دلالات التوقف.. مئوية وعد بلفور
ماجد الزير*
يتصدر المشهدَ الفلسطيني هذه الأيام -ضمن أبرز أحداثه-
توقفُ الفلسطينيين والصهاينة وداعمي الطرفين في العالم، وبطريقة لافتة على حد سواء؛
لإحياء ذكرى مرور مئة عام على إصدار"إعلان بلفور"، أو ما اُصطُلح -في الوعي
الجمعي الفلسطيني بل والعربي- على وصفه بـ"وعد بلفور".
وهو تلك الرسالة التي أرسلها وزير خارجية بريطانيا
آرثر بلفور -قبل قرن في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917- إلى زعيم الجالية اليهودية في
بريطانيا آنذاك المليونير "ليونيل روتشيلد"، والتي تضمنت تعهدا بريطانياً
بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
المتابع في الحدود الدنيا للشأن الفلسطيني والصهيوني
سيلحظ دون عناء ضخامةَ حضور الذكرى من خلال الأنشطة والفعاليات على جانبيْ الصراع،
لناحية تنوعها وغزارتها واتساعها عبر العالم، وكذلك اتخاذها لأساليب عديدة بين احتفالات
ومظاهرات واعتصامات ومؤتمرات وعرائض سياسية.
وكذلك طرْقها لمجالات منوعة سياسية ودبلوماسية وثقافية
واجتماعية وإعلامية وأكاديمية، وعلى مستويات عدة رسمية وحكومية وشبه رسمية برلمانية،
وعبر مؤسسات حقوقية وغير حكومية في مختلف القطاعات الشعبية.
ما نعتقده أن ذلك الإعلان اكتسب أهمية قصوى لمساهمته
بشكل صارخ في رسم المشهد السياسي والجغرافي والديموغرافي بفلسطين طوال العقود العشرة
الماضية، وما زالت الأطراف المعنية في تلك الحقبة نافذة ومؤثِّرة ومتأثِّرة بشكل مباشر
بمجرى الأحداث في فلسطين والمنطقة العربية وعلى الساحة الدولية، وهي مرشحة لأن تبقى
فترة طويلة في المستقبل.
فتلك الرسالة تعتبر الفعل السياسي الأبرز الذي بدأت
فيه الترجمة الحقيقية لزرع كيان إحلالي غريب على أرض فلسطين، تمت إقامته فعليا في
15 مايو/أيار 1948 فيما عُرف بـ"النكبة" وما نتج عنها من التهجير القسري
للفلسطينيين، وتشكّل موجات اللجوء التي استمرت على امتداد سبعة عقود حتى هذه اللحظة،
وهي الأطول والأكبر بين حالات اللجوء في العالم الحديث.
ولعل طرفيْ الصراع يشتركان في إحياء المئوية بدافع
إثبات الذات وإظهار كل منهما أحقيته بأرض فلسطين. وهذا العامل هو الأهم -من وجهة نظري-
في تفسير درجة الحرارة العالية في التسابق، وبطرق متضادة في المضمون ومتشابهة إلى حد
ما في الأساليب، وتلتقي في بعض الإحداثيات جغرافياً خاصة في المملكة المتحدة والقارة
الأوروبية.
إن أبرز ما في هذا التوقف من دلالات أنه يُرجع القضية
إلى جذورها وأصل نشأتها، ويعيد الاعتبار إلى نقاوة القضية من ناحية الأرض والإنسان
حيث كانت قبل مئة عام؛ فالشعب الفلسطيني المسالم ظل يعيش على أرضه منسجما مع ذاته تاريخا
وواقعا حتى جاءت تلك اللحظة بإصدار تلك الرسالة.
من هنا يأتي القلق الصهيوني من المئوية، وقد عبروا
عن ذلك بهستريا في ردهم على الحملة الشعبية التي قادها مركز العودة الفلسطيني في لندن
لطلب الاعتذار البريطاني عن "وعد بلفور"؛ فقد كتب وزير الخارجية البريطاني
بوريس جونسونمقالا تم نشره على الصفحة الرسمية للحكومة يوم الأحد الماضي (29 أكتوبر/تشرين
الأول) بعنوان: "رؤيتي للسلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والدولة الفلسطينية
الجديدة"، عبّر فيه عن فخر حكومته بإصدار وعد بلفور، وأن الاعتذار عنه من شأنه
-إن حصل- أن يؤدي للتشكيك في شرعية قيام الكيان الصهيوني وأصل نشأته.
وقد كان رد الفعل الصهيوني الأبرز على الحملة الشعبية
وخوفهم من العودة مئة سنة إلى الوراء؛ ما تضمنته كلمة المستشار السابق لرئيس وزراء
دولة الاحتلال ورئيس معهد القدس الصهيوني للشؤون العامة دوري غولد، حين افتتح مؤتمرا
مشتركا مع معهد كونراد عُقد في فندق أستوريا والدورف بالقدس المحتلة بتاريخ 28 فبراير/شباط
2017.
فقد علّق باستهجان وقلق على حملة طلب الاعتذار،
وشنّ هجوما شرسا كال فيه الاتهامات لمركز العودة الفلسطيني الذي دشن حملة كبيرة بتقديمه
عريضة في البرلماني البريطاني (نوفمبر/تشرين ثاني 2016) وترأست مسعى تقديمها البارونة
جيني تونغ، وعقّب غولد مفاخرا بأن رد الفعل
الذي صدر من رئاسة الوزراء البريطانية سيكون احتفالا ستقيمه الحكومة مع الجالية
اليهودية في بريطانيا احتفاءً بهذا الوعد.
وهذا -من وجهة نظرنا- ما دفع اللوبي الصهيوني باكرا
إلى الضغط على الحكومة البريطانية، بدءاً برئيس الوزراء السابق ديفد كاميرون ولاحقاً
برئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي، ليُظهرا مبالغة في التوقف عند الذكرى، لناحية الفخر
والاعتزاز بـ"الإنجاز" البريطاني.
ونقرر هنا أن صانعي السياسة في لندن ليسوا مجمعين
على إظهار الابتهاج البريطاني بإصدار "الوعد". والمتتبع لمسار التصريحات
الرسمية يرى أنها تراوحت بين التوقف عند الذكرى وإحياءها إلى الاحتفال بها. وكان التردد
واضحا على لسان أكثر من مسؤول.
وهي نتيجة حجم الضغط الحاصل من حكومة الاحتلال واللوبي
الصهيوني لصالح انتزاع نصر واضح لصالح دولة الاحتلال في مئوية الإعلان. وفي هذا ما
يعتبرونه ردا عمليا على حملة المطالبة بالاعتذار. وهذا ما عبّر عنه دوري غولد بوضوح
في مضمون كلمته التي ذكرناها آنفا.
وقد تماهت الحكومة البريطانية -بشكل قوي- مع المطالب
الصهيونية؛ فوجهت دعوة إلى رئيس وزراء حكومة دولة الاحتلالبنيامين نتنياهو للحضور إلى
لندن اليوم الخميس (2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري) "للاحتفال" بصدور الإعلان،
متجاهلة في ذات الوقت دعوات للاعتذار أطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية
العامة للأمم المتحدةعام 2016، وأعاد تأكيدها في ذات القاعة 2017 وثالثة خلال افتتاح
القمة العربية 2017.
وبالتوازي مع ذلك؛ تبدو مظاهر التحدي في الاحتفالات
التي ستقيمها الجالية اليهودية والمناصرين لها ببريطانيا في أماكن حساسة ومركزية من
لندن، كقاعة "ألبرت هول" الأشهر بين مثيلاتها في الجزر البريطانية، حيث سيقام
حفل مركزي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
كما اكتسبت الذكرى المئوية أهمية على المستوى الفلسطيني
بتبني العديد من الفعاليات الشعبية، تصدرها مركز العودة بإقامة فعاليات مركزية أبرزها
مؤتمر تم عقده بلندن في يناير/كانون الثاني 2013 تحت عنوان "إرث بريطانيا في فلسطين"،
شارك فيه نخبة من السياسيين والأكاديميين والمهتمين بالشأن الفلسطيني.
وتم خلال المؤتمر استعراض تجارب اعتذارات بريطانية
سابقة لشعوب عانت من استعمارها مثل قبائل "الماو ماو" في كينيا، وكذلك تجربة
اعتذار أستراليا للسكان الأصليين هناك. وقد صدرت أوراق المؤتمر في كتاب مؤخرا. وتزامن
مع ذلك حملة عالمية لمطالبة بريطانيا بالاعتذار، خصصت لها مساحات على منصات التواصل
الاجتماعي والشبكة العنكبوتية.
وكان للتحضير المبكر أثر في تنبّه العديد من الفعاليات
والمؤسسات الشعبية لأهمية التوقف عند الذكرى، ودخلت هذه الفعاليات طور النفاذية عندما
أخذت شكلا تنسيقيا على المستوى العالمي، حيث بادرالمؤتمر الشعبي لفلسطينيّي الخارج
بأخذ زمام المبادرة بإطلاقه حملة واسعة، وتبنى فيما تبناه مطالبة بريطانيا بالاعتذار.
وتقدم المؤتمر بخطوة نعتبرها ذكية حين اعتمد في
حملته الوسم الرسمي للحملة الصهيونية على منصات التواصل الاجتماعي ليكون الوسم الرسمي
لحملته الفلسطينية، وبهذا ضمن وضع الرواية الفلسطينية الرسمية في عمق الحدث الدولي،
ولم يترك الرواية الصهيونية وحدها هي الطاغية والمنتشرة.
وهنا نشير إلى أن المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج
-الذي أعلن عن نفسه في اجتماع حاشد بإسطنبول منتصف فبراير/شباط 2017 في مؤتمر حضره
ما يربو على ستة آلاف مشارك- بتصدره لإحياء مئوية وعد بلفور؛ ضمِن لمطالب الشعب الفلسطيني
بهذا الشأن اختراقا لمساحات عالمية، خاصة مع اتساع عضويته من فلسطينيي الخارج لتتعدى
أكثر من عشرة آلاف شخص منتشرين في أكثر من 60 دولة بالقارات الخمس.
ويقود المؤتمرُ حملةً واسعة للتغريد عبر منصات التواصل
لأجل الحق الفلسطيني، ستصل ذروتَها يوم حلول ذكرى "وعد بلفور" (اليوم الخميس).
وقد أعلن أيضا عن إقامته لمؤتمر مشترك في مدينة بيروت يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري
حول هذا الإعلان.
ولا بد من الإشارة إلى أن إنجازا فلسطينيا إستراتيجياً
نوعيا قد تحقق، فقد أضحت فعاليات مئوية بلفور محضنا تعليميا للأجيال الفلسطينية الجديدة
في أنحاء العالم، وتم التعريف بأبجديات القضية وأصل نشأتها، بل وتعدى ذلك إلى كل من
هو مهتم بالحق الفلسطيني في العالم.
وخيراً فعل مركز العودة بإنتاجه لفيلم قصير باللغة
الإنجليزية جسد فيه بطريقة درامية ملابسات وعد بلفور وإعلانه، وحكاية الشعب الفلسطيني
وحال اللجوء والمخيمات، وقد تمت ترجمته إلى أكثر من 17 لغة عالمية، وهو متوفر للمشاهدة
في موقع وقناة المركز على اليوتيوب.
وقد رصدنا عدة مؤتمرات أكاديمية تعريفية في أماكن
مختلفة من العالم ربطت نفسها بالمئوية، نذكر منها عقد مؤتمرين من جهتين مختلفتين داعمتين
للحق الفلسطيني في لندن خلال أكتوبر/تشرين أول من هذا العام في نفس اليوم، للتحدث عن
الحق الفلسطيني في مئوية إعلان بلفور.
ومن زاوية أخرى؛ فإن تنوع الفعاليات والأنشطة والضغط
السياسي أخذ أشكالا متقدمة من إقامة اعتصامات أمام السفارات البريطانية في العوصم الأوروبية،
بتنسيق من مؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي يعقد سنويا وبانتظام منذ أكثر من 15 عاما. وقد
عقد مؤتمره الأخير -الذي عقده في مدينة روتردام الهولندية خلال شهر نيسان/أبريل الماضي-
تحت شعار "مئة عام: ننتصر لا ننكسر".
وقد أعطى الإعلام الفضائي -الذي ربط نفسه بفلسطين
واهتم بالشأن الفلسطيني بالتوازي مع أدوات التواصل الاجتماعي وسهولة التعاطي معها-
بُعداً مهماً وقيمة مضافة، جعلت التفاعل مع المئوية في بُعدها الفلسطيني نوعيا وضخما.
وهذا ساهم بشكل فاعل في خدمة أهداف الحملة.
وخدمت الحملة مبدأً مهماً في وحدة القضية والشعب
الفلسطيني، حيث انصهر الجميع في بوتقة واحدة عبر إحياء المئوية بدءاً من فلسطينيي الداخل
سواء في الضفة وقطاع غزة وأراضي 48 وكذلك في الخارج، منسجمين في التصدى للحملة الصهيوينة،
وتعالوا على الحساسيات السياسية الداخلية والاختلافات الحزبية.
ونضرب نموذجا باللجنة التنسيقية الموسعة التي انبثقت
بين المؤسسات الفلسطينية والعربية في برلين، والتي أقامت عدة أنشطة وفعاليات مجتمعة.
وكذا الحال فعل فلسطينيو لبنان والمخيمات، وكذلك الهيئات العاملة لفلسطين في الأردن
الذي يحوي مخيمات فلسطينية. ولا ننسى أنشطة الفلسطينيين في أطراف العالم الأميركيتين
وأستراليا.
وحسبما تشير إليه الإعلانات المختلفة؛ فإن الأنشطة
مستمرة طوال هذا العام من طرفيْ الصراع. ولعل أبرز الأنشطة الفلسطينية مظاهرة حاشدة
تتصدرها حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني البريطانية الواسعة الانتشار، بالتعاون والتنسيق
مع عشرات المؤسسات المحلية، أبرزها مؤسسة أصدقاء الأقصى والمنتدى الفلسطيني في بريطانيا؛
ستجوب شوارع لندن في يوم السبت القادم (7 نوفمير/تشرين الثاني الجاري)، ويتوقع أن تكون
غير مسبوقة وسيحضرها متضامنون من مختلف العواصم الأوروبية.
نخلص بالقول إن دلالات إحياء مئوية وعد بلفور تشير
إلى أنه رغم استطاعة الصهاينة تحقيق قيام دولة غاصبة على أرض فلسطين، وبدعم من قوى
دولية في مقدمتها بريطانيا؛ فإنه في المقابل -ورغم مرور قرن على هذا الوعد- فشل هذا
المشروع في كسر شوكة الشعب الفلسطيني.
وما زال الشعب بكل قواه في الداخل والخارج متمسكا
بكل حقوقه ومطالبا بإستعادتها، بل ويعمل على ذلك بكافة الوسائل الممكنة والمتاحة. واستشرافاً
للمستقبل؛ فإن السير الفلسطيني بوتيرة عالية من التصعيد والتنوع والنفاذية في الأداء
يبشر بحتمية استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المغتصبة.
* ناشط ومتخصص في شؤون اللاجئين الفلسطينيين
المصدر : الجزيرة