حماس.. والهوية الوطنية
بقلم: عبد الله العقاد
لن أكون مبالغاً إذا ما قلت بأن الهوية الوطنية الفلسطينية لم تكن بالوضوح
والظهور في أي مكون وطني فلسطيني كما هي في حركة حماس.
وقد جاءت انطلاقتها الأولى متزامنة مع نفض العرب أيديهم من القضية
الفلسطينية، وترك الشعب الفلسطيني في الشتات والداخل يواجه التنكر والهجران في كثير
من الدول العربية التي تنكرت نظمها لأبسط حقوقه الإنسانية، وفي الداخل أودع رهينة
تحت احتلال صهيوني موصوف بكل أشكال المكر والدهاء والانحلال والإحلال.
وتزامنت الانطلاقة كذلك مع التحرك الجماهيري الغاضب في القطاع والضفة
الغربية والقدس لتكون ثورة شعبية عارمة، استمرت سبع سنين في تعاظم على الدوام،
فأتت (أوسلو) لتقطع طريقها نحو التحرير للأرض والإنسان.. وهي ما اصطلح عليها
بانتفاضة الحجارة أو الانتفاضة المباركة.
وذلك ما يؤكد أن حماس في انطلاقتها لم تكن إلا استجابة لنداء الوطن وشموخ
الروح الثورية فيه؛ لمقاومة المحتل العنصري الذي وظف الدين كأداة دعائية استيطانية
إحلالية.
فصدر البيان الأول لحركة حماس بعد خمسة أيام من تلك الانتفاضة، وتحرك
المارد الشعبي الذي استعصى على التذويب والترويض وتزييف هويته، وكان الشعار
الأبرز: إلى الأمام يا قافلة الشهداء؛ لأنها وجدت في دماء الشهداء وقودا يزيد
الثورة اشتعالاً، فتنافس المتنافسون في ذلك، فكان الشهداء معيار الانتماء لهذا
الوطن وثمن الحرية وتأكيد الهوية.
(2)
فقد ازدادت حماس في كل عام من أعوام الانتفاضة قوة، وتميزت أكثر هويتها
الوطنية المتجردة من كل تبعية وعصبية تتعارض مع مصالح شعبها، فتعاظم بها الفعل
الثوري وتعاظمت هي بالفعل الثوري؛ فكان لذراعها العسكري الضارب الأثر الكبير على
الاحتلال وعملائه، وفي عملياته النوعية التي أربكت قادة الكيان ليقف زعيم الكيان
(رابين) عاجزاً.. كيف سأواجه شاباً يريد أن يموت؟!
حقاً، فلم تكن حماس غير اسمٍ تُختزل فيه هوية الوطن، ولم تكن في حقيقتها
غير استجابة حركية لواقعية الحالة السياسية الفلسطينية العربية الإسلامية، فهي
جوهرة فلسطينية في مسيرها ومسارها وفي جذورها ومنطلقها وفي إرادتها وقيادتها.. نعم
هي حركة ولدت من رحم معاناة هذا الشعب؛ لتكون أمله في التحرير.
وقد سار في ركبها خيرة أبناء شعبنا منذ انطلاقتها المباركة وهي تقارع
الاحتلال وتلاحق قواته في أزقة المخيمات وفي ساحات المدن وفي كل حي وشارع.. وقدمت
الشهداء قوافل؛ وبهم تقدمت إلى مكانتها الوطنية؛ فحظيت بهذا الاحتضان الشعبي
الحصين الذي تأوي إليه في كل حين, فكان- بفضلٍ من الله- ركنها الشديد.
نعم لم يبخل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات بجهد وجهاد ليكون وقودًا
لهذه الحركة في طريقها للتحرير وانتزاع الحقوق الوطنية.
فوجدت حماس في نفسها مكوناً رئيساً للمقاومة الفلسطينية ولكل قوى التحرر
الفلسطيني، ورأس حربة في الاتجاه المضاد للمشروع الصهيوني التوسعي التخريبي في
المنطقة.
(3)
فلم تكن حماس غير حركة تحرر وطني فلسطيني ولم يكن لها امتدادات تنظيمية
خارج الإطار الوطني، وحافظت على استقلالية قراراها الفلسطيني وإن كانت ترى أنها
جزء من هذه الأمة الإسلامية جمعاء.
فقد نأت وتنأى عن التدخل في أيٍ من الخلافات البينية العربية والإسلامية؛
لأنها ترى في الاحتلال الصهيوني العدو الرئيس الذي يجب أن تجتمع على معاداته كل
الأمة؛ لتتوحد كل الجهود لأجل الخلاص منه، فهو رأس حربة للمشروع الاستعماري في
المنطقة الإسلامية.. لهذا كانت حماس عاملاً موحدًا وإطارًا جامعاً لكل الأحرار
بعيدًا عن أي اعتبارات اثنية ومذهبية في قضية ذات بُعدٍ حضاري وإنساني عام.
أما وقد حددت حماس الإسلام كمرجعية حضارية فإن ذلك لم يكن غير تأكيد
الهوية الفلسطينية التي يعتبر الإسلام كدين سماوي أساس في مكونها الثقافي العام،
وهو دين الأغلبية الساحقة لهذا الشعب، هذا من جانب, ومن جانب آخر جاء تحديد
الإسلام مرجعية حركية لدى المقاومة الوطنية؛ لدحض مزاعم الحركة الصهيونية التي
تستند على نصوص توراتية محرفة وروايات تلمودية مختلقة وروايات تاريخية مزورة في
تبرير قيام كيانهم المسخ على هذه الأرض الإسلامية العربية في بعدها التاريخي
والجغرافي والديني.
(4)
أما حقيقة ارتباط حركة حماس بفكر الإخوان المسلمين، فإن ذلك بادٍ في كل أدبياتها,
فهي لم تتنكر يوماً لكل من ساهم في مقارعة الاحتلال على هذه الأرض منذ طلائع الشيخ
السوري عز الدين القسام ومروراً بعبد القادر الحسيني وكتائبه الجهاد المقدس
وبكتائب الإخوان المسلمين, وقد شهدت لهم معارك صور باهر في القدس، وكفار دروم في
غزة، والتاريخ خير شاهد على الدور الرائد لمجاهدي الإخوان المسلمين على أرض فلسطين
في المعارك التي استمرت لأكثر من عام في مواجهة مشروع قيام الكيان المسخ على هذه
الأرض المباركة، بقيادة أحمد عبد العزيز الذي استشهد في مواجهة مع عصابات صهيون،
وقد ذكر المؤرخ كامل الشريف في كتابه جهاد الإخوان في فلسطين مشاهد من البطولة
والتضحية والفداء لا يمكن التنكر لها أو تجاوزها.
هذا من جانب, ومن جانب آخر فإن دعوة الإمام حسن البنا للعودة إلى الإسلام
كمرجعية حضارية لنهضة الأمة وتوحيد شعثها في مواجهة الموجات الإلحادية والإباحية
التي ضربت المنطقة الإسلامية من الشرق والغرب في آنٍ واحد، غير ما تحمله دعوة
البنا من الوسطية والاعتدال التي تلامس طبيعة شعبنا ذي الخلفيات الثقافية المتعددة
لاعتبارات جغرافية وتاريخية.
كل هذا جعل من جماعة الإخوان محل ترحيب في مكوننا الوطني، فإنه إلى عهد
قريب يستذكر آباؤنا الشُّعب الإخوانية التي أسهمت في تعليمهم الخير والإسهام فيه،
ودورهم في محو الأمية الدينية في قطاع غزة في الربع الثاني من القرن الميلادي
السابق.
وأكثر من ذلك, فإن الكثير من الحركات الوطنية التي يتشكل منها التيار
الوطني العام ولا سيما حركة فتح والتي تَرجع نشأتها إلى البنية الأولى التي ولدت
من رحم تلك الجماعة، وكذلك حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في غير مرة قد أعلنها
بوضح أمينها العام السيد رمضان شلح بأنها إخوانية المنشأ.. فالإخوان فكر وسطي
معتدل أصبح يشكل العقلية المجتمعية الكلية لشعبنا الفلسطيني لا يمكن تغافل ذلك أو
تجاوزه؛ فإنه وللحق لولا هذا الفكر المعتدل وقوته المتجذرة في عقليتنا لاجتاحتنا
قوى التطرف والجحود من كل جانب.
(5)
إذاً فلم تكن حماس كحركة تحرر وطني فلسطيني هي وحدها من تُقر بهذا الجميل
لدعوة الإخوان المسلمين في الإسهام الواضح في هيكلها الفكري، والامتداد لجهادهم
الأول على هذه الأرض التي ارتوت بدمائهم.
وإن كانت حماس هي الأبرز والأوضح في تَمثُّل ذلك النهج والاعتراف بهذا
الجميل، لكن كل هذا لم يخرجها عن النسيج الوطني الفلسطيني العام، بل يأتي ذلك
ليؤكد الأصول الحضارية لهذا الشعب وارتباطه بالأمة ارتباطاً عضوياً أيديولوجياً لا
يمكن الانفكاك عنه أو الانسلاخ منه.
المصدر: فلسطين أون لاين