حماس
وإيران والربيع العربي:حسابات السياسة ومصالح الأمة
د.أحمد
يوسف
عندما
بدأت ثورات الربيع العربي كان اهتمام السياسة الإيرانية يتركز حول ما يحدث في
البحرين، وحاولت - من حين لآخر - ربطه بباقي أشكال الحراك القائمة في المنطقة؛
باعتبار أن ما يجري هناك هو تعبير عن تحركات احتجاجية ضد سياسات الظلم والاستبداد
وهدر الحريات والكرامة الإنسانية، وربما أكثر من ذلك كون البحرين تقطنها أغلبية
شيعية وحظوظها في الحكومة والبرلمان لا تعكس نسبة تعدادها السكاني الذي يتجاوز
الـ60%، كما أن ثروات البلاد تتحكم بها الأسرة الحاكمة، والتي يعتبرها البعض أنها
مجرد تابعية للمملكة العربية السعودية.
قد تكون
إيران أصابها بعض الارتياح لما كان يقع في تونس وليبيا ومصر واليمن، كونها
جمهوريات لها مواقف سلبية تجاه إيران، وهي تقع في دائرة الولاء والتبعية للغرب،
وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن سقوط تلك الأنظمة وظهور أنظمة كان
فيها للإسلاميين حضوراً فاعلاً ربما يفتح المجال لعلاقات جديدة تُسهل من مهمة دخول
إيران الدولة على خط السياسة العربية، وبناء تحالفات قوية تضعف من مكانة الملكيات
القائمة في دول الخليج، والتي تمثل المحور المعادي للسياسة الإيرانية، والمحرض
الأول لدول المنطقة لاتخاذ مواقف تقطع الطريق أمام إيران من التوغل داخل الخريطة
العربية وإقامة علاقات أو تحالفات استراتيجية مع دولها.
وفجأة
جاء الدور على سوريا..!!
لم يدر
بخلد الإيرانيين أن أهم معقل لهم بمنطقة الشرق الاوسط على مستوى الدولة سوف تصل
إليها رياح الحراك الشعبي ومطالب الإصلاح والتغيير والديمقراطية، ويصبح فجأة -
وبدون مقدمات - في دائرة الاستهداف، وتنشط بعض دول الخليج عبر فضائياتها العملاقة
بتوجيه شاشاتها إليه.
هنا
أدرك الإيرانيون الخطر، وشعروا بأن المؤامرة أكبر من سوريا، وإن كانت جذوة الأحداث
ومسرح العمليات تقع داخل أراضيها.
لا شك
أن إيران كانت تتعرض لهجمات عدائية عاتية من قبل الغرب تستهدف استقرارها واقتصادها
وأمنها الداخلي، حيث التهديدات الإسرائيلية بضرب منشاءاتها النووية لم تتوقف،
والتحركات الأوربية للإطاحة باقتصاداتها النفطية مستمرة، كما أن الاتهامات
الأمريكية والأوروبية لها بدعم الإرهاب هي بهدف شيطنتها وتوفير الذرائع للتشهير
بها وتشويه مكانتها المتميزة بالمنطقة، إضافة لعملها الدؤوب لكسر تحالفاتها مع قوى
الممانعة، والتي كانت سوريا هي أحد أهم أركانها، وكذلك حزب الله وحركتي حماس والجهاد
الإسلامي.
لقد
تحسست إيران حجم الخطر الذي يتهددها، والمحاولة المستميتة لعزلها من خلال العمل
لقصقصة أجنحة حلفائها في المنطقة.. لذلك، لم تتأخر في حسم موقفها تجاه دعم النظام
السوري، بالرغم من وجود قناعة بأن بشار الأسد لم يلتزم الوفاء بوعوده الإصلاحية،
وأن السياسة في سوريا تتحكم بها أجهزته الأمنية، وأن فضاء الحريات داخل سوريا
محدود، وأن الطائفة العلوية تحظى بامتيازات ومكانة خاصة جعلتهم يتحكمون بمفاصل
الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية، ويتواجدون في كل أماكن الحكم وسلطة القرار،
وبشكل مثير ومستفز لباقي الطوائف والمستويات السياسية داخل حزب البعث؛ التنظيم
المهيمن على معظم أشكال الحياة السياسية والمعيشية في سوريا.
لقد
كانت وجهة نظر الإيرانيين أن المطلوب عمله - الآن - هو حماية النظام واستمرار
بقائه، ويمكن لمطالب الإصلاح والتغيير والتجديد أن تتأخر وتأتي لاحقاً، لأن ما
يجرى هو في الحقيقة "مؤامرة غربية" هدفها إخراج سوريا من معادلة الصراع
مع إسرائيل، وتحطيم قدرات جيشها من خلال إشغاله بمقاتل جانبية، حتى لا تبقي لسوريا
الدولة إلا الأطلال ليبكي عليها من يشاء.
من هنا،
حاولت إيران ومخططو السياسة فيها التحرك بقوة للحفاظ على الدولة السورية من
الانهيار، وعملت في كل اتجاه لتعبئة وحشد جميع حلفائها للوقوف معها في الدفاع عن
بشار الأسد، ونجحت في إقناع الرئيس بوتين وأركان دولته من السياسيين والعسكريين
بموقفها في أهمية حماية النظام في سوريا؛ باعتبار أنه آخر حليف قوي لروسيا في المنطقة
العربية.
كما
هيأت الأجواء من خلال الماكينة الإعلامية الموالية لها لشنِّ حملة مضادة تواجه بها
الفضائيات الممولة خليجياً، مثل: الجزيرة والعربية ويورونيوز.. لذلك، وجدنا
فضائيات مثل العالم والمنار والميادين تقدم هي الأخرى تغطيات منحازة لجهة الموقف
الإيراني، الذي يرى أن الصراع في سوريا إنما هو مؤامرة غربية هدفها الإطاحة بجبهة
الممانعة لصالح إسرائيل، واستنزاف قدرات الجيش العربي السوري، وكذلك جرُّ حزب الله
إلى أتون ذلك الصراع وإرباك حركة أولوياته وحرف مساراتها من مهمة الإعداد
والاستعداد لأية حروب قادمة مع إسرائيل إلى التورط في المعارك الطاحنة على الأراضي
السورية.
حماس:
بيضة القبان وحجر الرحى
في
بداية الأحداث والتظاهرات السلمية التي وقعت في سوريا عام 2011م، حاولت حماس
التدخل لمنع استشراء الحراك الشعبي وتطوره في اتجاه الثورة الشعبية، ولذلك قامت
باللقاء مع الرئيس بشار الأسد وبالعديد من قيادات الأمن السوري لتقديم الرأي
والمشورة واسداء النصيحة، ولكن بعدما تأكدت الحركة ممثلة برئيس مكتبها السياسي
الأخ خالد مشعل بأن كل خيارات النظام هي مع الحل الأمني، قررت الرحيل بهدوء عن
سوريا، لأن استمرار بقاء مكتبها السياسي في دمشق سيشكل لها عبئاً أخلاقياً وقد
يحرجها كثيراً أمام أنصارها وحلفائها وبين شعوب أمتها العربية والإسلامية، خاصة مع
تعاظم القتل ومجازر الدم.. من هنا، قررت مغادرة سوريا والبحث عن مواطن استقرار
أمنة لقياداتها.. لذلك، بدأت بالابتعاد عن دمشق، وحطت رحالها في أكثر من عاصمة
عربية وإسلامية، ووجد قادتها بعض الساحات التي فتحت لهم المجال الآمن للإقامة
الهادئة، وبشرط العمل بسرّية وبدون ضجيج إعلامي.
إن هذا
الموقف الذي اتخذته حركة حماس لم يعجب – بالطبع - الإخوة في إيران، وحاولوا في
البداية إقناع حماس بأن ما يجري هو مؤامرة مخطط لها ضد جبهة الممانعة، وأن هدفها
هو رأس المقاومة ممثلة بحزب الله وحركة حماس.
كانت
لحركة حماس رؤية أخرى لتفسير كل ما يجري وهي أن القضية لا تخرج عن سياق ما يدور
داخل المنطقة من تحركات شعبية وتعبيرات احتجاجية لا تخرج عن تطلعات الشعوب
ورغباتها في الإصلاح والتغيير والديمقراطية؛ أي أنها كلها ثورات تبحث فيها الشعوب
عن الحرية المسلوبة والكرامة الإنسانية الضائعة في متاهات الأنظمة الدكتاتورية أو
الملكيات الدائرة بتبعية مذلة في فلك الغرب.
لم يلق
هذا الموقف الذي اتخذته حماس ممثلة في مكتبها السياسي – آنذاك - تفهماً إيرانياً،
وتوترت العلاقة بينهما، بعدما لجأ الإخوة في إيران إلى اعتماد سياسة الضغط
و"ليِّ الذراع"، وذلك من خلال تقليص الدعم المالي لحماس (الحركة
والحكومة) أو التوقف عن تقديمه، حيث إن إيران تعلم أنها هي الممول الأهم للحركة،
وأن باقي أشكال الدعم الذي يصل لحماس لا يمكن أن يقارن أو يغطي غياب دعم إيران
البالغ السخاء، قياساً بالدعم الذي تجود به - أحياناً - بعض الدول العربية
والإسلامية أو حتى الحركات الإسلامية ومؤسساتها المنتشرة حول العالم.
ظلت
حماس على موقفها الأخلاقي الثابت بتغليب المبادئ على المصالح، وكانت أحياناً تقوم
بتوجيه النقد للنظام السوري؛ بسبب المجازر الفظيعة وحمامات الدم التي يرتكبها
النظام وأجهزته الأمنية تجاه القرى والبلدات التي تحتضن الثورة والثوار.
حرب
حجارة السجيل
كان
صمود قطاع غزة في وجه العدوان الإسرائيلي، والضربات التي وجهتها المقاومة
الفلسطينية للعمق الإسرائيلي في سابقة لم تحدث في تاريخ هذا الصراع، إيذاناً
بإعادة إيران لحساباتها ومواقفها تجاه حركة حماس.. صحيحٌ أن لإيران الكثير من
الفضل في دعم إمكانيات حركة حماس العسكرية وتطوير قدرات كوادرها الأمنية، وتوفير
التكنولوجيا التي سمحت لكتائب القسام بتصنيع صواريخها التي طالت مدن تل أبيب
والقدس الغربية، وشكلت تهديداً استراتيجياً لهذا الكيان الإسرائيلي الغاصب.
لقد
وجدت إيران في هذا التطور النوعي على مستوى الصمود والتحدي والجسارة في المواجهة
العسكرية مع إسرائيل لحركة حماس شيئاً يتطلب منها إعادة تصحيح مسار علاقاتها مع
الحركة، فعاودت تقديم الدعم المالي من جديد، وإن كان لها بعض العتب على رئيس
المكتب السياسي الأخ أبو الوليد الذي حاول في أحاديثه الصحفية اختصار أو تجاهل دور
إيران فيما تحقق للمقاومة من صمود وانتصار.
حماس
وحركة النهوض العربي: شركاء في المغنم والمغرم
مع حجم الدمار
الذي لحق بسوريا، والنكبة التي حلت بالفلسطينيين المقيمين فيها، وعجز المجتمع
الدولي عن القيام بأي دور يؤدي إلى وقف شلالات الدم والخراب الذي طال كل الأماكن
في سوريا، وأحال هذا البلد العزيز على قلوبنا جميعاً إلى كارثة إنسانية يندى لها
جبين الأمتين العربية والإسلامية، لبشاعة ما لحق بالأهل في سوريا من قسوة ودمار،
أدى لأوسع حركة تهجير ولجوء لدول الجوار في تركيا والأردن ولبنان، وأيضاً لجمهورية
مصر العربية.. إن هذه الوقائع المأساوية والأحداث الدامية التي تجري داخل ساحة
الصراع في سوريا تعتبر هي الأفظع والأشد همجية في تاريخنا المعاصر.
وفي ظل
وضعية الضعف والتآكل الذي أوهى عظام أمتنا، والهوان الذي لحق بها، أدركت حركة حماس
والإخوة في إيران ضرورة القيام بعمل شيء ولو حتى خارج نطاق خلافهما السياسي حول
الملف السوري، حيث إن هناك مصالح مشتركة بين الطرفين يمكن التفاهم حولها والعمل
باتفاق من أجلها؛ أي على قاعدة: "نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً
فيما اختلافنا فيه".
وفي
سياق ما جرى داخل منطقتنا العربية وعلى ساحتنا الفلسطينية، فإن المراجعة للوقائع
والأحداث تطرح أمام كل ذي عينين مشهداً يدفعنا إلى إعادة النظر في كل ما سبق من
حسابات كانت حينها مفرطة في التفاؤل حول الربيع العربي، وأن المسألة ربما - في بعض
مساراتها – قد تحقق معها شيئاً من الطموح والأمل وأصابت بعض الخير، ولكن المحصلة
النهائية - حتى اللحظة - هي أن إسرائيل والغرب يبدو أنهما هما الطرفان الأكثر
استفادة من جني ما تحقق من كسب وتغيير جراء الربيع العربي.
لقد نجح
الغرب وإسرائيل وبعض حلفائهم العرب في المنطقة من تحويل حلم الأمة إلى كابوس مزعج،
أصاب – بلا شك - هيبة وسمعة وموقع قوى الإصلاح والتغيير الحيَّة في الأمة؛ ألا وهم
الإسلاميون، وهذا ربما يدفع بأصحاب الوسطية الإسلامية الى الانكماش والتراجع
والكمون للوراء لسنوات أخرى قادمة، لحساب تيارات أكثر تطرفاً واندفاعاً نحو التشدد
وسفك الدماء، باعتبار ما سوف يراه البعض أنه مسيرة فاشلة لأصحاب النموذج الإسلامي
في الحكم، واتهامهم بأنهم لم يكونوا على مستوى تطلعات الجماهير أو الوعود التي
قدموها لها، وأنها قد أصيبت بانتكاسة بعد أن منحتهم أصواتها وقدمت التضحيات
الكبيرة من أجل نجاحهم في الوصول إلى سدَّة الحكم.
اليوم،
يظهر جلياً في طرفي معادلة الصراع حجم التآمر الذي تمَّ لإجهاض هذه الثورات من
ناحية، والجهد الذي بذلته بعض التيارات العلمانية لإخراج الإسلاميين من الحكم،
وإظهارهم كطرف خاسر لا يمكن المراهنة عليه من ناحية أخرى.
لقد
تمكن المتآمرون في الدوائر الغربية على ثورات الربيع العربي، والمتواطئون معهم من
أبناء جلدتنا، من تحطيم ما لدى الأمة من قدرات، وتوسيع شُقة الخلاف والتباين ما
بين الإسلاميين والعلمانيين، وتعميق جذور العداء والكراهية بينهما من جديد، بعدما
اعتقدنا - نحن الإسلاميين - أننا ومن خلال الشراكة السياسية يمكننا خلق فضاءات
مريحة للتعايش السياسي، وتكييف علاقة إدارة شئون الحكم بالشكل الذي يضمن حماية
مستقبل أوطاننا وقدرات أمتنا.
ختاماً:
هل كان الإيرانيون على حق.؟
يقولون
إن العبرة بالخواتيم، وأن كل المؤشرات الحالية لا تبشر بالخير، بالرغم أن المطلوب
منا أن نكون متفائلين دائماً.. كانت إيران تحذر بأن ليس كل ما يجري يبعث على
الاطمئنان، فهي تشتم رائحة مؤامرة تحاك هدفها ضرب رأس المشروع الإسلامي وشل قدرات
الفعل المقاوم وركائزه العسكرية الداعمة في المنطقة، وأن الذي تتعرض له سوريا تحت
ستار الحراك الشعبي إنما يخفي معه أهدافاً أخرى ذات أبعاد خطيرة وقاتلة.. كانت
إيران ترى وتحاول إقناع حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة بأن دوافع حركات
الاحتجاج الشعبي ربما تقف وراءها نوايا طيبة، ولكن هناك من يرقب ويتربص لاقتناص
اللحظة التي يخلط بها الأوراق وتحويل المسار من حراك سلمي مطالب بالإصلاح والتغيير
- لا يختلف عليه اثنان - إلى مواجهات عنفيّة تسمح بالاختراق واشعال فتيل الانفجار.
كان
الإيرانيون يقولون إن الاجهاز على المقاومة؛ حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي هو
الهدف، وتحطيم سوريا الدولة هو هدف آخر، حيث ستخلو الساحة لإسرائيل للهيمنة
عسكرياً على المنطقة، ولإعادة ترسيم جغرافيا الحدود والانتماءات السياسية
والأيدولوجية بالشكل الذي يحفظ للغرب مصالحه الحيوية وامتيازاته في مجال النفط
والغاز.
ربما
الشيء الذي لم يقله راسم السياسة في طهران هو أن تحقيق مثل هذه الأهداف معناه
تحويل إيران الدولة إلى جسد بدون أطراف، وساحة مفتوحة للاستهداف.. لذلك، ومن خلال
مخرجات مشهد الربيع العربي وتزامن الحراك الشعبي المصاحب له يمكننا فهم هذه العودة
الراشدة للتواصل بين حماس وإيران، والتي تمثل صوت الحكمة والعقل لإنقاذ ما يمكن
انقاذه، وإعادة ترتيب الأولويات على ضوء ما نشاهده من نتائج، فالذي لا يحسن قراءة
حاضرة لن يتمكن من صناعة مستقبله.. وفي السياسة – كما تعلمنا - ليس من الضروري أن
نتفق في كل شيء، ولكن يجب ان نتوافق على كل شيء.
وكالة
سما الإخبارية، 4/8/2013