثير التساؤل عن الفارق الملحوظ في توازنات القضية الذي تحقق بهذا حتى اليوم.

فإن كان الاعتراف خطوة إيجابية مؤكدة في المبدأ؛ فإنه لا يضمن أن تتأسس عليه تطورات فاعلة في تأييد قضية فلسطين أو دعم تحرر شعبها، خاصة إن جاء الاعتراف محكوماً بمحددات الرباعية الدولية مثلاً، أو مع تعاقب ألوان سياسية متضاربة على المواقع الحكومية للدول المعنية.

تبقى التوصيات المتزايدة التي تدفع بها البرلمانات الأوروبية إلى حكوماتها بأن تعترف بفلسطين، كما فعل البرلمان اليوناني مؤخراً، تطوراً تراكمياً ذا شأن، دون أن يتجاوز ذلك حقيقة أنها اعترافات رمزية وليست فعلية. ولا ينبغي لمسار الاعترافات الأوروبية الرمزية بفلسطين أن يمنح انطباعاً مضللاً عن السياسات الواقعية الأوروبية التي تجري بمعزل عن البرلمانات عادة.

ولا إرادة سياسية متكاملة وموحدة في أوروبا حتى الآن بشأن فلسطين سوى إبقاء الحال على ما هو عليه، أي بمطالبة الأطراف بالتفاوض المتواصل على أساس الدولتين. ثم إنّ الحكومات الأوروبية تتفاعل مع التوصيات البرلمانية بفتور واضح إن تعلقت بالسياسة الخارجية، وهو ما يتضح أكثر في الفجوة بين البرلمان الأوروبي وهيئات الاتحاد الأوروبي القيادية كالمفوضية والمجلس الأوروبي.

يدرك الجميع في نهاية المطاف أنّ دولة فلسطين قائمة على الورق حتى الآن، وأنّ رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة لا يعني تنكيس الأعلام الإسرائيلية في القدس وأحشاء الضفة الغربية. وحتى إن قامت دولة لفلسطين ضمن هذه الملابسات فلن تحظى بسيادة حقيقية، وستظل بلا أشواك أو أسنان تدافع بها عن نفسها من أعتى جيش في المنطقة.

إنّ تحرير الاعترافات بفلسطين ليس غاية المُنتظر من دول أوروبا والعالم، فبوسعها -نظرياً على الأقل- استعمال نفوذها لإنهاء الاحتلال ومساندة الشعب الفلسطيني لانتزاع حقوقه غير القابلة للتصرف وتحقيق استقلاله الفعلي وسيادته على أرضه وموارده، ووقف أي دعم أو تعاون مع نظام الاحتلال الإسرائيلي.

ومن التطورات المشجعة أنّ فلسطين لم تعد اليوم وحدها في الفضاء الأممي، فلها أنصار على مستوى الدول والحكومات والبرلمانات والمجتمع المدني والأطياف الشعبية والقطاعات التخصصية، كما أنّ شتات شعبها في العالم هو رصيد مؤكد في هذا السياق، وهو ما يفرض على الدبلوماسية الفلسطينية التوجّه إلى حشد الطاقات جميعاً من أجل استثمار جولات التصويت الأوروبي لصالح فلسطين كي لا تبقى مكتسبات رمزية معزولة عن الواقع.

كسبت فلسطين تصويتاً جديداً لدولتها بموافقة البرلمان اليوناني على ذلك، لكنّ الحقيقة التي لا ينبغي نسيانها أنّ الدولة لم تنهض بعد، فالاعترافات وحدها لا تصنع استقلالاً، فكيف إن جاءت رمزية ومشروطة ومقيّدة.

وغاية القول أنّ سؤال الجدوى لا يتعلق بما ستعود به الاعترافات على فلسطين؛ بل بكيفية التفاعل مع هذه الاعترافات لصالح فلسطين وقضيتها.

المصدر: الجزيرة نت