خطوط فلسطينية
في المشهد العبثي
بقلم: عدلي صادق
لا يزال كلٌ من فريقي السلطة،
في الضفة وغزة، يرى نفسه "القيادة الشرعية"، صاحبة الحق الافتراضي في تحديد
السياسات التي يتوجب على أبناء الشعب الفلسطيني أن يؤيدوها، وأن يماهوا بينها وبين
وطنيتهم، أو حتى بينها وبين الوطن نفسه.
فمنذ أن ابتلي الفلسطينيون
باتفاق أوسلو، صارت الشرعية الفلسطينية شرعيتين، وقعتا على أرض واحدة، في مناطق الحكم
الذاتي المحاصر، ولكل منهما وجهتها وأسبابها، ولأصحابها طموحاتهم وتمنياتهم. الأولى
هي الشرعية اللازمة لعملية بناء كيانيةٍ، بلا جغرافيا سياسية حقيقية، تتوخى المسؤولية
عن إدارة حياة سكان الضفة وغزة، فتُنشئ لهم شرطتهم التي تحفظ النظام، وقضاءهم ووزاراتهم،
وهذه شبيهة بالشرعية الدستورية. والأخرى تولت التعاطي مع الجزء الأكبر الفارغ من الكأس،
وكانت معنية بالمقاومة، انطلاقاً من حقيقة أن الأراضي لا تزال محتلة، والعدو لا يزال
معتدياً، وهذه شرعية سمّاها القانونيون "ثورية"، وجرى وصفها "شرعية
المقاومة" التي هي ظاهرة تاريخية، تقوم على حق الشعوب الرازحة تحت الاحتلال، في
مقاومة المحتل.
عندما وصلت "أوسلو"
إلى طريق مسدود، انفتح فسطاط الأكثرية التي استمدت شرعيتها من أوهام التسوية وذكرى
التاريخ الكفاحي، على فسطاط الأقلية التي قُمعت، في السنوات الأولى، من تطبيقات
"أوسلو". توحد الفسطاطان في سياق المقاومة. الأول، لكي يهز جدار الانسداد،
والثاني بحكم رؤيته وقناعاته أصلاً. أما العدو، فقد استهدف الطرفين بالقدر وبالقوة
نفسيهما، فكان يضرب مركز الأمن والشرطة، مع سيارات المقاومين ونقاط وجودهم. وعلى الرغم
من امتزاج الدم، لم يستطع الفريقان التوافق على استراتيجية عمل واحدة، وظلت شكايات
كل طرف مخبوءة في نفسه، وتنعكس في علاقاته مع الطرف الآخر، إلى أن خمدت الانتفاضة أو
أخمدت، وذهب الفريقان إلى الاحتكام للشعب بعد استشهاد ياسر عرفات.
ولأسباب عديدة، من أهمها
الترهل التنظيمي والفساد وآلام الناس من جرائم العدو، غلب فسطاط المقاومة التي لم تحكم،
وبالتالي، لم تُخطئ، وخسرت جماعة الحكم الذي أخطأ وأصاب. لكن غلبة الفريق الأول لم
تكن كافية للتمكين له، لأسباب منها خلو وفاضه من السياسة. وبالتالي، الرفض الإقليمي
والدولي لخطابه، وجزئية سيطرته الفعلية على الأرض، واقتصارها على غزة التي أخلاها المحتلون
وحاصروها. ووجد فريق المقاومة وحسب أن البرهنة على صدقية خطابه، لن تكون بغير الاستمرار
في الاشتباك مع العدو، بصرف النظر عن ميزان القوى وحتمية التعرض لنيران إغراقية. وعندما
وقع حدث الانقسام المأساوي، وباتت للأراضي المحتلة حكومتان وسلطتان، ظل فريق التسوية،
يكابد انسدادها، وأثبت كل حدث، وكل شوط للتفاوض، أن التسوية غير متاحة، إن لم تكن مستحيلة.
أما فريق المقاومة وحسب، فقد واجه الحقيقة الموضوعية، وهي أن الاشتباك مع العدو يجلب
تدميراً مؤكداً وخسارة جسيمة. وعندما ارتسم الانسدادان أمام التسوية والمقاومة؛ أصبح
لزاماً على الطرفين أن يتوافقا على استراتيجية عمل وطني واحدة ورصينة، ومحددة الأهداف
المرحلية، تأخذ كل المعطيات بالاعتبار، وتعزز ورقة السياسة، وعناصر صمود المجتمع وتنميته،
وتساعد على إنهاض روح المقاومة الشعبية، والثقافة الوطنية، وتبني النظام الرصين، على
أسس قانونية ودستورية، وتُعيد الاعتبار إلى إطار منظمة التحرير بإصلاح ديمقراطي.
غير أن الفريقين فشلا في
تحقيق هذه الأمنية الشعبية، واستهلكا الوقت في التهاجي وتبادل الاتهامات، وأساء كل
منهما، في الضفة وغزة، لسمعته كسلطة، ولا يزال كل منهما يراوح في مربع هذه النتيجة،
في المشهد الفلسطيني الذي بات عبثياً.
لا يزال الخطان يتباعدان،
بل نشأت خطوط منهما وفيهما، أكثرها علني وبعضها مستتر. فعلى صعيد منظمة التحرير والسلطة
ذات العلاقات والشرعية السياسية الدولية؛ بات الخط خطوطاً ضعيفة، يصعب تجميعها بتدابير
حصيفة ومتقنة، تجمع ما يمكن جمعه من الأطياف الفلسطينية، فما بالنا بتدابير ارتجالية
مطعون فيها من داخل الفسطاط نفسه، وتُكّرس غياب قوى كبيرة، ينبغي أن تكون حاضرة تضطلع
بواجباتها وتشارك في تحمل المسؤولية.
المصدر: العربي الجديد