ثورات فلسطينية من أجل القدس
أحمد الحاج علي
في العام 1906، يجلس الزعيم الصهيوني حاييم
وايزمان، أول رئيس لإسرائيل فيما بعد، مع آرثر بلفور، صاحب الوعد الشهير. يحاول بلفور
إقناع وايزمان بفكرة وطن لليهود في أوغندا. يرفض الأخير، ويردّ أن "الصهيونية
حركة سياسية قومية، لكن لن يُكتب لها النجاح، إلا إذا عنينا أولاً بناحيتها الروحية،
وأثرنا بذلك الحاسة الدينية في اليهود، وهل هناك ما يصلح لتحقيق هذا كله إلا فلسطين؟".
هذا ما يرويه وايزمان في مذكراته.
كان يقصد القدس، التي صاح من أجلها قبل
ذلك بثلاث سنوات أعضاء المؤتمر الصهيوني بوجه هرتسل: "أورشليم، أورشليم"،
بعدما عرض عليهم الاقتراح البريطاني، واتهموه بالخيانة. القدس التي من أجلها قاتل البيزنطيون
ثم الفرنجة اللاتينيون، قاتل لأجلها أيضاً صلاح الدين وجيشه، وبعث برسالة معبّرة لريتشارد
قلب الأسد قبل مغادرة الأخير لفلسطين: "القدس إرثنا كما هي إرثكم. من القدس عرج
نبينا إلى السماء، وفي القدس تجتمع الملائكة. لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها
أبداً". احتفل الشرق بتحريره القدس، ولم يُسأل عن مصير عكا.
لم تشهد القدس صراعاً بين اليهود والعرب،
ولا بين المسلمين واليهود طوال تاريخها، حتى دخلت الصهيونية السياسية. أولى الصدامات
الكبرى كانت ما عُرف بثورة البراق، التي اندلعت في 15 آب 1929 إثر محاولة اليهود السيطرة
على حائط البراق.
أول من سمح لليهود بالصلاة أمام حائط المبكي
هو السلطان سليمان القانوني بشرط أن تكون الصلاة فردية، وألاّ تُجلب إليه أدوات الصلاة
الجماعية المستعملة في الكنيس، كالمقاعد والستائر والخزائن. لكن القيادات الدينية اليهودية
شعرت بالقوة مع الاحتلال البريطاني، ووزعت مناشير تظهر هيكل سليمان قائماً مكان مسجد
قبة الصخرة، فهاجت المشاعر الفلسطينية، خصوصاً مع عرض يهودي مسلح عند الحائط، رفعت
خلاله الأعلام الصهيونية، فكان الانفجار الجماهيري. قُتل نحو 250 من العرب واليهود.
وشكلت عصبة الأمم لجنة دولية أكدت أن ملكية حائط البراق تعود إلى المسلمين وحدهم.
في 8 تشرين الأول 1990، حاول متطرفون يهود
من جماعة "أمناء جبل الهيكل" وضع حجر الأساس لما يسمى الهيكل الثالث في ساحة
المسجد الأقصى. تصدى أهالي القدس للمتطرفين اليهود، فوقع اشتباك بين المصلين، وعددهم
نحو أربعة آلاف مصل، والمتطرفين اليهود، فتدخل الجيش الصهيوني على الفور، وأطلق نيران
أسلحته على الفلسطينيين فقتل 21 وأصاب 150 بجروح مختلفة، واعتقل 270 شخصاً. بعد أيام،
حمل الفلسطيني عامر أبو سرحان سكينه، وانطلق يطعن مجموعة من الجنود في القدس انتقاماً،
فقتل ثلاثة منهم. كانت بداية ما يُعرف بحرب السكاكين.
وكانت ما عُرف بهبّة النفق في 25 أيلول
1996، أول هزة حقيقية يتعرض لها اتفاق أوسلو. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مصادقة حكومة
بنيامين نتنياهو على افتتاح نفق أسفل المسجد الأقصى. وقد وجه الرئيس الراحل ياسر عرفات
دعوة إلى الجماهير الفلسطينية لمواجهة هذا الاعتداء. استمرت الهبّة لأيام، استُشهد
خلالها 63 فلسطينياً، وقد ساهمت في توقيع بروتوكول إعادة الانتشار في الخليل في كانون
الثاني 1997.
في 28 أيلول 2000، وبعد اقتحام رئيس الوزراء
الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون والشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى، انتفض الفلسطينيون،
بمشاركة جميع أحزابهم. كان لتعثر مفاوضات كامب ديفيد 2 الدور الأساسي في إطلاق الانتفاضة.
فقد كان مشروع باراك- كلينتون المقدم في آب 2000 يهضم حق الفلسطينيين في القدس. ولا
يعطيهم السيادة الفلسطينية إلا على حيين داخل المدينة القديمة. ويبقى مطار القدس (قلندية)
تحت السيادة الإسرائيلية. أما الممر المزمع إلى الحرم الشريف (من الضفة) فيبقى تحت
السيطرة الإسرائيلية. ثار الفلسطينيون، وقد أدت الانتفاضة إلى انسحاب إسرائيلي من غزة،
وإعادة احتلال مناطق السلطة في الضفة.
بعد اعتداءات إسرائيلية متكررة على المسجد
الأقصى، وتسارع الاستيطان في القدس، اندلعت في 1 تشرين الأول 2015 ما عُرف بـ"انتفاضة
القدس"، وقد كان السكين أبرز أدواتها. ثم كانت هبة فلسطينية في 14 تموز 2017 حين
أقدم الاحتلال على تركيب كاميرات وبوابات إلكترونية عند بوابات الأقصى، قبل أن يتراجع
بفعل توسع الاحتجاجات.
الصراع على القدس هو الصراع الأعقد لما
تتمتع به المدينة من أهمية في نظر كل الأطراف، وكانت دوماً عقدة المفاوضات. ولأهميتها
بنى الاحتلال فيها أهم مؤسساته الرسمية، بدءاً من الدوائر الحكومية والوزارت وانتهاء
بالكنيست ومقبرة عظمائه على "جبل هرتسل" الذي هو من أملاك قرية دير ياسين.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، لا يمكن لأي زعيم، مهما بلغت تنازلاته، أو (واقعيته)، أن
يتنازل عن القدس. لذا، فالمتوقع دوماً ثورات وحروب من أجلها.
المصدر: المدن