حرب غزة تكشف مأزق "إسرائيل"
بقلم: حلمي موسى
تقريباً بعد كل اجتماع للمجلس
الوزاري المصغر كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن اتخاذ قرار بتوسيع
العملية البرية الجارية في القطاع. وكان يسبق كل اجتماع الحديث عن أن المجلس يقف
أمام خيارين إما التقدم في العمليات الحربية وتوسيعها أو حصر نطاقها على طريق
التراجع.
وبين ما قبل الاجتماع وما بعده يظهر
المأزق الإسرائيلي بكامل وضوحه: قرار توسيع العمليات يعني الاستمرار في الوضع
الراهن، الذي هو مراوحة وحالة حرب استنزاف أكثر مما هو تقدم. ووقف إطلاق النار
الجاري الحديث عنه في كل عواصم العالم والقاهرة على وجه الخصوص ليس قابلاً للتحقيق
لأن طرفاً يريده أن يكون هزيمة لطرف آخر لا يرى نفسه مهزوماً ويواصل توجيه الضربات
المؤلمة لعدوه.
باختصار، "إسرائيل” تعيش مأزقاً
متعدد الجوانب لا لشيء إلا لأنها تخسر كثيراً وهي تحارب قطاعاً لم يعد لديه ما
يخسره.
وما يصدم الإسرائيليين أكثر من أي
شيء آخر أن استخباراتهم وجيشهم وحكومتهم يبلغونهم منذ اليوم الأول للحرب أن قوة
حماس والمقاومة في غزة تآكلت وأنها تستغيث حلفاءها لوقف النار. وعندما تبين للقاصي
والداني وبعد عشرات محاولات وقف النار أن حماس ترفض وقف النار الذي لا يحقق
للمقاومة وشعب غزة مطلبي وقف العدوان وإزالة الحصار انقلبت الآية وصارت "إسرائيل” تتحدث
عن أن حماس تجر "إسرائيل” نحو احتلال قطاع غزة.
ويتحدث كبير المعلقين السياسيين في
"إسرائيل اليوم" المقربة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو،
دان مرغليت عن "أن القادة الثلاثة ـ نتنياهو وموشيه يعلون وبني غانتس ـ
يتدبرون أمورهم في معركة الجرف الصامد بين المطرقة والسندان".
وفي نظر مرغليت "يصعب على
الثلاثة في واقع الأمر أن يجدوا السبيل الذي يترك "إسرائيل” مع انجازات في ميدان
القتال لحث حماس على وقف إطلاق النار، ويهدئ خواطر ناس الأخلاق المزدوجة في العالم
الذين يقولون من البيت الابيض ومن مكتب هيلاري كلينتون إننا على حق لكن ينبغي أن
نكف عن تحقيق حقنا في الدفاع عن أنفسنا، ويُلبي مطامح اليمينيين الذين يطلبون
توسيع العملية في غزة بكلفة باهظة وفائدة قليلة".
ويضيف أن "نتنياهو ويعلون
وغانتس يستعملون مساراً يشبه الطموح إلى أكل شاة وإبقائها تامة. أو تربيع الدائرة
وهذا مستحيل. ولهذا فإن صيغتهم في واقع الأمر أكثر تعقيداً وهي محاولة لاحراز
القدر الأقصى، في غلاف ضبط للنفس واتزان".
ويشير مرغليت إلى أن "صورة
الإنجاز تصبح رمادية شيئاً ما لأنهم يبلبلون الرأي العام وكأنما يحسن توسيع
العملية العسكرية، ولأن آخرين يحذرون ـ بحكمة ـ أنه لا يجوز لنتنياهو ويعلون السير
في نفس المكان وإن كانا يتصرفان على أنهما عالمان بالمشكلة؛ ولأن حماس تُرى عنيدة لكن
هذا غير صحيح، فقد تراجعت عن أكثر مطالبها ومن حسن الحظ أن مصر يرأسها عبد الفتاح
السيسي الذي يُبين لخالد مشعل أنه ينبغي ألا يُضلله".
وقد حاول المراسل العسكري لصحيفة
"إسرائيل اليوم" ، يوآف ليمور التحذير من مغبة مواصلة التمسك بتقديرات
ثبت خطؤها. وكتب أن "إسرائيل أخطأت أكثر من مرة في الاسابيع الثلاثة الاخيرة
في تقديرها وفهمها لعقلية حماس وقد تخطئ مرة اخرى. وقد تغير حادثة واحدة غير عادية
أو خطأ كبير أو عملية اختطاف لا سمح الله الصورة والتوازن بين الطرفين ولا سيما
ذاك الذي يُصور نحو الخارج، وقد تغير ايضا صورة المعركة ـ بتقويتها أو بإنهائها
بسبب خطأ مأساوي".
وأشار إلى مأزق الجهود لوقف إطلاق
النار بوساطة مصرية حيث كتب أن "المصريين يحاولون الآن بدعم من "إسرائيل” ودعم
أميركي تهيئة هذا الشيء". لكنه يصعب عليهم إلى الآن أن يتخلصوا من العقدة
التي كانت تصاحب الاتصالات منذ أسبوع: فقد علقت مصر المحادثات بشرط وقف إطلاق
النار أولاً، وطلبت "إسرائيل” البقاء في الميدان لعلاج الأنفاق، وبينت حماس أن وقف
اطلاق النار لن يشمل العمل على القوات التي تعالج الأنفاق".
ويخلص ليمور إلى أنه "في هذا
الوقت سيحاول الجيش الإسرائيلي أن يُتم سريعاً علاج الأنفاق، فإذا لم يحرز اتفاقاً
فسيخرج من الميدان من طرف واحد لا خشية التورط العسكري فقط بل بسبب ديبلوماسي في
الأساس، بسبب الأزمة الإنسانية التي أخذت تقوى في غزة".
وبرغم تكرار نفخ بالون الحسم وتنفيسه
لا يزال المراسلون العسكريون الإسرائيليون يتحدثون عن الأمر وكأنهم يؤدون مهمة
ضرورية بتكليف من دائرة الشؤون المعنوية في الجيش. ولكن ذلك لم يحل دون بعضهم لعرض
تساؤلات تارة والحديث عن المأزق تارة أخرى.
وهكذا نجد المراسل العسكري
لـ"يديعوت أحرونوت" أليكس فيشمان يكتب تحت عنوان "لحظة الحسم"
أن "إسرائيل غرزت على أطراف غزة من دون إستراتيجية خروج ومن دون أفق وقف نار.
وعندما تغلق بوابة الخروج المرتبة، يبقى خياران: إما تنفيذ انسحاب من جانب واحد أو
مواصلة الزحف إلى الامام، إلى داخل القطاع".
ويضيف فيشمان أنه "وهكذا في هذه
الاثناء نراوح في المكان ذاته، نزحف، ندمر الانفاق وهلمَّ جراً. معقول جداً
الافتراض أن في غضون بضعة أيام سيتعين على "إسرائيل” أن تحسم: إما إلى الأمام بكل
القوة، أو إلى الوراء، إلى الديار، فيما يترك استمرار تبادل اطلاق النار لسلاح
الجو. وعندها سيجلس المجلس الوزاري ليبحث، ولكن في النهاية سينظر نتنياهو إلى
يعلون وغانتس في العيون، وهناك سيتخذ القرار، من دون صراخ ومن دون تهديد".
وينقل فيشمان عن مصادر أمنية
إسرائيلية اعترافها بأن حماس لا تزال غير ناضجة لقبول وقف النار. وهذا الاعتراف
بعد 24 يوماً يظهر كم كانت خاطئة التقديرات التي سادت على مدى أسابيع بأن حماس
ناضجة لوقف النار وتستغيث لتحقيق ذلك. وهذا يعني جوهرياً أن حماس لا تزال تمتلك
القدرة على مواصلة القتال وأن كل الضربات الإسرائيلية التي يصفونها بأنها
"هائلة" لم تفت من عضد مقاتليها.
ولكن فيشمان يشير إلى أن زوال خطر
المساعي التركية والقطرية دفع المصريين إلى إبلاغ السلطة الفلسطينية بتراجعهم عن
التعديلات التي كانوا قبل ذلك قد وافقوا على إدخالها إلى مبادرتهم والتي كانت تسمح
لحماس بالنزول عن الشجرة.
ويكتب أنه "ضمن أمور أخرى أوضح
المصريون أنهم لا يعتزمون البدء بالمباحثات على وقف نار دائم اذا لم تتوقف النار
بداية في الميدان. ويتبين أن الشارع المصري لا يضغط حقاً على الجنرال السيسي
لانقاذ الفلسطينيين في غزة، وبالتالي فلا يزعج النظام في القاهرة أن تواصل "إسرائيل”
في هذه الأثناء ضرب حماس".
لكن كبير كتاب التحقيقات في
"هآرتس"، آري شافيت يفضح المخفي في واقع "إسرائيل” في ظل الحرب على غزة
بمقالته بعنوان "حماس التي فجرت لنا الفقاعة".
وفي نظر شافيت فإن "إسرائيل في
بداية حزيران تختلف جداً عن "إسرائيل” في نهاية تموز. فلم يكن فيها إطلاق قذائف
صاروخية ولا عملية برية ولا صافرات انذار. ولم يكن فيها جنازات شباب إسرائيليين
ولا مشاهد تثير الرعب لأولاد فلسطينيين موتى. وكان يمكن أن نؤمن في الهدوء المطمئن
لبدء الصيف بأن "إسرائيل” آمنة، وحماس مردوعة والفوضى العربية بعيدة. وكان يمكن أن
نحيي وهم أن العالم سوشي، وناسداك والأخ الأكبر. وكانت شركاتنا الإبداعية،
وتطبيقاتنا وعضويتنا السعيدة في الـOECD. وكاد العقد يكون عقد هدوء نسبي وهناء وفقاعة".
ولكن كل هذا تبدد وبدأت الأحداث في
الضفة والصواريخ من غزة ووقع الإسرائيليون والفلسطينيون في دوامة وبات "جرفنا
الصامد يتعرض فجأة للامواج الطاغية في شرق اوسط متطرف أصبح عنفه مُحكما".
وقارن بين ما يجري اليوم وما جرى وقت
حرب لبنان الثانية في العام 2006 حيث "أن "إسرائيل” ليس عندها رد مقنع على
التحدي الجديد لميدان القتال غير المتكافئ". ويلاحظ أن "إسرائيل” لم تتعلم من
التجربة "فلم نصنع سلاماً ولم نستعد للحرب إلى أن جاءت حماس في العام 2014
وفجرت الفقاعة التي مكّننا سلاح الجو والقبة الحديدية والهاي تيك من العيش فيها،
إلى أن تبين لنا مرة أخرى أننا نحيا مع كل ذلك هنا في العالم العربي وفي أرض "إسرائيل”
– فلسطين".
وهنا يحدد شافيت خلاصة الحرب، فيكتب
أن "المعنى الإستراتيجي لما يحدث هو أن السيادة الإسرائيلية قد انتُهكت.
فالدولة التي سماؤها مثقوبة، ومجالها الجوي مخترق، ومواطنوها ينزلون الى الملاجئ
على الدوام هي دولة عندها مشكلة. والدولة التي لا تعرف أن تُسكت النار التي تطلق
على مجمعاتها السكنية مدة ثلاثة أسابيع هي دولة في ضائقة. ويضاف الى ذلك اختراق
أنفاق الهجوم للسور الواقي الاسرائيلي وعدم القدرة على احراز حسم واضح في معارك
التماس. ولا تنجح قوة "إسرائيل” الاقليمية في التغلب تغلبا حاسما على كيان ارهابي
صغير وفقير وجريء على مرأى من عيون أعدائنا واصدقائنا المذهولة".
ويشدد شافيت على أن "المعنى
الوجودي لما يحدث هو أننا نعود الى الوضع الاسرائيلي. لم نتعرض مدة اربعة عقود
لتهديد حقيقي. ولم نجرب حربا برية كاملة مدة ثلاثة عقود. وكانت السنوات الاخيرة
سنوات هناء. ولهذا لم نحتج إلى القوى النفسية التي احتاج اليها جيل إسحق رابين
وجيل روعي روتبرغ وجيل افيغدور كهلاني. ولم نحافظ على التركيز والوعي لعصر ديفيد
بن غوريون وليفي اشكول. ولم نُبق على المنظومات القيمية والجهازية المطلوبة للعيش
في واقع قاسٍ".
ولذلك يرى أنه "لا مفر الآن
فنحن مجبرون على التوقف. ولا داعي لمحاولة دخول غزة التي قد تجلب كارثة. لكن حينما
يقف اطلاق النار ويعود الأبناء الى الوطن سنضطر الى أن نحدق الى المصير الاسرائيلي
والى الوضع الاسرائيلي. وسيجب علينا في خروجنا من الفقاعة المفجرة أن نجد حلا
خلاقا لغزة وحلا سياسيا ليهودا والسامرة وأن نعزز جدا قدرة "إسرائيل” على حماية
نفسها من أعدائها".
المصدر: السفير