خطة بديلة للقيادة الفلسطينية
بقلم: ماجد كيالي
ها هي القيادة الفلسطينية تجد نفسها مجدّداً، وبعد الانتخابات
الإسرائيلية، باقية مع إسرائيل أكثر يمينية وعنصرية، ومع ولاية رابعة لبنيامين
نتانياهو الذي أضاع حتى الآن تسعة أعوام من عمر التسوية، في غضون عقدين، في
ولاياته الثلاث (الأولى في 1996-1999 والثانية في 2009-2013 والثالثة في
2013-2015). وعن ذلك يقول المحلل الإسرائيلي المعروف يوئيل ماركوس: «بيبي
(نتانياهو) سيكون رئيس الحكومة نفسه، لكن أكثر سوءاً، وأكثر تعنتاً ضد أي تنازلات
من أجل السلام. الرجل لم يتغير، الرجل هو ذاته، القدرات هي القدرات ذاتها... ما لم
يفعله في ولاياته الثلاث السابقة لن يفعله هذه المرة». («هآرتس»، 21/3)
ومعلوم أن القيادة الفلسطينية كانت وضعت رهاناتها أخيراً على إمكان تغيير
السياسة الإسرائيلية بسقوط نتانياهو ومجيء قيادة بديلة، بدليل إرجاء تنفيذ قرارات
المجلس المركزي بشأن تحميل إسرائيل مسؤولياتها كدولة محتلة ووقف التنسيق الأمني
معها.
يستنتج من ذلك أنه لا يوجد لدى إسرائيل، وهي في هذه الأوضاع، أي جديد
تقدمه للفلسطينيين على صعيد عملية التسوية، بل إن ذلك يفيد بأنها ستواصل سياساتها
المتعلقة بتعزيز الاستيطان وتغيير الأوضاع في الضفة الغربية، بما يخدم تكريس
علاقات الاحتلال والتبعية والهيمنة، مع بقاء كيان السلطة، أو من دونه، بعدما بات
بمثابة كيان سياسي شكلي، تقتصر مهمته على ضبط أحوال الفلسطينيين تحت الاحتلال،
وإدارة علاقاتهم معه في النواحي المدنية والاقتصادية والأمنية.
بيد أننا لا نقصد هنا أن الأوضاع في ظل حكومات حزبي «العمل» و «كاديما»
كانت أفضل منها في عهد «ليكود» ونتانياهو، فهذه فكرة تنطوي على مخاتلة وتلاعب
سياسيين، لتبرير ما لا يمكن تبريره، إذ إن إطاحة فكرة التسوية، وتقويض اتفاق أوسلو
تما أساساً في ظل حكومة «العمل» التي ترأسها ايهود باراك (1999-2001)، وهي التي
أفضت بمواقفها وممارساتها إلى الانتفاضة الثانية. وهذا يشمل، أيضاً، حكومة
«كاديما» بزعامة إيهود أولمرت (2006-2009) التي لم تقدم شيئا عملياً، على صعيد
الانسحاب من الأراضي المحتلة، باستثناء قيامها بالانسحاب الأحادي من غزة، والذي
بدا أن الهدف منه ليس تحرير الفلسطينيين، وإنما لمجرد التخفف مما تعتبره إسرائيل
مخاطر ديموغرافية، وإتاحة المجال لانقسام السلطة، وفرض الحصار على حوالي مليوني
فلسطيني، وتحويل القطاع إلى مشكلة فلسطينية داخلية.
ليس الواقع الإسرائيلي هو الأمر الوحيد الذي تجد القيادة الفلسطينية
ذاتها في مواجهته، ذلك أن الوضع العربي لا يقل صعوبة وتعقيداً. صحيح أن ما كان
يسمى «محور المقاومة والممانعة» الذي كان يثقل أو يزايد على المسار الذي تنتهجه
هذه القيادة اختفى تقريباً، بعد انشغال النظام السوري بمحاربة شعبه، وانكشاف «حزب
الله»، واتضاح أطماع إيران الإقليمية، ومغادرة «حماس» له، إلا أن المحور المقابل
لم يبق على حاله، وهناك حال من انعدام اليقين بشأن أوضاع العالم العربي، على صعيدي
الحكومات والمجتمعات.
والمعنى أنه في ظل هذا الخراب الحاصل في المشرق العربي، من العراق إلى
لبنان مروراً بسورية، لا يمكن لأحد توقع تسوية منصفة، أو تضمن الحد الأدنى
للفلسطينيين، ناهيك عن أنه لا يمكن أصلاً لأحد توقع تنازل من إسرائيل في ظل هذه
الظروف.
حتى على الصعيد الدولي، فإن القيادة الفلسطينية لم تستطع أن تحصد شيئاً
عملياً من سلسلة الاعترافات المتفاوتة بالدولة الفلسطينية، فلم يفلح مجمل الضغوط
السياسية والمعنوية الدولية في إقناع إسرائيل أو إجبارها على تغيير سياساتها إزاء
الفلسطينيين. أولاً، لأنها لم تصل إلى الدرجة اللازمة لذلك. وثانياً، لأن الولايات
المتحدة هي التي تملك مفاتيح القرار في هذا الشأن. وكما هو معلوم فإن الإدارة الأميركية
على رغم كل التجاذبات بينها وبين حكومة نتانياهو، وهي جدية، لم تصل بعد إلى حد
الحسم في ما يتعلق بالضغط عليها لمصلحة الفلسطينيين. من كل ذلك يتبيّن أن مشكلة
القيادة الفلسطينية، أي قيادة المنظمة والسلطة و «فتح»، أنها إما لا تدرك هذه
المعطيات وأن العالم الذي قامت على أساسه عملية التسوية وكيان السلطة انتهى
تماماً، أو أنها تدرك ذلك لكنها تتجاهله أو لا ترغب بالعمل على أساسه لافتقادها
القدرة والإمكانات، ولاستهلاكها طاقتها الكفاحية.
بمعنى آخر فإن مشكلة هذه القيادة تكمن، على ما يبدو، في أنها لا ترغب في
التفكير إلا من داخل الصندوق المغلق الذي باتت حبيسة فيه، منذ توقيعها اتفاق أوسلو
(1993)، وأنها لا تحاول شيئاً لكسر جدران هذا الصندوق والتحرر منه، عدا التلويح،
أو التهديد، بالبحث عن خيارات أخرى، لا تلبث أن تتراجع عنها أو يطويها النسيان،
كما بينت السنوات الست الماضية.
القصد أن القيادة الفلسطينية معنية، بما تبقى لها من وقت، بإمعان التفكير
لإيجاد طرق عملية بديلة عن الطريق التي انتهجتها طوال المرحلة الماضية، والتي لم
تؤد إلا إلى انسداد افق التسوية، وانقسام كيان السلطة، وتآكل الإطارات الوطنية
الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل)، وتراجع مكانة قضية فلسطين في سلم الاهتمامات
العربية والدولية، بعد التحولات والاستقطابات الحاصلة.
من باب المقارنة، وفيما القيادة الفلسطينية ما زالت أسيرة نهجها
التفاوضي، لنلاحظ مثلاً أن الولايات المتحدة والدول الراعية لعملية السلام باتت
لها انشغالات عدة داخلية وإقليمية ودولية، وأن أولوياتها السياسية في المنطقة
تغيرت. أما من جهة إسرائيل، وهنا بيت القصيد، فيمكننا ببساطة ملاحظة أنها فعلت كل
شيء ليس فقط للتهرب من الالتزامات التي نصت عليها اتفاقات التسوية، وضمنها موعد
انتهاء المرحلة الانتقالية، ومسألة الانسحاب من غالبية الأراضي المحتلة (1967)، بل
إنها اشتغلت على تغيير قواعد اللعبة، بفرض وقائع جديدة في هذه الأراضي لا تحول دون
تمكين الفلسطينيين من تحقيق خيار الدولة الفلسطينية المستقلة فقط، وإنما تؤكد
هيمنة إسرائيل على هذه الأراضي وعلى حياة الفلسطينيين فيها. ولنلاحظ أيضاً أن
إسرائيل هذه لا تبالي بالضغوط الأميركية والأوروبية، ولا بالعواصف الهوجاء التي
تشتغل على تغيير المنطقة من صنعاء إلى لبنان مروراً بالعراق وسورية.
إزاء ذلك كله بات يمكن طرح التساؤل البدهي والتقليدي عن البديل في هذه
الظروف، والإجابة عليه بكل جرأة وصراحة وموضوعية بأن القيادة الفلسطينية وصلت إلى
نهاية طريقها منذ زمن، وأنها بعد الانتخابات الإسرائيلية، وبعد كل ما جرى
فلسطينياً وعربياً ودولياً، لم يعد لديها ما تفعله أو ما تضيفه. وهذا يعني،
تالياً، أن الأمانة التاريخية، على ضوء كل ما تقدم، تقتضي من هذه القيادة فتح مجال
التغيير السياسي في الواقع الفلسطيني، باعتبار ذلك يمكن أن يشكل آخر مساهمة وطنية
يمكن أن تقدمها للأجيال المقبلة، لأن بديل ذلك موات الحالة الوطنية الفلسطينية، أو
اندثارها في شكل أو آخر.
الفكرة هنا أنه طالما لا يمكن للفلسطينيين أن يفعلوا شيئاً في هذه الظروف
الصعبة والمعقدة إزاء إسرائيل، عدا الصمود، ورفض الخضوع لإملاءاتها، فإن هذه
القيادة معنية بإعادة ترتيب وتنظيم البيت الفلسطيني، أي المنظمة والسلطة والفصائل
ومختلف الإطارات الوطنية الجمعية، على أسس جديدة تأخذ في اعتبارها التطورات في
أحوال مجتمعات الفلسطينيين، وتغيرات الخريطة الفصائلية، وتأمين متطلبات استعادة
الحركة الوطنية لطابعها وأهليتها كحركة تحرر وطني.
وباختصار ففي هذه الظروف، وفي ظل هذه الفوضى وهذا الخراب في المشرق
العربي، لا يمكن تحقيق تسوية مع إسرائيل، لأنها إن حصلت، بطريقة أو بأخرى، فلن تكون
في مصلحة الفلسطينيين، كما لا يمكن التورط في حرب جديدة، أو الانجرار نحو ذلك، لأن
النتيجة ستكون وبالاً على الفلسطينيين، أكثر من أي فترة مضت.
وعليه، فالأجدى لهذه القيادة أن تغير سلم أولوياتها وخياراتها بعيداً من
المراهنات السياسية الخاسرة، بالتحول نحو الداخل، أي نحو بناء المجتمع الفلسطيني
وكياناته السياسية. وهذا يتطلب أول ما يتطلب إحداث تغيير سياسي على صعيد الخيارات
والبني وأشكال العمل.
فقط لنأمل انه ما زال ثمة وقت وإمكان للشروع في ذلك، ولنأمل قبلاً أن
تدرك القيادة الفلسطينية أهمية ذلك.
المصدر: الحياة