جسر العودة إلى القدس
بقلم: جابر مسلماني
لا تزال فلسطين القضية المركزية للاجتماع الثقافي والسياسي العربي، هي تعبير عن أشهر ظاهرة سطو دولي مسلح على الأرض والانسان، باشرتها إسرائيل وبمساندة دولية معلنة ودائمة، أهلها الحقيقيون طُردوا رغما عن أنف الهلال المركون وسط الأعلام الرسمية العربية والاسلامية، استلبها الإسرائيليون باسم التاريخ، وبمباركة النجمة السداسية ومواثيق الامم المتحدة التي أقرت في عام إعلان قيامة الكيان الغاصب، كان ذلك قسطا أولَ على الطريق إلى ازدواجية في المعايير الكونية، يمارسها الكبار ممن أعلنوا أرقى القيم الوضعية وامتهنوها في آن.
مما لا شك فيه أن الكيان الإسرائيلي قائم على معادلتين أساسيتين في ديمومته واستمراره، الدعم الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية التي قامت هي أيضا على أنقاض شعب آخر تم قتله وتشريده، وتشابه المنطلقات يؤدي الى التناظر في البواطن والرؤى وجداليات المحاججة، لطالما ردت اسرائيل على العالم الحر استنكاره لجرائمها بتذكيره بجرائمه وأياديه الحارقة.
الضعف العربي التاريخي والمهين هو الشق الثاني من المعادلة، العرب ككيانات سياسية بدون مشاريع لا داخلية ولا خارجية، وانعدام المشروع السياسي العام يؤدي الى سكونية وارتكاس.
لقد أعلن الكثيرون الطريق الى القدس وفلسطين من جغرافيتهم الدموية، متعددة هي الجسور التي افترضت سبيلا اليها وسفكت تحت ألويتها دماء كثيرة مخاضات ودوائر حلزونية كانت تبتعد بالبندقية عن هدفها المركزي والطبيعي والمعلن في شعارات إرادة العبور.
ليست بسيطة القدرات والمقدّرات العربية يكمن المأزق الرئيس في الرؤية والإرادات، في المنطلقات والأهداف، في طبيعة العلاقة السياسية العربية وأسسها القائمة على منطق التناحر والاقتتال القبلي البارد والحارد، والتاريخ العربي القريب والبعيد شاهد واضح. لقد تحولت إرادة الصراع العربي من صراع عربي - اسرائيلي، الى صراع عربي - عربي، ناهيك عن رهن القرار العربي بالكامل وتسليمه للبيت الأبيض بلا مبرر ولا موجب، بل إن ما تفكر به أميركا يصبح بحكم الناجز والمتحقق عربيا. مركبات نقص حقيقية تستجدي كمالا موهوما.
لقد استطاب النظام السياسي العربي المفاوضات مع العدو الاسرائيلي. هي أقرب الطرق الى الدعة والاسترخاء والتمييع واستغفال الشعوب. قطفت اسرائيل كمب ديفيد ووادي عربة، ودخلت طبيعيا الى قلب المنطقة سياسيا واقتصاديا وفكت عزلتها وكبلت مناوئيها وأدخلت المنطقة كلها في نفق الصراع الثقافي والسياسي على السلام، وباتت قضية التحرير الشامل لفلسطين من الماضي، وحتى مواثيق الكفاح المسلح أُسقطت وأُلغيت، وعلى لسان أهلها تحديدا.
لقد سقط كل شيء، سجادة حمراء لا تكفي للسيادة، اذا فرشت على أرض محتلة، نواب أمة منفية ومتشظية معتقلون في سجون الاحتلال، لا يمكنهم تمثيل مواطنيهم، هم شاهد فقط على قبح وفداحة الاستبداد والهمجية الإسرائيلية وهزالة أحلامنا. دولة بلا أرض، وتراب مبعثر لا يمكن الوصل والاتصال الذاتي معه، خديعة دولية واسرائيلية تضاف الى منطق الثعالب ومعادلات الخديعة والانخداع العربي.
كان ممكنا للشاهد اللبناني على قدرة المقاومة على تحرير الارض، ان يشكل استراتيجية للانظمة العربية، بعد انتصار المقاومة مباشرة، ودماؤها لم تجف بعد. بسط النظام العربي الرسمي مبادرته للسلام لم يكن الوقت ملائما، ولا الحقائق على الارض تفرض تفكيرا عربيا من هذا النوع. كان الاجدى اعادة النظر والتفكير في إحداث معادلات جديدة، وترسيخ قواعد أخرى من وحي الرصاص وقدرته على التغيير. فالمستحيل العربي بات واقعا على ارض لبنان وبسواعد المقاومين الأفذاذ وهم لا يمتلكون أدنى ما يملكه أي نظام عربي مقتدر اقتصاديا، ولكن المال لا يكفي لصنع الارادة وحقائق الراسخة، ولا لصياغة الأمجاد، المجد والعظمة والسمو مقولات لا يمكن ارتداؤها إلا بمزيد من الصبر والنضال والصراع.
الآن ونحن في خضم الربيع العربي، وهناك قوى إسلامية وغير إسلامية وفدت الى السلطة على أنقاض الراحل من الانظمة البائدة، المطلوب منها إعادة مركزة فلسطين في صلب خطابها الثقافي والسياسي بكل تجلياته ومتطلباته، لان أي ربيع عربي لا يحمل لواء فلسطين لهو نوع آخر وشكل آخر من أشكال الخريف الذي صحّرنا جميعا من المحيط الى الخليج.
إعلان القدس عاصمة للعرب والمسلمين مدخل وترميز ثقافي، فالكرامة العربية والإسلامية لا يمكن إعلانها إلا على ارض فلسطين، أغصان الزيتون غير ممكنة مع إسرائيل. لا تسقطوا المسدس من أيديكم.
من ضاق به مكان لا يطلب اللجوء الى أمكنة أشد ضيقا عليه وعلى قضيته.
المصدر: جريدة السفير