تغريبة سَنابِل الفلسطينية
بقلم: وائل أبو هلال
قبل أيام دُفِنَت سنابل شكري أحمد أبو بكر، بعد معاناة مع مرضٍ وُلِد معها
ووُلِدت معه منذ خمسة وعشرين عاماً في الولايات المتحدة الأمريكية.
تُدفَنُ سنابل ويُحرَم شكري من ضم فلذة كبده أو لَثْم جبينها أو تقبل
العزاء فيها أو مواساة زوجته في ابنتهما أو تعزية والده ووالدته الثمانيين، اللذين
نذرا نفسيهما لأن يعيشا بالقرب من سنابل وأمها وأخواتها في دالاس … تدفن سنابل
وشكري معتقل في السجون الأمريكية بحكم جائر ظالم لمدة خمسة وستين عاماً، لا شيء
إلا لأنه كان مديراً لصندوق الأرض المقدسة الذي كان يجمع التبرعات (من المسلمين
وغيرهم) ويرسلها لمؤسسات رسمية في فلسطين.
أحمد أبو بكر – جد سنابل كهلٌ
ثمانيني يحكي قصة الفلسطيني المشرد المكافح المناضل المظلوم المقهور المحروم
الغريب المُغترِب… يبدأ مشواره مع هذه المعاناة منذ هاجر في بداية الخمسينات إلى
أمريكا الجنوبية بحثاً عن الرزق لعائلة ممتدة جذورُها في سلواد – رام الله ويستقر
في البرازيل ويتزوج هناك من برازيلية رافقته تغريبته وتُنجِب له جمال وشكري.
يخاف جد جمال وشكري من ضياع هويتهما العربية الإسلامية، فيطلب من ابنه أحمد
أنْ يعود بالولدين إلى سلواد ويذهب هو أينما يريد فيستجيب الابن، فيترك تجارة
ومالاً ويعيدهما إلى سلواد، ويبدأ هجرةً أخرى هو وزوجته إلى الكويت يكد في صحرائها
اللاهبة على ‘تَنْكَر’ ماء.
وكما هاجر هو هجرته الأولى إثر النكبة يلحقه ولداه إلى الكويت مهاجِريْن
إثر النكسة.
يكبر جمال وشكري في البيئة الطلابية الفلسطينية الإسلامية في الكويت،
فيشارك شكري أحمد أبو بكر ضمن كتلة إسلامية في أول انتخابات للاتحاد العام لطلاب
فلسطين في ثانوية حولي (التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية)، فيكون هو أول إسلامي (مع محسن صالح رئيس مركز دراسات الزيتونة حاليا)* يدخل
الاتحاد، وأول اختراق إسلامي لهذه المؤسسة الفلسطينية.
بعد سنة؛ جمال أحمد أبو بكر يشارك خالد عبد الرحيم (مشعل) في قائمة الحق
الإسلامية التي تنافس أيضا للمرة الأولى في انتخابات اتحاد طلاب فلسطين في جامعة
الكويت، فتعطل رئاسة الاتحاد الانتخابات لثلاث سنوات، خوفا من فوز الكتلة
الإسلامية الناشة (منذ ذلك الوقت ونحن بحاجة لمصالحة)، فيؤسس في (1980) مع ثلة من
زملائه ‘الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين’ في جامعة الكويت، لتكون ثاني رابطة من
نوعها بعد ‘الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين’ في بريطانيا (1979) التي كان من
مؤسسيها شكري أحمد أبو بكر.
يهاجر شكري أحمد أبو بكر إلى أمريكا (لم يعد يُعرف عدد الهجرات) فيشارك مع
ثلة كريمة من الشخصيات العربية في تأسيس ‘الاتحاد الإسلامي لفلسطين’ في أمريكا
الشمالية.
ينشط شكري في العمل الفلسطيني في أمريكا فيؤسس مع زملائه المؤسسات ويقيم
الأنشطة الداعمة لفلسطين وقضيتها في الداخل والخارج؛ ومن أهم المؤسسات التي تأسست:
‘صندوق الأرض المقدسة’، مؤسسة رسمية شرعية وفق القوانين الأمريكية، تتواصل وتدعم
مؤسسات رسمية وقانونية في فلسطين (حتى وفق قوانين الكيان الصهيوني) إلى أن جاء بوش
الابن فيقرر أنها مؤسسة ‘إرهابية’ وتدعم الإرهابيين، ثم تُغلق ويُطارد العاملون
فيها ومن ضمنهم مديرها شكري أحمد أبو بكر (قصة مؤسسة الأرض المقدسة فيها تفصيل
كثير ليس مقامه هنا). يطوف شكري البلاد العربية بحثاً عن مأوى، فينصحه كل من رآه
ألا يعود ‘لظُلم’ واحة الحرية الأمريكية، إلا أن حنينه لفلذة كبده سنابل يغلبه،
فهي المريضة بالتلاسيميا منذ ولادتها ولا يجد لها علاجاً إلا هناك، فيغامر ويعود
ليحتضن سنابل إلى صدره، عاطفة الأبوة غلبت خوفه على نفسه من اعتقال ظالم محتم.
يُعتقل شكري هو وإخوانه ويحكم عليهم بأحكام جائرة فريدة حتى في التاريخ
الأمريكي يصل حكم شكري الى خمسة وستين عاماً بتهمة الأعمال الخيرية التي كان يسقي
سنابلها في فلسطين ويودَع السجن الظالم ليُحرَمَ من ضمة سنابل للمرة الأخيرة قبل
دفنها.
جمال أحمد أبو بكر الذي يُعِد لعُرس ابنه الثاني إبراهيم يوم الجمعة القادم
يستقبل خبر وفاة سنابل ابنة شقيقه المعتقل يوم الثلاثاء يقف صامداً صابرا كالجبل
يستقبل التعازي بسنابل يوم الثلاثاء، ويؤكد في العزاء على دعوة الحضور إلى حفل عرس
إبراهيم يوم الجمعة.
جمال أحمد أبو بكر فقد ابنه البِكر أحمد قبل ثلاث سنوات قبل أسبوع من
زفافه، ووقف نفس الوِقفة صابراً صامدا محتسباً، رجلاً دوما كان جمال، ففي الشدائد
تعرَف الرجال.
أحمد أبو بكر بدأ هجرته إلى البرازيل قبل 61 عاماً، شكري أحمد أبو بكر
معتقلٌ في أمريكا لمدة 65 عاماً، سنابل شكري أبو بكر تُدفن في ذكرى النكبة ال65
دون أن يراها أبوها، جمال أحمد أبو بكر موضوع على قوائم الإرهابيين بتهمة الانتماء
لحماس، الجدة البرازيلية التي رافقت هذه العائلة قدرها أن تترع من كأس الهم
الفلسطيني منذ 60 عاماً. يتصل شكري من سجنه عبر وسيط بجمال فيستأذنه أن يزف سنابل
شكري أبو بكر إلى أحمد جمال أبو بكر في الجنة، كما نطقت سنابل وهي في النزع الأخير
ثلاث مرات لمن حولها: لا تحزنوا أنا رايحة عند أحمد على الجنة.
هل تختصر ملحمة آل أبي بكر بعضاً من معاناة الفلسطيني على مدى قرنٍ من
الزمان؟
رحم الله سنابل وجعل موتها بداية عملٍ من كل ذي قدرة أن يسعى للإفراج عن
شكري وإخوانه، أو على الأقل لإثارة قضيتهم المنسية.
القدس العربي، لندن، 19/5/2013
*توضيح من الدكتور محسن صالح:
فقط للتاريخ فإن انتخابات اتحاد طلبة فلسطين في ثانوية
حولي في الكويت كانت في ربيع 1976وكان ضمن الفائزين الخمسة الأخ شكري الذي كان
رئيسا للجماعة الاسلامية في المدرسة، وحصل على الترتيب الثاني بفارق ثلاثة أصوات،
وفاز معه من قائمة "الشباب المسلم" التي تمثل الجماعة الاسلامية في
المدرسة شاب اسمه سليمان وجاء خامساً، وكان بينه وبين الفائز الأول عشرة أصوات،
والثلاثة الآخرين كانوا من قائمة فتح. وكان التنافس شديدا جدا.
أما محسن صالح فكان ضمن مرشحي الجماعة الإسلامية الخمسة،
ولكنه لم يفز ضمن الخمسة الأوائل، حيث حل احتياطا ثالثا وكان ما يزال في الصف
الأول ثانوي.
أما في الجامعة فقد تم تعطيل الانتخابات سنتين وليس
ثلاثة.